(الصفحة 214)
فتشملهم الآية الدالّة على نجاستهم كقوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ـ إلى قوله سبحانه ـ وما اُمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون)(1).
وفيه: انّ قوله تعالى: (سبحانه عمّا يشركون) قد وقع عقيب قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما اُمروا)الآية والمراد من اتخاذهم أرباباً ليس ما هو ظاهره لعدم قولهم بإلوهيتهم لما روى عن الثعلبي عن عدي بن حاتم في حديث قال: انتهيت إليه ـ يعني إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)ـ وهو يقرأ سورة البراءة هذه الآية: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم الآية حتّى فرغ منها فقلت له: لسنا نعبدهم؟ فقال: أليس يحرِّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم. فانّ المستفاد من الرواية انّ إطلاق المشرك على النصارى انّما كان بنحو من العناية والتسامح لا بنحو الحقيقة فانّ تبعيتهم في التحليل والتحريم لا تكون عبادتهم حقيقة فلا يتحقّق الشرك في العبادة كذلك. ومن المعلوم انّ المراد من المشركين في الآية الكريمة ـ التي هي محلّ البحث ـ هو المشركون بالمعنى الحقيقي فلا تشمل الآية من يطلق عليه المشرك مجازاً ومسامحة.
مع انّ النصارى ـ على ما يستفاد من الآيات الواردة فيهم ـ طوائف مختلفة، قال الله تعالى مخاطباً لعيسى: (ءأنت قلت للناس اتخذوني واُمّي من دون الله)(2)وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة)(3) وقال: (لقد كفر الذين
- 1 ـ البراءة : 31 .
2 ـ المائدة : 116 .
3 ـ المائدة : 73 .
(الصفحة 215)
قالوا انّ الله هو المسيح بن مريم)(1) وغير ذلك من الآيات الواردة فيهم ولا يمكن لنا إثبات الشرك لجميع طوائفهم ولا إثباته أيضاً لليهود مطلقاً وإن كان اليهود والنصارى بأجمعهم كفّاراً قاتلهم الله أنّى يؤفكون.
مضافاً إلى انّ محطّ النظر في آية (انّما المشركون نجس) انّما هو المشركون في ذلك العصر لا اليهود والنصارى وبعبارة اُخرى: عنوان «المشرك» في الآية عنوان مشير إلى المشركين المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله) الواقعين في مقابل اليهود والنصارى وإن كان الحكم ثابتاً لمن كان مشركاً اصطلاحياً ولو لم يكن في ذلك العصر.
أضف إلى ذلك كلّه انّ توجّه اليهود والنصارى وقربهم إلى المسجد الحرام والكعبة المعظّمة ودخولهم فيهما غير معلوم بل مظنون العدم وعليه فلا وجه لشمول الآية لهم لأنّها مسوقة لبيان حكم المشركين الذين كانوا يتوجّهون إلى المسجد الحرام كما هو مقتضى قوله تعالى: (فلا يقربوا المسجد الحرام).
وقد انقدح من جميع ذلك انّ الآية الكريمة الدالّة على نجاسة المشركين لا تشمل اليهود والنصارى بما هم كذلك، نعم يشمل المشركين منهم في إحدى الجهات المتقدّمة.
هذا بالنظر إلى الآية الكريمة.
وامّا بالنظر إلى أقوال علمائنا الإمامية ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ فلم يقل بطهارة أهل الكتاب منهم إلاّ القليل، والنجاسة هي المشهورة بين المتقدّمين والمتأخّرين بل لعلّها تعدّ من الاُمور الواضحة عندهم حتّى ألحقها بعضهم بالبديهيات، وقال بعضهم إنّ نجاسة الكفّار بأجمعهم من شعار الشيعة أو من
(الصفحة 216)
متفرّدات الإمامية.
نعم قد نسب إلى جمع من الأصحاب كابن الجنيد وابن أبي عقيل والشيخ والمفيد ـ من المتقدّمين ـ ، وصاحب المدارك والمحدِّث الكاشاني ـ من المتأخّرين ـ القول بطهارة أهل الكتاب، وفي النسبة نظر:
امّا ابن الجنيد فلم يعلم منه ذلك والعبارة المنقولة عنه غير ظاهرة في المخالفة للمشهور.
وامّا ابن أبي عقيل فانّه قد خصّص عدم النجاسة باسئارهم ولعل نظره إلى عدم انفعال الماء القليل وعدم تأثّره بالملاقاة كما هو اعتقاده فيه.
وامّا ما نسب إلى نهاية الشيخ (قدس سره) ففي غير محلّه قطعاً قال فيها: «ولا تجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم، ولا استعمال آنيتهم إلاّ بعد غسلها بالماء وكلّ طعام تولاّه بعض الكفّار بأيديهم وباشروه بنفوسهم لم يجز أكله لأنّهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إيّاه إلى أن قال: ويكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل منه وان دعاه فليأمر بغسل يديه».
وهذا الكلام كما ترى أوّله صريح في نجاسة الكفّار على اختلاف مللهم، وامّا آخره فانّه وإن كان موهماً للخلاف إلاّ انّه لابدّ من التأويل والحمل على الطعام اليابس كالّتمر والخبز ونحوهما والأمر بغسل اليد لدفع القذارة العرفيّة فتأمّل.
وامّا المفيد (قدس سره) فانّه قال: تكره الاستفادة عن سؤر اليهود والنصارى. ولعلّه أراد بالكراهة معناها اللغوي الذي يلائم مع الحرمة أيضاً هو الاستقذار.
وامّا صاحب المدارك فلا يستفاد من مداركه هذا القول أصلاً.
وامّا المحدِّث الكاشاني فمخالفته مع المشهور في «المفاتيح» غير معلومة بل الوحيد البهبهاني (قدس سره) قال في شرح المفاتيح: إنّ نجاسة أهل الكتاب من شعار الشيعة
(الصفحة 217)
وامتيازاتهم، نعم يظهر ذلك عن كتاب «الوافي» له فانّه بعد ذكر الأخبار الواردة في الباب قال ـ على ما حكى عنه ـ : «وقد مضى في باب طهارة الماء خبر في جواز الشرب من كوز شرب منه اليهودي، والتطهير من مسّهم ممّا لا ينبغي تركه» وفيه إشعار على رجحان التطهير منه لا اللزوم والوجوب.
وامّا الأخبار الواردة فما يمكن أن يستدلّ به على النجاسة منها تكون على طوائف:
الطائفة الاُولى: ما ورد في النهي عن مصافحتهم والأمر بغسل اليد إن صافحهم وهي كثيرة:
منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل صافح رجلاً مجوسيّاً، فقال: يغسل يده ولا يتوضّأ. فإنّ الظاهر انّ الأمر بغسل اليد انّما هو لأجل سراية النجاسة الحاصلة بالمصافحة.
وفيه: انّه لا محيص من التصرّف في الرواية امّا بإضافة قيد الرطوبة في المصافحة أي صافح رجلاً مجوسياً مع الرطوبة ـ أي رطوبة يده أو يد المجوسي ـ ضرورة انّ المصافحة مع المجوسي مع عدم رطوبة اليد لا توجب النجاسة وإن كان المجوسي نجساً، وامّا بحمل الأمر بغسل اليد على الاستحباب، أي استحباب غسل اليد بعد المصافحة معه مطلقاً ـ سواء كانت المصافحة مع الرطوبة أو بدونها ـ فلابدّ من التصرّف بأحد الوجهين ولا ترجيح لأحدهما على الآخر لو لم نقل بكون الترجيح مع التصرّف في الأمر بالغسل لكون استعمال الأمر وما بمعناه في الندب شائعاً في لسان الأئمّة (عليهم السلام) مع انّ تقييد الأمر بالغسل وتخصيصه بالمصافحة المشتملة على الرطوبة تقييد بالفرد النادر لندرة المصافحة مع رطوبة اليد وقلّتها بالإضافة إلى غيرها.
(الصفحة 218)
وبالجملة الظاهر دلالة الرواية على استحباب غسل اليد بعد المصافحة مع المجوسي مطلقاً لإظهار التنفّر والانزجار عنهم ولأنّ الشارع لا يرضى بالمحبّة والمودّة معهم التي يشعر بها المصافحة بين المسلم وغيره، مع انّ مقتضى خواص المصافحة وآثارها التي منها شمول رحمة الله للمتصافحين ووقوع يد الله تبارك وتعالى في يديهما أو مع أيديهما، اختصاصها بالمؤمنين وكونها من خواص الاخوّة في الدين فلا يشمل مصافحة المؤمن والكافرين كما يظهر ذلك لمن تتبّع الروايات الواردة في المصافحة وتأمّل فيها، فإذا اتّفقت المصافحة مع غير الأخ في الدين فليغسل يده استحباباً تنفّراً منهم وانزجاراً عمّا يعتقدونه.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة، وارقد معه على فراش واحد، واُصافحه؟ قال: لا.
وهذه الرواية أيضاً كسابقتها لا تدلّ على نجاستهم لأنّ الرقود معهم على فراش واحد والمصافحة معهم لا يوجب نجاسة المسلم وإن كان المجوسي نجساً لأنّه يعتبر في التأثّر السراية التي لا تتحقّق بدون الرطوبة ولم يفرض وجودها في الرواية، والنهي عن المؤاكلة معهم في قصعة واحدة أيضاً لا دلالة له على النجاسة لأنّه يمكن أن يكون الطعام يابساً فالنهي عن المؤاكلة معهم والرقود في فراش واحد والمصافحة معهم انّما هو لأجل ترك المحابّة والموادّة معهم لا لأجل النجاسة كيف والنجاسة لا تقتضي النهي بوجه لأنّ غايتها السراية وهي ترتفع بالغسل فلا موجب للتحريم بل ولا الكراهة فتدبّر جيّداً.
ومنها: صحيحته الاُخرى عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس، ولا يصلّى في ثيابهما، وقال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ولا يقعده على فراشه ولا مسجده، ولا