(الصفحة 226)
من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على انّه يهودي؟ فقال: نعم، فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم. والظاهر انّ المراد بقوله «على انّه يهودي» انّه على فرض كون الرجل يهودياً. وأنت خبير بأنّ هذه الرواية أيضاً ممّا تدلّ على الطهارة وتكون قرينة على انّ السؤال في الروايات السابقة انّما كان عن السؤر بما سؤر وامّا في هذه الرواية فالسؤال عن النجاسة والطهارة اللّتين لهما دخالة في باب الوضوء والجواب حاكم بالطهارة.
الطائفة الخامسة: ما ورد في الابتلاء بهم في الحمّام:
كموثّقة عبدالله بن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت فهو شرّهم فانّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وانّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه.
وهذه الرواية وإن كانت ظاهرة في النجاسة حيث عطف الناصب فيها على أهل الكتاب مع التصريح بأنّ الناصب أنجس من الكلب إلاّ انّه من الممكن أن تكون مسوقة لبيان الكراهة والشاهد عليه ما ورد في حديث آخر من قوله (عليه السلام): «لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام فانّه يغتسل فيه من الزنا أو يغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم».
فانّ غسالة المغتسل من الزنا وكذا غسالة ولد الزنا لا تكونان نجستين ومع ذلك قد نهى في هذه الرواية عن الاغتسال من غسالة الحمّام لوجودهما فيها فيظهر انّ عطف الناصب عليهما ليس لأجل النجاسة هذا مع انّ تخصيص النهي بالاغتسال والتحذير في الموثقة عن خصوصه لا مطلق التقلّب فيها والتطهير بها لا يلائم مع كون المنظور هي النجاسة كما لا يخفى.
(الصفحة 227)
ويشهد لما قلنا أيضاً رواية محمد بن علي بن جعفر (عليه السلام) عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)في حديث قال: من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنَّ إلاّ نفسه، فقلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّ أهل المدينة يقولون: إنّ فيه شفاء من العين فقال: كذبوا يغتسل فيه المجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرّهما، وكل من خلق الله ثمّ يكون فيه شفاء من العين. فانّه من الواضح عدم كون النجاسة محطّاً للنظر فيها لعدم نجاسة الزاني وكذا الجنب من الحرام ـ على ما يأتي ـ .
أضف إلى ذلك كلّه انّ الغسالة المجتمعة في الحمّام لابدّ وأن يكون أكثر من الكرّ ـ كما هو كذلك عادةً ـ إذ لو كانت أقلّ منه تصير نجسة بمجرّد ورود غسالة المسلم الذي ينجس بدنه فيها كما هو الغالب في الواردين في الحمّام ولم يقع التعرّض لذلك فيها، ومن الواضح انّ الكرّ لا ينفعل بورود غسالة اليهودي والنصراني فيه ولو كانت نجسة فمن ذلك يظهر انّ مثل هذه الروايات الواردة في الغسالة لا تكون ناظرة إلى حيثية الطهارة والنجاسة أصلاً.
ومن جملة روايات الطائفة الخامسة صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام؟ قال: إذا علم انّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام إلاّ أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل، وسألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلاّ أن يضطرّ إليه.
والظاهر منها ابتداء وإن كان هو نجاستهم لأمر الإمام (عليه السلام) بغسل الحوض الذي قد اغتسل فيه النصراني، إلاّ انّك قد عرفت سابقاً في مباحث ماء الحمّام انّه معتصم لا يكاد ينفعل بالملاقاة وإن لم يكن متّصلاً بالمخزن الذي يشتمل على أزيد من الكرّ نوعاً فلابدّ من حمل هذه الرواية على النهي عن الاغتسال بماء قد اغتسل فيه
(الصفحة 228)
النصراني والنهي عن الاغتسال أعمّ من كونه نجساً، ويرشدك إلى ما قلنا قوله (عليه السلام)في ذيل الرواية: «إلاّ أن يضطرّ إليه» فانّه على تقدير النجاسة لا فرق بين حالة الاضطرار وغيرها بل استثناء هذه الحالة من شواهد الطهارة كما هو غير خفيّ على أهل الدراية.
وقد استدلّ على طهارة أهل الكتاب بوجهين:
الأوّل: قوله تعالى: (اليوم أحلَّ لكم الطيّبات، وطعام الذين اُوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم)(1) بتقريب انّ الظاهر من «الطعام» ما يكون مطبوخاً، وحلّية ما يكون مطبوخاً بيد الكتابي تستلزم طهارته لأنّه لو كان نجساً يصير الطعام متنجّساً أيضاً فلا يمكن أن يكون حلالاً.
وفيه أوّلاً انّ الطعام ليس بمعنى المطبوخ لا لغةً ولا اصطلاحاً في الحجاز بل يكون بمعنى خصوص الحنطة ـ على قول اللغويين ـ وقد يطلق على الأعمّ منها ومن الشعير، وقد يطلق على مطلق الحبوبات، وعلى ذلك فلا تستلزم طهارة الطعام طهارة صاحبه لكونه جافّاً لا ينجس بمجرّد الملاقاة فيصير المعنى انّ اشتراء الطعام والتصرّف فيه من الذين اُوتوا الكتاب حلال للمسلمين.
ويؤيّده قوله تعالى: (وطعامكم حلٌّ لهم) إذ لو كان المراد بيان الحلّية من جهة عدم النجاسة يشكل الأمر في هذا القول لعدم اعتقاد أحد من أهل الكتاب نجاسة المسلم، وعدم ترتّب أثر عليه مع فرض اعتقادهم ذلك بخلاف ما لو كان المراد ما ذكرنا فانّ معنى هذا القول ـ حينئذ ـ انّ بيع الطعام من الذين اُوتوا الكتاب حلال فتدبّر.
(الصفحة 229)
وثانياً: لو كان المراد من الطعام ما يكون مطبوخاً وكانت الآية مسوقة لبيان حلّيته ـ مطلقاً ـ فلابدّ من الالتزام بدلالة الآية على حلّية طعامهم حتّى فيما إذا كان بعض موادّه حراماً كالميتة ولحم الخنزير، إذ ليست الحلّية من جهة الطباخ أولى منها من جهة المادّة بالنظر إلى الآية الكريمة على هذا التقدير مع انّه ممّا لا يمكن أن يتفوّه به فلا محيص عن حمل الآية على ما ذكرنا بعد كونه موافقاً لمعنى الطعام على ما عرفت.
إن قلت: لو كان كذلك فما وجه تخصيص أهل الكتاب بذلك فإنّ طعام المشركين والحنطة المرتبطة بهم أيضاً حلال.
قلت: وجه التخصيص أحد أمرين امّا وقوع السؤال عن خصوصهم كما في قوله تعالى: (يسألونك ماذا اُحلَّ لهم)(1) وامّا كونهم محلّ الابتلاء للمسلمين فإنّ الآية قد نزلت في أواخر عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة وقد كان المسلمون في ذلك العصر معاشرين لأهل الكتاب ولم يكن للمشركين عدّة وعدّة أصلاً.
وبالجملة قوله تعالى: (اليوم اُحلَّ لكم الطيّبات) مسوق لبيان حلّية الطيّبات بما هي طيّبات، وقوله تعالى: (وطعام الذين اُوتوا الكتاب حلٌّ لكم)مسوق لبيان حلية طعامهم بما هو طعامهم وإنّ مالكه أهل الكتاب، كما انّ قوله تعالى: (وطعامكم حلٌّ لكم) مفاده حلّية طعام المسلمين لهم بالنقل إليهم.
وبهذا يظهر الخلل فيما أفاده الفاضل المقداد صاحب كنز العرفان ـ وهو أوّل كتاب قد اُلِّف في آيات الأحكام ـ من انّ قوله تعالى: (وطعام الذين اُوتوا الكتاب حلٌّ لكم) ذكر الخاص بعد العام ولابدّ له من نكتة لا نفهمها. فانّك عرفت عدم
(الصفحة 230)
كونه من هذا الباب وثبوت المغايرة بين الأمرين.
وقد ذهب العامّة إلى انّ «الطعام» في الآية بمعنى الذبيحة وتبعهم في ذلك بعض أصحابنا الإمامية، وعليه فيمكن الاستدلال بها على حلّية ذبيحة أهل الكتاب.
ولكن يرد عليهم انّ الطعام لا يكون بمعنى الذبيحة لا لغةً ولا اصطلاحاً، مع انّه لو كان بمعنى الذبيحة لا يترتّب على قوله تعالى: (وطعامكم حلٌّ لهم) أثر. فانقدح انّ الآية أجنبية عن الدلالة على طهارة أهل الكتاب أو حلّية ذبائحهم.
الوجه الثاني: دلالة كثير من الروايات على طهارتهم وقد تقدّمت جملة منها كصحيحة عيص بن القاسم المشتملة على قوله (عليه السلام) : «إذا كان من طعامك وتوضّأ فلا بأس» ورواية زكريا بن إبراهيم المشتملة على قوله (عليه السلام) : «كُلْ معهم واشرب» وصحيحة إسماعيل بن جابر التي فيها هذه العبارة الشريفة: «ولا تتركه تقول انّه حرام» وغيرها من الروايات التي يمكن الاستشهاد بها على الطهارة.
وامّا ما لم يتقدّم فمنها ما ورد في جواز تزويج الكتابية استدامة أو متعة وجواز كون المرضعة كتابية، وجواز تغسيل الذمّي الميّت المسلم مع عدم المسلم أو عدم إقدامه على التغسيل أو عدم إمكانه له.
ومنها: صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (عليه السلام) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم انّها نصرانية لا تتوضّأ ولا تغتسل من الجنابة؟ قال: لا بأس تغسل يديها. وهذه صريحة في عدم نجاستها ذاتاً لأنّها لو كانت نجسة بالنجاسة الذاتية لما كان غسل اليدين رافعاً لها بل موجباً لسرايتها بل يظهر من الرواية انّ عدم النجاسة الذاتية كان مفروغاً عنه عند السائل لأنّ الشبهة العارضة له انّما كانت من جهة عدم التوضّي والاغتسال من الجنابة. والظاهر انّ المراد ليس هو الوضوء والغسل بل نفس استعمال الماء لإزالة خبث البول والغائط والمني.