(الصفحة 231)
ومنها: صحيحته الاُخرى: قال: قلت للرضا (عليه السلام) : الخيّاط أو القصّار يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم انّه يبول ولا يتوضّأ؟ قال: لا بأس.
وهذه الرواية وإن أمكن حملها بالإضافة إلى خصوص الخيّاط على صورة عدم العلم بالملاقاة رطباً إلاّ انّها بالنسبة إلى القصّار لامجال لهذا الحمل فيها لأنّه يغسل الثوب بيده فنفي البأس يستفاد منه طهارته وعدم تنجّس الثوب بقصارته الملازمة للملاقاة مع الرطوبة.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا انّ الروايات التي استدلّ بها على النجاسة لا يمكن الاستناد بها عليها لعدم تماميتها من حيث الدلالة وانّ أخبار الطهارة ظاهرة الدلالة فلا وجه لتوهّم المعارضة بينهما ولكن صاحب الحدائق (قدس سره) حيث اعتقد ثبوت المعارضة بينهما ولزوم الرجوع إلى الأخبار العلاجية في الباب قال: «إنّ أخبار الطهارة مخالفة للكتاب لقوله ـ عزّ من قائل ـ : (انّما المشركون نجس)وموافقة للعامّة فانّهم صرّحوا بطهارة الآدمي مطلقاً، وأخبار النجاسة موافقة للكتاب ومخالفة للعامّة وقد بيّن في محلّه انّ موافقة الكتاب ومخالفة العامّة من المرجّحات، وقد ورد في رواياتنا الأمر بأخذ ما يخالف مذهب المخالفين من المتعارضين، ومقتضى ذلك الأخذ بما دلّ على نجاسة أهل الكتاب وحمل أخبار الطهارة على التقية».
وقد تعجّب من صاحب المدارك (قدس سره) واعترض عليه اعتراضاً شديداً وقال: إنّ قاعدة حمل الظاهر على النص ممّا أحدثوه بعقولهم ولا دليل عليه من كتاب أو سنّة وهي جرأة واضحة لذوي الألباب، إلى أن قال: ما هذا إلاّ عجب عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب.
وقال سيّدنا العلاّمة الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في «رسالة النجاسات» بعد ذكر
(الصفحة 232)
أخبار الباب التي استدلّ بها على النجاسة «فتحصّل من جميع ذلك انّ لا دليل على نجاسة أهل الكتاب ولا الملحدين ما عدى المشركين بل مقتضى الأصل طهارتهم بل قامت الأدلّة على طهارة الطائفة الاُولى، إلى أن قال: فالمسألة مع هذه الحال التي نراها لا ينبغي وقوع خطأ عمّن له قدم في الصناعة فيها فضلاً عن أكابر أصحاب الفن ومهرة الصناعة فكيف بجميع طبقاتهم، ومن ذلك يعلم انّ المسألة معروفة بينهم من الأوّل وأخذ كل طائفة من سابقتها وهكذا إلى عصر الأئمّة (عليهم السلام)والتمسّك بالأدلّة أحياناً ليس لابتناء الفتوى عليها. ولقد أجاد العَلَم المحقّق صاحب الجواهر ـ قدّس الله نفسه ـ حيث قال: فتطويل البحث في المقام تضييع للأيّام في غير ما أعدّها له الملك العلاّم، وتعريض بعض الأجلّة عليه وقع في غير محلّه».
ويمكن أن يوجّه الحكم بالنجاسة مع الأخبار المتعارضة التي عرفتها بوجه ثالث، وهو انّ روايات الطهارة وإن كانت تامّة من حيث السند والدلالة إلاّ انّ إعراض المشهور عنها يوجب سقوطها عن الاعتبار والحجّية، فإنّ الإعراض موجب للسقوط فيما إذا لم يكن هناك معارض ففي المقام الذي يكون المعارض موجوداً يوجب السقوط بطريق أولى فالترجيح لا محالة مع أخبار النجاسة هذا غاية ما يمكن أن يقال تأييداً لهذا القول الموافق للمشهور كما عرفت.
والتحقيق إنّ شيئاً من الوجوه الثلاثة التي قد ذكرت لترجيح أخبار النجاسة لا يكون تامّاً:
امّا ما أفاده صاحب الحدائق (قدس سره) فيرد عليه أوّلاً انّه قد فرض في كلامه ثبوت المعارضة بين الروايات الواردة في الباب وتمامية دلالة بعضها على النجاسة وبعضها على الطهارة مع انّك عرفت عدم تمامية شيء من أخبار النجاسة من حيث الدلالة والتعارض انّما يكون بعد تمامية دلالة الخبرين المتعارضين فلا وجه
(الصفحة 233)
للرجوع إلى الأخبار العلاجية.
وثانياً: إنّ أخبار النجاسة ـ على فرض الدلالة ـ تكون ظاهرة فيها بخلاف أخبار الطهارة فانّها لو لم تكن نصّاً فيها فلا أقلّ من أن تكون أظهر في مفادها من أخبار النجاسة، وتقديم النص أو الأظهر على الظاهر ـ مع انّه ممّا اتفق عليه عند العقلاء والعرف الذين هم الملاك في فهم المرادات من الألفاظ والروايات ـ انّما تكون واردة على طبق هذه القاعدة ومثلها ممّا لا محيص عنه ولولاه يكون قولك: «رأيت أسداً يرمي» مجملاً من حيث المراد لأنّ لفظة «يرمي» ظاهرة باعتبار كون الرمي رمي السهم المتحقّق باليد في الرجل الشجاع، و«الأسد» ظاهر في الحيوان المفترس غاية الأمر انّ الدلالة الاُولى أظهر من الثانية ولأجل تقدّم عليها فلا وجه لإنكار القاعدة ونفيها وإلاّ يلزم سدّ باب المحاورات وإفادة المرادات في كثير من المقامات فتدبّر.
نعم لو تحقّق التعارض المتوقّف على أصل الدلالة واتحاد مرتبتها لكان تقديم أخبار النجاسة لأجل الموافقة للشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجّحات ـ على ما قرّر في محلّه ـ لا لأجل كون أخبار الطهارة مخالفة للكتاب مضافاً إلى ما عرفت من عدم دلالة الكتاب على نجاسة غير المشركين ولم يثبت انّ أهل الكتاب بأجمعهم يكونون مشركين، نعم مثل القائل بالأقانيم الثلاثة أو ثبوت الابن لله تعالى وتصرّفه في عالم الوجود مستقلاًّ يكون مشركاً.
وامّا ما أفاده سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ من استظهار عدم استناد الأصحاب في الفتوى بالنجاسة إلى اخبارها لعدم تمامية دلالتها على ذلك ففيه:
أوّلاً: انّا إذا راجعنا كلمات الأصحاب لا نرى انّ أحداً منهم تفوّه بأن المسألة لا تحتاج إلى إقامة الدليل على النجاسة فيها بل نرى استنادهم فيها إلى الأخبار جدّاً
(الصفحة 234)
والنقض والإبرام فيها أو إلى الآية الكريمة مع ضميمة دعوى توسعة المشركين بحيث يعمّ أهل الكتاب أيضاً بل صرّح في الحدائق بأنّ المشهور قد أعرضوا عن أخبار الطهارة واستندوا إلى أخبار النجاسة ولو كان الحكم مسلماً لم يكن حاجة إلى الاستناد إلى هذه الأخبار كما هو ظاهر.
وثانياً: لو كانت نجاستهم ممّا لا تحتاج إلى الدليل فلابدّ وإن كانت واضحة عند أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) مع عدم وضوحها عندهم بل وضوح خلافه والدليل عليه سؤالات الأصحاب عنهم (عليهم السلام) بنحو يكشف عن ارتكاز الطهارة الذاتية عندهم وإنّ منشأ السؤال هو عروض النجاسة لعدم المبالاة بالنجاسة وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير ولا بأس بإيراد بعضها ـ مضافاً إلى ما تقدّم ـ فنقول:
منها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) ـ عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث (أجناب خ ل) وهم يشربون الخمر، ونسائهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها واُصلّي فيها؟ قال: نعم.
ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان قال: سأل أبي أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر: إنّي اُعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم انّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اُصلّي فيه؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فانّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن انّه نجّسه.
ومنها: ما رواه في الاحتجاج عن محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري انّه كتب إلى صاحب الزمان ـ عج ـ عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ولا يغتسلون من الجنابة وينجّسون لنا ثياباً فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل؟ فكتب إليه في الجواب: لا بأس بالصلاة فيها.
(الصفحة 235)
ومنها: ما رواه الصدوق باسناده عن أبي جميلة عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه واُصلّي فيه؟ قال: نعم، قلت: يشربون الخمر؟! قال: نعم نحن نشتري الثياب السابرية فنلبسها ولا نغسلها.
وأنت ترى انّ الظاهر من هذه الروايات ومثلها ممّا تقدّم من الروايات السابقة وما لم يتقدّم انّ المرتكز في أذهان أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) من الصدر الأوّل إلى زمان الغيبة هي الطهارة وما أوجب ذهاب أصحابنا الإمامية من الفقهاء المتأخّرين عن ذلك العصر إلى النجاسة هو الروايات الواردة الظاهرة باعتقادهم في النجاسة وقد عرفت انّه بعد إمعان النظر فيها لا دلالة لها على النجاسة فكيف تكون النجاسة مسلمة مأخوذة من الأئمّة (عليهم السلام) بحيث لم تكن قابلة للمناقشة ولا تكون حاجة إلى الاستدلال عليها أصلاً.
وامّا حديث إعراض المشهور عن الروايات الدالّة على الطهارة فلو سلّم لكان مقتضاه سقوطها عن الاعتبار والحجّية وقد بيّنا انّ أخبار النجاسة لا دلالة لها عليها فتصبح المسألة فاقدة للدليل على أحد الطرفين فلا محيص عن الرجوع إلى قاعدة الطهارة بعد عدم وجود الدليل في البين.
مع انّ إعراض المشهور عن روايات الطهارة لو أوجب الكشف عن وجود خلل فيها فامّا أن يكون كاشفاً قطعياً عن ذلك وامّا أن يكشف بالكشف الظنّي؟
لو كان الأوّل فلا بحث فيه لأنّ القطع حجّة من أي طريق حصل والقاطع مجبول على ابتاع قطعه ولكنّه لم يحصل هذا القطع لنا بعد.
ولو كان الثاني فنقول: الخلل المكشوف بالاعراض بالكشف الظنّي امّا أن يكون من حيث أصل الصدور وامّا أن يكون من حيث جهة الصدور وامّا أن يكون من جهة الدلالة وامّا أن يكون من جهة الابتلاء بالمعارض الأقوى؟