(الصفحة 236)
امّا من حيث أصل الصدور فوجود الامارة الظنّية التي لم يقم دليل على اعتبارها على ما هو المفروض لا يمنع عن شمول أدلّة حجّية خبر الواحد لعدم ابتناء حجّيته على عدم حصول الظنّ الشخصي على الخلاف وعدم اشتراط اعتباره بذلك وبالجملة الامارة الظنّية غير المعتبرة لا تزاحم دليل الحجّية بوجه.
وامّا من حيث جهة الصدور فلا يمكن رفع اليد عن ظهور كلام المتكلِّم في كونه مسوقاً لبيان الحكم الواقعي وحمل الروايات على كونها صادرة تقية لأنّ التقية امّا أن تكون في مقام بيان الإمام (عليه السلام) وحكمه بجواز معاملة الطهارة مع أهل الكتاب لكون آراء أهل السنّة متوافقة على عدم نجاسة الآدمي ـ خلافاً للكتاب المصرّح بنجاسة المشركين ـ وامّا أن تكون في مقام العمل بأن يكون مرادهم (عليهم السلام)معاملة السائلين وغيرهم من الشيعة معاملة الطهارة مع أهل الكتاب حفظاً لنفوسهم وتحفّظاً لهم وكلاهما بعيدان في الغاية:
امّا التقية في مقام البيان وإفادة الحكم فلأنّه من البعيد أن يكون بحضرتهم في جميع مجالسهم التي صدرت فيها أخبار الطهارة من كانوا يتّقون عنه خصوصاً مع صدور بعضها عن الناحية المقدّسة كمكاتبة الحميري المتقدّمة.
وامّا التقية في مقام العمل حفظاً لنفوس الشيعة عن المهلكة ففيه انّه كيف يمكن أن يأمر الإمام (عليه السلام) بمعاملة الطهارة معهم ولا يأمرهم بغسل أيديهم وألبستهم بعد الرجوع إلى منازلهم وزوال موضوع التقية خصوصاً مع ملاحظة ما للنجاسة من الآثار والأحكام الوضعية الكثيرة.
والحاصل: انّ مجرّد الامارة الظنّية غير المعتبرة لا تقاوم اصالة الصدور لا للتقية ونحوها التي هي من الاُصول العقلائية وعليها المدار في باب الألفاظ وكشف المرادات الواقعية منها.
(الصفحة 237)
وامّا من حيث الدلالة بأن كان إعراض المشهور موجباً لثبوت الوهن في أخبار الطهارة من حيث الدلالة ففيه:
أوّلاً: انّ الدلالة في بعضها قطعية لا مجال للخدشة فيها واحتمال الخلاف أصلاً كما عرفت.
وثانياً: انّها على فرض كون الدلالة في جميعها غير متجاوزة عن مرتبة الظهور نقول: إنّ أصالة الظهور تكفي في حجّية الظهور بعد كونها من الاُصول العقلائية المعتبرة وعدم اشتراط اعتبارها بعدم حصول الظنّ الشخصي على الخلاف فالأمارة الظنّية غير المعتبرة ـ على تقدير وجودها ـ لا تنهض في مقابل أصالة الظهور أصلاً.
وامّا من حيث احتمال وجود معارض أقوى فهل ذلك المعارض اخبار لم تصل إلينا ومفادها النجاسة أو هو الأخبار التي استدلّ بها عليها ممّا قد تقدّمت؟
امّا الأوّل فلا أكثر من الظنّ بذلك ولم يقم دليل على اعتباره ـ كما هو المفروض ـ وامّا الثاني فقد عرفت عدم دلالتها على النجاسة أولاً وعدم كونها في الظهور بمثابة يمكن أن تتعارض مع أخبار الطهارة ثانياً.
فقد انقدح انّ إعراض المشهور عن روايات الطهارة ـ على تقدير ـ لا يوجب خللاً فيها من حيث الصدور ولا من حيث جهة الصدور ولا وهناً فيها من حيث الدلالة أو الابتلاء بالمعارض الأقوى فمقتضى القواعد المحكمة والروايات المعتبرة طهارة أهل الكتاب والشهرة الفتوائية وإن كانت متحقّقة على خلاف ما قلنا إلاّ انّها ليست بحجّة شرعية والإجماع المنقول أيضاً كذلك والمحصل منه ـ على تقديره ـ لا يكون كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) لأنّه يحتمل قويّاً بل الظاهر انّ مستند المجمعين هي أخبار النجاسة التي عرفت حالها.
(الصفحة 238)
وهذه الشهرة صارت مانعة لبعض المحقّقين عن الفتوى الصريح بالطهارة وأوجبت الالتزام بالجمع بين الأدلّة بطريق آخر حيث قال في «مصباحه»: «إنّ الحقّ انّ المسألة في غاية الإشكال ولو قيل بنجاستهم بالذات والعفو عنها لدى عموم الابتلاء أو شدّة الحاجة إلى معاشرتهم ومساورتهم أو معاشرة من يعاشرهم كما يؤيّدة أدلّة نفي الحرج ويشهد له صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة الدالّة على جواز الوضوء بما باشره اليهودي والنصراني لدى الضرورة والمنع منه في غيرها لم يكن بعيداً عمّا يقتضيه الجمع بين الأدلّة، وقد التزم بذلك صاحب الحدائق (قدس سره) في العامة حيث قال بنجاستهم والعفو عنها لدى عموم الابتلاء بهم لمكان الحرج والله تعالى عالم بحقائق أحكامه».
وأنت خبير بأنّ هذا الجمع ممّا لا مانع منه لو كانت أخبار النجاسة تامّة دلالة وقد عرفت عدم تماميتها.
ثمّ إنّه لو بنينا على نجاسة أهل الكتاب بمقتضى الأدلّة المتقدّمة فغير خفي انّ تلك الأدلّة تختص باليهود والنصارى والمجوس ويحتاج الحكم بالنجاسة في بقيّة أصناف الكفّار كمنكر الضروري من المسلمين إلى دليل وهو مفقود. وامّا المرتدّ فإن صدق عليه أحد عناوين أهل الكتاب فهو محكوم بحكمه كما إذا ارتدّ بتهوّده أو تنصّره أو تمجّسه، وامّا إذا لم يصدق عليه شيء من تلك العناوين فهو وإن كان كافراً ـ كما سيجيء في البحث عن معنى الكافر ـ إلاّ انّ الحكم بنجاسة ما لم يكن مشركاً مشمولاً للآية الكريمة مشكل جدّاً.
وقد يستدلّ على نجاسة بقيّة أصناف الكفّار بالأولوية بدعوى انّ أهل الكتاب لو كانوا محكومين بالنجاسة مع اعتقادهم لأصل التوحيد والنبوّة العامة فمن ينكر أصل وجود الصانع أو التوحيد أو النبوّة فهو نجس بطريق أولى.
(الصفحة 239)
ولا يخفى انّ هذه الأولوية مسلمة بالإضافة إلى بعض أصناف الكفّار كالمذكورين في مقام الاستدلال وامّا بالنسبة إلى البعض الآخر كالمرتدّ غير المشرك أو منكر الضروري من المسلمين فلا مجال لها وعليه فتعميم الحكم بالنحو المذكور في المتن مشكل ولو التزمنا بنجاسة الذمّي أيضاً.
المقام الثالث: في معنى الكافر والمراد منه وقد صرّح في المتن بأنّه من انتحل غير الإسلام أو جحد ما يعلم من الدين ضرورة بحيث يرجع جحده إلى إنكار الرسالة أو تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) أو تنقيص الشريعة أو صدر منه ما يقتضي كفره من قول أو فعل والظاهر انّ المراد من القسم الأخير هو صدور القول أو الفعل بمجرّده وإن لم يعلم بكونهما ناشيين عن الاعتقاد كما انّ المراد بالأوّلين هو الاعتقاد في الانتحال أو الجحد وهذا انّما يبتني على عدم كون الكفر أمراً اعتقادياً محضاً بل قد يكون بالقول أو الفعل لكن أخذ «الكفر» في تعريف الكافر وبيان المراد منه ـ مع انّه أخذ الشيء في تعريفه ـ ربّما يشعر بخلاف ما ذكر فتدبّر.
والتحقيق في هذا المقام انّ «الكفر» عنوان في مقابل عنوان «الإسلام» فمن لا يكون مسلماً يكون كافراً لا محالة سواء كان منكراً لوجود الصانع تعالى أو لم يتوجّه إليه أصلاً أو توجّه وكان شاكّاً في وجوده ـ والدليل على نجاسة هؤلاء الآية الكريمة الدالّة على نجاسة المشركين لأنّه لو كان المشرك المعتقد بأصل وجوده تعالى نجساً فمن كان منكراً له أو غير متوجّه إلى أصل وجوده حتّى يعتقده نفياً أو إثباتاً، أو شاكّاً فيه بعد التوجّه والالتفات يكون نجساً بطريق أولى ـ أو كان منكراً لنبوّة نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان معتقداً بالنبوّة العامّة، أو جعل شريكاً لله تعالى في الذات أو في تدبير العالم وإدارته أو في مقام العبادة فالمشرك على ثلاثة أقسام: الأوّل: المشرك بحسب الذات القائل بتعدّد واجب الوجود وعدم كون الوجوب ملازماً للوحدة
(الصفحة 240)
وعدم قيام دليل عليها. الثاني: المشرك في الأفعال وهو الذي جعلشريكاً له تعالى في الأفعال وتدبير العالم. الثالث: المشرك في مقام العبادة كالمشركين المعاصرين لزمان البعثة ونزول الوحي.
ولابدّ في توضيح معنى الشرك في العبادة من بيان معنى العبادة وأقسامها فنقول: إنّها قد تطلق على مجرّد الإطاعة والتبعية كقوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان)(1) وقد تطلق على الخضوع والتذلّل كقوله تعالى حكاية: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)(2) أي خاضعون ذليلون وهذان المعنيان غير المعنى الذي تكون العبادة منصرفة إليه عند الإطلاق وتستعمل فيه بنحو الشيوع، والمعنى الشائع المنصرف إليه هو التخضّع في مقابل المعبود بعنوان الإلوهية وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى في مقام التعليم: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)(3) الظاهر في الانحصار به تعالى والمشركون في عصر الإسلام كانوا يعبدون الأصنام ويجعلونها آلهة ويتوهّمون انّ الإنسان لا يمكن له أن يتقرّب بنفسه إلى الله الخالق للسماوات والأرض الوحيد في ذاته وفعله وانّ الأصنام قادرة على أن يشفعوا لهم عند الله ويقرّبهم إلى الله زلفى. ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ كلمة التوحيد الموجبة للفلاح والخروج عن ظلمة الشرك إنّما تكون ناظرة إلى التوحيد في العبادة وانّ المراد بالأدلّة المنفي فيها هو الصالح للعبودية لشيوع الشرك في العبادة في ذلك العصر.
لا يقال: إنّ ما يعتقده الشيعة الإمامية بالإضافة إلى أئمّتهم (عليهم السلام) من كونهم شفعاء
- 1 ـ يس : 60 .
2 ـ المؤمنون: 47 .
3 ـ الفاتحة : 5 .