(الصفحة 118)
المسألة التي كانت ضرورية عند سائر الفرق ، وكان اعتقادهم أنّ ذلك مأثوراً من النبي(صلى الله عليه وآله) وأنّ عمله(صلى الله عليه وآله) أيضاً كذلك .
ودعوى أنّه لو كان عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على وفق ما يقول به الامامية ـ كما هو معتقدنا ـ فكيف يمكن أن يختفي على جميع المسلمين إلى زمان صدور أخبار الحمرة ، مدفوعة بأنّ المسلمين في الصدر الأوّل لم يكونوا متوجّهين إلى خصوصيّات أفعاله(صلى الله عليه وآله) ، ولا مهتمّين بضبطها حتّى لا يشتبه الأمر على من بعدهم ، لكونهم حديثي العهد بالإسلام ، مضافاً إلى أنّهم كانوا قليلين ، والاختلاف بين المسلمين في الأحكام إنّما حدث بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وحينئذ توجّه أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى أنّه فات منهم ما فات ، وأنّهم لم يستفيدوا من صحبته(صلى الله عليه وآله) إلاّ قليلا .
وبالجملة : لا منافاة بين كون عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) على طبق ما يقول به الإمامية ، وبين اختفاء ذلك على المسلمين ، لعدم اهتمامهم بضبط خصوصيّات أفعاله(صلى الله عليه وآله) ; فلاينبغي الارتياب بملاحظة ما ذكرنا في أنّ الترجيح إنّما هو مع أخبار الحمرة . وقد تحصل مما ذكرنا عدم المنافاة بين الطائفتين من الأخبار أوّلا ، ولزوم الأخذ بأخبار الحمرة ثانياً .
واعلم أنّه بعد استتار القرص عن الأنظار تكون الحمرة المشرقية متّصلة بالاُفق حسّاً ، وترتفع تدريجاً من الاُفق ويسوّد الاُفق ، وإذا انتهى ارتفاعها يصير لونها ضعيفاً ، ويبلغ إلى حدّ لا ترى العين حمرة أصلا ، وحينئذ توجد مقارنة لزوالها حمرة ضعيفة في جانب المغرب فوق الاُفق ، وتنخفض تدريجاً مع الاشتداد إلى أن تغيب عن النظر بالكلّية ، وأمّا حركة الحمرة بالتدريج من المشرق إلى أن تبلغ قمّة الرأس ، وتميل إلى جانب المغرب كذلك ، فليس ممّا يصدقه الحسّ والوجدان ، وحينئذ فيشكل الأخذ بمرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة(1) ، الظاهرة في حركتها من
- (1) الكافي 3 : 279 ح4 ; الوسائل 4 : 173 . أبواب المواقيت ب16 ح4 .
(الصفحة 119)
المشرق إلى المغرب تدريجاً ، ويمكن حملها على ما ذكرنا من كون المراد زوال الحمرة في ناحية المشرق ، وحدوثها في ناحية المغرب ، وحينئذ فلا يستفاد منها أمر وراء سائر الروايات .
نعم هنا كلام يجري في جميع الروايات ، وهو أنّ المراد بغيبوبة الحمرة ، أو زوالها ، أو تغيّرها ، أو ذهابها على اختلاف التعبيرات الواقعة في الروايات ، هل هو ارتفاعها عن الحدّ المتصل بالاُفق وانفصالها عنه ، فتكون العبرة بمجرّد انفصالها؟ أو أنّ المراد زوالها من ناحية المشرق بالكلّية ، بحيث لو نظر الناظر إلى تلك الناحية لم ير فيها حمرة أصلا؟ وجهان ، الظاهر هو الوجه الثاني ، لأنّ المتبادر من تلك التعبيرات ، والمنسبق إلى أذهان العرف ، إنّما هو هذا الوجه كما لا يخفى .
ثم إنّه ربّما يجمع بين الطائفتين من الأخبار المتقدّمة بوجه آخر ، وهو أنّ المراد بزوال الحمرة هو الوجه الأول من هذين الوجهين الأخيرين ، وهو انفصالها عن الاُفق ولو بقدر أصابع ، وإن لم يصل إلى قمّة الرأس فضلا عن التجاوز عنها ، ومن المعلوم أنّ زوال الحمرة بهذا المعنى مقارن لاستتار القرص عن النظر .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما ذكرنا من أنّ المراد بزوال الحمرة هو زوالها بالكلية ، بحيث لا يرى الناظر في ناحية المشرق حمرة أصلا ، كما يشهد بذلك التعبير عنه في مرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة ، بتجاوزها قمّة الرأس ـ أنّه لو كان المراد من أخبار الحمرة هو ما يدلّ عليه أخبار الاستتار ـ وبعبارة اُخرى كان فتوى الأئمّة(عليهم السلام)موافقاً لسائر الفرق ، ولم يكن بينهما مخالفة في هذه الجهة أصلا ـ لما كان وجه لإلقاء هذه الكلمة الموهمة للخلاف بين شيعتهم ، خصوصاً مع كون غرضهم مراعاة الاتحاد ، وعدم الاختلاف مهما أمكن ، كما هو واضح ، فهذا الجمع ممّا لا سبيل إليه أصلا .
وقد يجمع أيضاً بين الأخبار كما عن بعض الأعاظم(1) بحمل أخبار الحمرة
- (1) كتاب الصلاة لآية الله الحائري (رحمه الله) : 14 .
(الصفحة 120)
على الاستحباب والفضيلة ، ولكن يرد عليه أنّ هذا تصرّف في ظواهر تلك الأخبار ، من غير أن يدلّ عليه دليل .
والانصاف أنّه لا سبيل إلى الجمع بغير ما ذكرناه ، ومقتضاه أنّ الاعتبار بذهاب الحمرة وعلى تقدير عدم إمكان الجمع لا مجال للارتياب في ترجيح أخبار الحمرة ، ويؤيّده الشهرة المحقّقة بين الفقهاء على ذلك .
ثمّ إنّه حكي عن المحقّق الوحيد البهبهاني(قدس سره)(1) انّه استدل على عدم اشتراط ذهاب الحمرة ، وأنّ الاعتبار إنّما هو بالاستتار بأنّه لو اعتبرت الحمرة المشرقية من حيث دلالتها على تحقّق الغروب ، لاعتبرت الحمرة المغربية من حيث دلالتها على الطلوع بالنسبة إلى صلاة الصبح ، وحينئذ يلزم أن يكون الإتيان بصلاة الصبح بعد ظهور الحمرة في ناحية المغرب ، وقبل ظهور القرص من ناحية المشرق إتياناً بها في غير وقتها ، مع أنّ المعلوم خلاف ذلك ، للاتفاق على وقوعها في وقتها لو أتى بها في ذلك الوقت .
وأجاب عنه في الجواهر(2) بوجوه أربعة :
الأوّل : انّه قد التزم بذلك بالنسبة إلى الطلوع ، بعض الأصحاب كالشهيد الثاني في المقاصد العلية ، وصاحب كشف اللثام(3) ، ويدلّ عليه رواية دعائم الإسلام عن الصادق(عليه السلام) : «إنّ آخر الوقت أن يحمر اُفق المغرب»(4) ; وكذلك عبارة فقه الرضا(عليه السلام)حيث قال : «آخر وقت الفجر أن تبدو الحمرة في اُفق المغرب»(5) .
- (1) مفتاح الكرامة 2 : 25 ; جواهر الكلام 7 : 119 .
- (2) جواهر الكلام 7 : 119 و 120 .
- (3) المقاصد العلّية : 102 ; كشف اللثام 3 : 51 .
- (4) دعائم الاسلام 1 : 139 ; بحار الأنوار 80 : 74 .
- (5) فقه الرضا (عليه السلام) : 74 .
(الصفحة 121)
الثاني : إمكان الفرق بين الحمرتين خصوصاً بعد قوله(عليه السلام) ـ في بعض الروايات المتقدّمة ـ : لأنّ المشرق مطلّ على المغرب»(1) ، أي مشرف عليه . فإنّ ظاهره إشراف المشرق وارتفاعه بالنسبة إليه . وحينئذ فظهور الحمرة في جانب المغرب لا يدلّ على طلوع الشمس ، بخلاف زوالها في ناحية المشرق ، فإنّه يدلّ على الغروب .
الثالث : إنّ هذا اجتهاد في مقابل النص ، فلعلّ الشارع اعتبر ذلك في الغروب دون الطلوع ، ويؤيّده عدم تعرّض الأصحاب له ، وهو ظاهر بل صريح في عدم اعتباره فيه .
الرابع : إن هذا قياس مع الفارق ، إذ وقت المغرب مسبوق بوقت صلاة العصر ، واستصحاب بقاء اليوم ما لم يتيقّن بدخول وقت المغرب يقتضي ببقائه ما لم تزل الحمرة ، وهذا بخلاف صلاة الفجر ، فإنّ استصحاب بقاء وقته يقتضي عدم انقطاعه إلاّ بيقين على الخلاف ، وهو لا يحصل إلاّ بظهور قرص الشمس ، وبعبارة اُخرى ، ذهاب الحمرة المشرقية علامة على تيقّن الغروب الذي هو المعيار في صحّة صلاة المغرب ، وانقطاع استصحاب عدمه ، بخلاف الحمرة المغربية ، فإنّ أقصاها حصول الشك بذلك ، وهو لا ينقض اليقين بالوقت .
واستشكل في الجواهر(2) على الوجه الأخير بأنّ هذا الجواب جيد لولا ظهور النصوص والفتاوى بخلافه ، فإنّ ظاهرها كون زوال الحمرة علامة للغروب نفسه لا لتيقّنه.
هذا ، ولكن ذلك مناقشة لفظية ولا يوجب قدحاً في الجواب ، لوضوح أنّ المراد ليس جعل ذلك علامة لليقين بل المراد جعله علامة لنفس الغروب ، والتعبير
- (1) الوسائل 4 : 173 . أبواب المواقيت ب16 ح3 .
- (2) جواهر الكلام 7 : 120 .
(الصفحة 122)
باليقين كما في الرياض(1) من جهة أن تحقق العلامة يوجب حصول اليقين .
ويمكن تقريب هذا الوجه وتوضيحه بأن يقال : إنّ الاعتبار في صلاة المغرب وإن كان بالغروب ، وفي آخر وقت صلاة الصبح بالطلوع ، ولكنّه لمّا كان العلم بتحقّقهما غالباً غير ميسّر ، مضافاً إلى كون عدمها مورداً للاستصحاب ، فلا محالة حكم الشارع في ناحية صلاة المغرب ، بلزوم تأخيرها إلى أن تزول الحمرة المشرقية ، تحفّظاً لها عن الوقوع في غير الوقت ، من دون دليل وحجّة على دخوله ، وحكم في ناحية صلاة الصبح بجواز الإتيان بها إلى طلوع الشمس ، من جهة دلالة الأصل العقلائي ، وهو الاستصحاب على بقائه .
وبالجملة : فقد حكم الشارع في الطرفين على طبق الأصل العقلائي بالحكم الواقعي لا أنّه أمر بالعمل بالاستصحاب ، بل لاحظ في حكمه الواقعي الاستصحاب العقلائي وحكم على طبقه ، فتدبّر .
ثم انّه يمكن أن يفرّق بين المقامين بوجه آخر ، بأن يقال : إنّه بعدما ثبت في مقام الاثبات أنّ العبرة في ناحية المغرب بزوال الحمرة ، وفي ناحية صلاة الصبح بطلوع الشمس ، يمكن أن يكون الوجه في ذلك أنّ صلاة المغرب من الصلوات الليلية بمعنى أنّ الاعتبار في طرف المغرب إنّما هو بدخول الليل ، لا بتحقّق الغروب ، والتعبير بالغروب كما في الأخبار إنّما هو لملاحظة ما عليه المسلمون غير الامامية ، ولا يكون ذلك مضرّاً بالمطلوب بعدتفسيره بماينطبق على دخول الليل، ومن المعلوم أنّ دخول الليل لا يتحقّق إلاّ بغيبوبة الشمس ، مع جميع توابعها التي آخرها الحمرة المشرقية .
وهذا بخلاف صلاة الفجر ، فإنّها من الصلوات اليومية ، ولا يقدح فيها ظهور
- (1) رياض المسائل 3 : 68 .