(الصفحة 113)
ومنها : رواية ربيع بن سليمان وأبان بن أرقم وغيرهما قالوا : أقبلنا من مكّة حتّى إذا كنّا بوادي الأخضر إذا نحن برجل يصلّي ونحن ننظر إلى شعاع الشمس ، فوجدنا في أنفسنا ، فجعل يصلّي ونحن ندعو عليه ونقول : هذا من شباب أهل المدينة ، فلمّا آتيناه إذا هو أبو عبدالله جعفر بن محمّد(عليهما السلام) ، فنزلنا فصلّينا معه وقد فاتتنا ركعة ، فلمّا قضينا الصلاة قمنا إليه فقلنا له : جعلنا فداك هذه الساعة تصلّي؟! فقال(عليه السلام) : إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت(1) . وغير ذلك من الأخبار الظاهرة في تحقّق الغروب بمجرّد استتار القرص عن الأنظار .
وأمّا الطائفة الثانية من الأخبار ، الدالّة على المذهب المشهور أو الأشهر بين الامامية ، فهي أيضاً كثيرة .
منها : رواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «إذا غابت الحمرة من هذا الجانب ـ يعني من المشرق ـ فقد غابت الشمس من شرق الأرض وغربها»(2) . وذكر هذه الرواية في الوسائل في ثلاثة مواضع من باب واحد(3) وظاهره كونها ثلاث روايات مع وضوح أنّها ليست إلاّ رواية واحدة ، ثمّ إنّ الرواية وإن لم يكن فيها ذكر من الصلاة فضلا عن خصوص المغرب إلاّ أنّ الظاهر كونها بصدد بيان ما به يتحقّق الغروب الذي يترتّب عليه أحكام كثيرة في الشرع ، كجواز الافطار عند تحقّقه وجواز الدخول في صلاة المغرب ، وغيرهما من الأحكام المترتبة عليه .
والظاهر أيضاً أنّ المراد بمشرق الأرض ومغربها ، هو مجموع الأرض التي تكون بحسب الحسّ متساوية السطح لأرض المصلّي ; وحينئذ فيستفاد من الرواية
- (1) أمالي الصدوق : 75 ح16 ; الوسائل 4 : 180 . أبواب المواقيت ب16 ح23 .
- (2) الكافي 3 : 278 ح2 و ج4 : 100 ح2 ; التهذيب 2 : 29 ح84 ; الاستبصار 1 : 265 ح956 ; الوسائل 4 : 172 . أبواب المواقيت ب16 ح1 .
- (3) الوسائل 4 : 175 ، 176 . أبواب المواقيت ب16 ح7 و 11 .
(الصفحة 114)
أن الاعتبار إنّما هو بغيبوبة الشمس عن جميع الأرض المتساوية السطح لأرض المصلّي ، بحيث لا يراها أحد من ساكني تلك الأرض ، لا بغيبوبتها عن نظر المصلّي فقط .
ومنها : ما رواه عليّ بن أحمد بن أشيم عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : سمعته يقول : «وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق ، وتدري كيف ذلك؟ قلت : لا . قال : لأنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا ـ ورفع يمينه فوق يساره ـ فإذا غابت هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا»(1) .
ومنها : مرسلة ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «وقت سقوط القرص ووجوب الافطار من الصيام أن تقوم بحذاء القبلة ، وتتفقد الحمرة التي ترتفع من المشرق ، فإذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الافطار وسقط القرص»(2) .
ومنها : ما رواه الصدوق باسناده عن بكر بن محمّد ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) إنّه سأله سائل عن وقت المغرب؟ فقال : «إنّ الله يقول في كتابه لإبراهيم :
{فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربّى}(3) فهذا أوّل الوقت ، وآخر ذلك غيبوبة الشفق ، وأوّل وقت العشاء الآخرة ذهاب الحمرة ، وآخر وقتها إلى غسق الليل يعني نصف الليل»(4) .
ومنها : رواية شهاب بن عبد ربّه قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) «يا شهاب! إنّي
- (1) الكافي 3:278 ح1 ; علل الشرائع : 349 ب60 ح1 ; التهذيب 2:29 ح83 ; الإستبصار 1:265 ح959 ; الوسائل 4:173 . أبواب المواقيت ب16 ح3 .
- (2) الكافي 3:279 ح4 وج4: 100 ح1; التهذيب 4 : 185 ح516 ; الوسائل 4 : 173 . أبواب المواقيت ب16 ح4.
- (3) الأنعام : 76 .
- (4) الفقيه 1 : 141 ح657 ; التهذيب 2 : 30 ح88 ; الإستبصار 1 : 264 ح953 ; الوسائل 4 : 174 . أبواب المواقيت ب16 ح6 .
(الصفحة 115)
اُحبّ إذا صلّيت المغرب أن أرى في السماء كوكباً»(1) .
ومنها : رواية عمّار الساباطي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إنّما أمرت أبا الخطاب أن يصلّي المغرب حين زالت الحمرة من مطلع الشمس ، فجعل هو الحمرة التي من قبل المغرب ، وكان يصلّي حين يغيب الشفق»(2) .
ومنها : رواية محمد بن شريح عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن وقت المغرب؟ فقال : «إذا تغيّرت الحمرة في الاُفق ، وذهبت الصفرة ، وقبل أن تشتبك النجوم»(3) .
وليس في الرواية ما يدلّ على كون المراد بالحمرة هي الحمرة المشرقية ، وحينئذ فيحتمل أن يكون المراد بها هي الحمرة المغربية ، وعليه فيكون المقصود بيان آخر وقت فضيلة المغرب ، ولو سلّم أنّ المتبادر منها هي الحمرة المشرقية فلا شبهة في أنّ ذيلها يكون بصدد بيان آخر الوقت ، وحينئذ فتكون الرواية متعرّضة لبيان وقت المغرب أوّلا وآخراً .
هذا ، والمراد بتغيّر الحمرة هل هو تغيّرها إلى السواد ، أو إلى الصفرة ، أو إلى الضعف؟ وجوه ، الأظهر هو الوجه الأول .
ومنها : رواية عبدالله بن وضّاح قال : كتبت إلى العبد الصالح(عليه السلام)يتوارى القرص ويقبل الليل ثمّ يزيد الليل ارتفاعاً ، وتستتر عنّا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذّن عندنا المؤذّنون ، أفأُصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب
- (1) التهذيب 2 : 261 ح1040; الإستبصار 1 : 268 ح971 ; علل الشرائع : 350 ب60 ح2 ; الوسائل 4 : 175 . أبواب المواقيت ب16 ح9 .
- (2) التهذيب 2 : 259 ح1033 ، الإستبصار 1 : 265 ح960 ; السرائر 3 : 602 ; الوسائل 4 : 175 . أبواب المواقيت ب16 ح10 .
- (3) التهذيب 2 : 257 ح1024 ; الوسائل 4 : 176 . أبواب المواقيت ب16 ح12 .
(الصفحة 116)
الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك»(1) .
ومنها : رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال لي : «مسّوا بالمغرب قليلا فإنّ الشمس تغيب من عندكم قبل أن تغيب من عندنا»(2) .
وغير ذلك من الأخبار الكثيرة التي نقل بعضها صاحب الوسائل في كتاب الحج في باب الإفاضة من عرفات فراجع(3) .
إذا عرفت ذلك فنقول : هذه الأخبار كما ترى يترائى منها التعارض مع الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ الاعتبار إنّما هو باستتار القرص ، ولابدّ من بيان وجه الجمع بينهما ، وعلى تقدير عدم إمكانه ، لابدّ من بيان أنّ الترجيح مع أيّهما؟ ونقول قبل ذلك أنّ الاحتمالات المتصوّرة الجارية في أخبار الاستتار أربعة :
أحدها : أن يكون الاعتبار باستتار الشمس وغيبوبتها عن نظرنا ، ولو بسبب حاجب ، أو مانع كالجبل ونحوه .
ثانيها : أن يكون الاعتبار باستتارها عن اُفق المصلّي بحيث لا يكاد يراها أحد من الساكنين في هذا الاُفق ، ولو لم يكن في البين حاجب ولا مانع .
ثالثها : أن يكون الاعتبار باستتارها ووقوعها تحت الافق الذي يكون المصلّي واقعاً فيه ، وكذلك عن اُفق جميع الأراضي الموافقة لهذه الأرض من حيث الاُفق .
رابعها : أن يكون المراد استتارها عن الاُفق الحقيقي المنصف للكرة .
وبالجملة : فكلمة الاستتار والغيبوبة وإن لم تكن مجملة من حيث المفهوم إلاّ أنّه يجري فيها باعتبار المستور عنه هذه الاحتمالات الأربعة ، فالروايات من هذه الحيثية تكون مجملة . ولا ريب أنّ التنافي بينها وبين أخبار الحمرة إنّما يتوقّف على
- (1) التهذيب 2 : 259 ح 1031 ; الإستبصار 1 : 264 ح 952 ، الوسائل 4 : 176 . أبواب المواقيت ب16 ح14 .
- (2) التهذيب 2 : 258 ح1030 ; الإستبصار 1 : 264 ح951 ; الوسائل 4 : 176 . أبواب المواقيت ب16 ح13 .
- (3) الوسائل 13 : 557 . أبواب احرام الحج والوقوف بعرفة ب22 ح2 و 3 .
(الصفحة 117)
أن يكون المراد منها واحداً من الاحتمالين الأولين ، لأنّه لو كان المراد منها واحداً من الاحتمالين الأخيرين ، لا يكون بينهما تعارض أصلا كما هو واضح ; وحينئذ فيمكن أن يقال بأنّ أخبار الحمرة تكون مبينة بالنسبة إلى أخبار الاستتار ، وحاكمة عليها ، ومفسّرة للمراد منها ، ويشهد بذلك رواية بريد بن معاوية المتقدّمة(1) بناء على ما استظهرنا منها من كون المراد أنّ الاعتبار إنّما هو بغيبوبة الشمس عن جميع الأراضي المتساوية السطح لأرض المصلّي .
هذا ، وإن أبيت عن إمكان الجمع بين الطائفتين وقلت : بأنّ الظاهر من أخبار الاستتار هو الاعتبار باستتار الشمس عن خصوص أرض المصلّي فنقول : لابدّ من ترجيح أخبار الحمرة والعمل على طبقها ، إذ قد عرفت أنّ جميع فرق المسلمين مخالف للإمامية فتوى وعملا في ذلك ، ولم يكن بينهم ذكر من الحمرة أصلا(2) ، كما أنّهم يصلّون بمجرّد استتار القرص ، وحينئذ فمع فتوى مشهور الإمامية على طبق تلك الأخبار ، وأنّ الاعتبار إنّما هو بذهاب الحمرة لا بالاستتار ، لا ينبغي للعاقل الارتياب في أنّ اختصاصهم بذلك من بين الفرق الإسلامية إنّما هو لاعتقادهم بحجّة اُخرى ، وهي فتوى أئمّتهم الإثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين ، حيث إنّهم يجعلونه حجّة مستقلّة مقابلا لجميع الفرق ; فمع اشتمال جوامعهم المعدّة لنقل الروايات المأثورة عنهم(عليهم السلام) على الأخبار الدالّة على أنّ الاعتبار إنّما هو بالحمرة ، يحصل القطع بأنّ هذا المعنى قد ألقي إليهم من ناحية أئمّتهم(عليهم السلام) وحينئذ فيجب العمل بها خصوصاً مع كثرتها ، وطرح الأخبار المخالفة ، لأجل صدورها تقية ، كما يشهد بذلك لسان بعضها . ومن المعلوم أنّ بنائهم على مراعاة التقية خصوصاً في مثل هذه
- (1) الوسائل 4 : 172 . أبواب المواقيت ب16 ح1 .
- (2) المجموع 3 : 29 ; المغني لابن قدامة 1 : 424 ; الشرح الكبير 1 : 472 ; تذكرة الفقهاء 2 : 310 ; بداية المجتهد 1 : 142 ـ 143 .