(الصفحة 136)
ولا خلاف بين الفقهاء أنّ أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة الشفق ، وإنّما اختلفوا في ماهية الشفق ، فذهب الشافعي إلى أنّه الحمرة ، فإذا غابت بأجمعها فقد دخل وقت العشاء الآخرة ، وروى ذلك عن عبدالله بن عمر ، وعبدالله بن مسعود ، وأبي هريرة ، وعبادة بن الصّامت ، وشدّاد بن أوس ، وبه قال مالك ، والثوري ، ومحمّد(1) ، وقال قوم : الشفق هو البياض ، لا تجوز الصلاة إلاّ بعد غيبوبته ، ذهب إليه الأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وزفر ، وروي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز ، وهو اختيار المزني(2) .
وذهب أحمد إلى أنّ وقتها في البلدان والأبنية غيبوبة البياض ، وفي الصحاري والفضاء غيبوبة الحمرة ، فإنّ البنيان يستر ، فاحتيط بتأخير الصلاة إلى غيبوبة البياض ، ليتحقّق معه غيبوبة الحمرة . وفي الصحراء لا حائل يمنع من ذلك ، فلم يعتبر ذلك ، لا أنّه جعل الوقت مختلفاً في الصحاري والبنيان(3) .
دليلنا : إنّ ما اعتبرناه من ذلك لا خلاف بين الطائفة المحقّة أنّه من الوقت ، وليس هاهنا إجماع على أنّ ما قبله وقت ، فوجب الاحتياط لئلاّ يصلّي قبل دخول الوقت ، وقد تكلّمنا في الأخبار المختلفة في هذا المعنى في الكتابين المقدّم ذكرهما(4) ، انتهى .
ويستفاد من ذلك تسالم المسلمين إجمالا على كون ما بين ذهاب الشفق بمعنى البياض ، وثلث الليل وقتاً للعشاء ، وإنّما وقع الاختلاف بينهم في وقتها أوّلا وآخراً ، هذا . وقد نقل(قدس سره) أقوالا ثلاثة :
- (1) سنن البيهقي 1 : 373 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 274 ; المجموع 3 : 42 .
- (2) المجموع 3 : 43 ; مغني المحتاج 1 : 123 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 274 .
- (3) مسائل أحمد بن حنبل : 27 .
- (4) الخلاف 1 : 262 . مسألة 7 .
(الصفحة 137)
الأوّل : إنّ وقتها هو غيبوبة الشفق بمعنى الحمرة .
الثاني : دخول وقتها بغيبوبة الشمس ، وهذا إنّما هو مع قطع النظر من حيث الاشتراك والاختصاص .
الثالث : دخول وقتها بغيبوبة الشفق بمعنى البياض ، ولا يخفى أنّ العامّة باعتبار إعراضهم عن أحد الثقلين(1) اللذين تركهما النبي(صلى الله عليه وآله) ـ وهو قول العترة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين ـ لم يكن لهم مستند فيما ذهبوا إليه في المقام إلاّ العمل المستمرّ من النبيّ(صلى الله عليه وآله) حيث إنّه كان يفرّق بين العشائين ، ويصلّي صلاة العشاء بعد زوال الشفق(2) ، وكذلك خبر جبرئيل المرويّ في كتب الفريقين(3) بأدنى اختلاف ، وحملوا جمع النبيّ(صلى الله عليه وآله) بين العشائين على اختصاص ذلك بموارد خاصّة من السّفر والمطر ونحوهما ، إذ قد عرفت أنّ المراد بالجمع عندهم هو الإتيان بإحدى الصلاتين في الوقت المختص بالاُخرى ، أعمّ ممّا إذا لم يدخل وقتها ، أو دخل وخرج ، وحيث أنّ جوازه يكون على خلاف القاعدة ، فلابدّ أن يقتصر على ما إذا دلّ الدليل على الجواز في موارد الضرورة .
وأمّا ما رواه ابن عباس من أنّ النبيَّ(صلى الله عليه وآله) جمع بين الصلاتين من غير خوف ولا علّة(4) ، فهو مردود ومطروح عندهم .
هذا ، ولا يخفى أنّ استمرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) على ذلك لا يدلّ على ما ذكروه ، لما عرفت من أنّ تفريق النبيّ(صلى الله عليه وآله) والإتيان بالثانية في وقت واحد معيّن ، إنّما هو لمراعاة الأفضلية ، وكذا مراعاة المأمومين ليجتمعوا في وقت واحد ، ويدركوا فضيلة
- (1) المراجعات 27 : المراجعة 8 . وفي ذيله ذكر صور الحديث وموارد ذكره في كتب العامة .
- (2) سنن ابن ماجه 1 : 219 ح667 ; سنن النسائي 1 : 283 ح498 ; سنن الترمذي 1 : 203 ح152 .
- (3) التهذيب 2 : 252 ـ 253 ح1001 ـ 1004 ; الاستبصار 1 : 257 ـ 258 ح922 ـ 925 ; الوسائل 4 : 157 ـ 158 . أبواب المواقيت ب10 ح5 ـ 8 ; سنن الترمذي 1 : 200 ح149 ; سنن أبي داود 1 : 107 ح393 .
- (4) المعجم الكبير للطبراني 12 : 68 ح12558 وص92 ح12644 .
(الصفحة 138)
الجماعة ، فلم يكن حاله إلاّ كحال أئمّة الجماعة في هذه الأزمنة ، فلا يدلّ فعله(صلى الله عليه وآله) على عدم دخول الوقت قبل ذلك ، وعدم جواز الإتيان بالصلاة في غيره . وأمّا خبر جبرئيل فقد عرفت ما يتعلّق به سابقاً ، فليس لهم دليل على ذلك مضافاً إلى وجوده على خلافهم ، وهي رواية ابن عباس ، إذ لا وجه لطرحها بعد كونها واجدة لشرائط الحجية .
وأمّا الإمامية القائلون بحجّة اُخرى ، وهي قول الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، فالمسألة أيضاً محل خلاف بينهم ، فذهب إلى القول الثاني جمع كثير منهم السيد المرتضى ، وابن الجنيد ، وأبو الصلاح ، وابن البرّاج ، وابن زهرة ، وابن إدريس(1) ، وقد صار هذا القول من زمان العلاّمة إلى هذه الأزمنة أمراً مسلّماً مقطوعاً به .
وذهب الشيخ إلى القول الأوّل في أكثر كتبه ، كالمبسوط والخلاف والنهاية وغيرها ، والمفيد(رحمه الله) ، في المقنعة ، وسلاّر في المراسم ، والصدوق في الهداية(2) .
واما القول الثالث ، فيختص ببعض العامة كأبي حنيفة وجماعة(3) ; ومنشأ الاختلاف بينهم ـ أي الإمامية ـ هو اختلاف الأخبار الواردة في هذا الباب ، فبعضها ظاهر في القول الأول ، وبعضها يدلّ على القول الثاني .
أمّا ما يدل على جواز الإتيان بالعشاء قبل سقوط الشفق فكثيرة .
منها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر ، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة»(4) .
- (1) المسائل الميافارفيّات (رسائل المرتضى) 1 : 274 ; الكافي في الفقه : 137 ; الغنية : 69 ; المهذّب 1 : 69 ; الوسيلة : 83 ; المعتبر 2 : 42 ; ونقله فيه عن ابن الجنيد أيضاً ; السرائر 1 : 195 ; مختلف الشيعة 2 : 24 .
- (2) المبسوط 1 : 75 ; الخلاف 1 : 262 ; النهاية : 59 ; التهذيب 2 : 33 ; المقنعة : 93 ; المراسم : 62 ; الهداية : 130 .
- (3) المجموع 3 : 43 ; مغني المحتاج 1 : 123 ; أحكام القرآن للجصّاص2 : 274 ; الخلاف 1 : 262 مسألة 7 .
- (4) الفقيه 1 : 140 ح648 ; التهذيب 2 : 19 ح54 ; الوسائل 4 : 125 . أبواب المواقيت ب4 ح1 .
(الصفحة 139)
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق(عليه السلام) : «إذا غابت الشمس فقد حلّ الافطار ووجبت الصّلاة ، وإذا صلّيت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة»(1) .
ومنها : مرسلة داود بن فرقد عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات ، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتّى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، وإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل»(2) .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا غربت الشمس دخل وقت الصلاتين إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(3) .
ومنها : رواية إسماعيل بن مهران قال : كتبت إلى الرضا(عليه السلام) : ذكر أصحابنا أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر ، وإذا غربت دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة ، إلاّ أنّ هذه قبل هذه في السفر والحضر ، وأنّ وقت المغرب إلى ربع الليل . فكتب : «كذلك الوقت غير أنّ وقت المغرب ضيّق . . .»(4) الحديث .
ومنها : رواية زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «صلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالناس المغرب والعشاء الآخرة قبل الشفق من غير علّة في جماعة ، وإنّما فعل ذلك ليتّسع الوقت على اُمّته»(5) .
ومنها : رواية زرارة أيضاً قال : سألت أبا جعفر وأبا عبدالله(عليهما السلام) عن الرجل
- (1) الفقيه 1 : 142 ح662 ; الوسائل 4 : 179 . أبواب المواقيت ب16 ح19 .
- (2) التهذيب 2 : 28 ح82 ; الاستبصار 1 : 263 ح945 ; الوسائل 4 : 184 . أبواب المواقيت ب17 ح4 .
- (3) الكافي 3 : 281 ح12 ; التهذيب 2 : 27 ح78 ; الوسائل 4 : 186 . أبواب المواقيت ب17 ح11 .
- (4) الكافي 3 : 281 ح16 ; التهذيب 2 : 260 ح1037 ; الوسائل 4 : 186 . أبواب المواقيت ب17 ح14 .
- (5) التهذيب 2 : 263 ح1046 ; الاستبصار 1 : 271 ح981 ; الوسائل 4 : 202 . أبواب المواقيت ب22 ح2 .
(الصفحة 140)
يصلّي العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق فقالا : «لا بأس به»(1) .
ومنها : رواية عبيدالله وعمران ابني عليّ الحلبيين قالا : كنّا نختصم في الطريق في الصلاة صلاة العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق ، وكان منّا من يضيق بذلك صدره ، فدخلنا على أبي عبدالله(عليه السلام) فسألناه عن صلاة العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق؟ فقال : «لا بأس بذلك» قلنا : وأيّ شيء الشفق؟ فقال : «الحمرة»(2) .
ومنها : رواية إسحاق البطيخي قال : رأيت أبا عبدالله(عليه السلام) صلّى العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق ثم ارتحل(3) .
ومنها : رواية إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) : يجمع بين المغرب والعشاء في الحضر قبل أن يغيب الشفق من غير علّة؟ قال : «لا بأس»(4) .
ومنها : رواية أبي عبيدة قال : سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول : «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)إذا كانت ليلة مظلمة وريح ومطر صلّى المغرب ثم مكث قدر ما يتنفّل الناس ، ثم أقام مؤذّنه ثم صلّى العشاء الآخرة ثم انصرفوا»(5) .
ومنها : رواية الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث قال : «لا بأس بأن تعجّل العشاء الآخرة في السفر قبل أن يغيب الشفق»(6) .
ومنها : رواية عبيدالله الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا بأس أن تؤخّر
- (1) التهذيب 2 : 34 ح4 ، الوسائل 4 : 203 . أبواب المواقيت ب22 ح5 .
- (2) التهذيب 2 : 34 ح105 ; الوسائل 4 : 203 . أبواب المواقيت ب22 ، ح6 .
- (3) التهذيب 2 : 34 ح106 ; الوسائل 4 : 204 . أبواب المواقيت ب22 ح7 .
- (4) التهذيب 2 : 263 ح1047 ; وفيه : «تغيب الشمس» ; الاستبصار 1 : 272 ح982 ، الوسائل 4 : 204 . أبواب المواقيت ب22 ح8 .
- (5) التهذيب 2 : 35 ح109 ; الاستبصار 1 : 272 ح985 ; الوسائل 4 : 203 . أبواب المواقيت ب22 ح3 .
- (6) الكافي 3 : 431 ح3 ; التهذيب 2 : 35 ح107 ; الإستبصار 1 : 272 ح983 ; الوسائل 4 : 203 . أبواب المواقيت ب22 ح4 .