(الصفحة 149)
مغيمة ، أو صحواً ، بل المراد هو التبيّن والتميّز النوعي مع قطع النظر عن الموانع ، لأنّ النهار إنّما يتحقق بقرب الشمس في حركتها إلى الاُفق ، بحيث يمكن رؤية ضوئها لو لم يكن في البين مانع ، ولا يختلف حسب اختلاف حالات الناظرين ، أو غيرها كما هو واضح .
ثمّ اعلم أنّ سبب نزول الآية كما يستفاد من الروايات(1) ، أنّه كان في صدر الإسلام الأكل والنكاح محرّمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، بل كان النكاح محرّماً فيه مطلقاً ، فوقع الناس من أجل ذلك في شدّة ومشقّة ، الشيوخ من ناحية الأول والشبان من جهة الثاني فمنّ الله عليهم بأن وضع عنهم هذا التكليف ، وقد حكي أنّ بعض الصحابة(2) بعد سماعه للآية فسّرها بصيرورة العالم مضيئاً بحيث يمكن تمييز الحبل الأسود من الحبل الأبيض ، فقال ذلك للنبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فقال(صلى الله عليه وآله) : «إنّك لعريض القفاء» .
ووجه حمله الآية على ذلك ، تخيله بأنّ المراد بالخيط معناه الحقيقي ، مع أنّه كما عرفت إنّما هو من باب الاستعارة ، وتشبيه البياض المعترض في أفق المشرق بالخيط الأبيض في الدّقة ، لأنّ المراد إنّما هو حين حدوثه ، وهو في هذا الحال دقيق كما مرّ ; والتعبير عن السواد بالخيط إنّما من باب المشاكلة .
ثمّ لا يخفى أنّه يمكن أن يستفاد كون المراد بالفجر هو الفجر الثاني المسمّى بالفجر الصادق من قوله تعالى :
{اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}(3) بضميمة قوله تعالى :
{ثمّ أتموا الصيام إلى الليل}(4) ، فإنّ المستفاد من مجموعهما
- (1) تفسير القمّي 1 : 66 ، مجمع البيان 2 : 280 ; نور الثقلين 1 : 68 ; الصافي 1 : 224 ; تفسير القرطبي 2 : 314 ; التفسير الكبير 2 : 267 .
- (2) وهو عديّ بن حاتم الطائي : التفسير الكبير 2 : 273 .
- (3) و (4) سورة البقرة : 187.
(الصفحة 150)
أنّ وقت الإمساك عبارة عن مجموع النهار ، ولا إشكال في أنّ مبدأ النهار عند عرف العرب هو الفجر الثاني لا الأوّل .
وأمّا الأخبار الدالّة على ذلك فكثيرة :
منها : رواية أبي بصير ليث المرادي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) فقلت : متى يحرم الطعام على الصائم وتحلّ الصلاة صلاة الفجر؟ فقال : «إذا اعترض الفجر فكان كالقبطية البيضاء(1) ، فثمّ يحرم الطعام على الصائم وتحلّ الصلاة صلاة الفجر» قلت : أفلسنا في وقت إلى أن يطلع شعاع الشمس؟ فقال : هيهات أين يذهب بك ، تلك صلاة الصبيان»(2) .
ومنها : رواية عليّ بن عطية عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال : «الصبح هو الذي إذا رأيته كان معترضاً كأنه بياض نهر سوراء»(3) .
ومنها : مكاتبة أبي الحسن بن الحصين إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام) : جعلت فداك قد اختلف موالوك في صلاة الفجر ، فمنهم من يصلّي إذا طلع الفجر الأوّل المستطيل في السماء ، ومنهم من يصلّي إذا اعترض في أسفل الاُفق واستبان ، ولست أعرف أفضل الوقتين فأُصلّي فيه ، فإن رأيت أن تعلّمني أفضل الوقتين وتحدّه لي ، وكيف أصنع مع القمر والفجر لا يتبيّن معه حتّى يحمرّ ويصبح؟ ، وكيف أصنع مع الغيم وما حدّ ذلك في السفر والحضر؟ فعلت إن شاء الله . فكتب(عليه السلام)بخطّه : الفجر يرحمك الله هو الخيط الأبيض المعترض ، وليس هو الأبيض صعداً ، فلا تصلِّ في سفر ولا
- (1) القبطيّة : ثياب بيض رقاق يؤتى بها من مصر ، (لسان العرب 7 : 373) .
- (2) الفقيه 2 : 81 ح361 ; التهذيب 4 : 185 ح514 ; الوسائل 4 : 209 . أبواب المواقيت ب27 ح1 .
- (3) الفقيه 1 : 317 ح1440 ، الكافي 3 : 283 ح3 ، وج4 : 98 ح2 ، التهذيب 2 : 37 ح118 وص185 ح515 ، الإستبصار 1 : 275 ح997 ، الوسائل 4 : 210 . أبواب المواقيت ب27 ح2 .
- وسوراء موضع في العراق في أرض بابل ، معجم البلدان 3 : 378 .
(الصفحة 151)
حضر حتّى تبيّنه ، فإنّ الله تبارك وتعالى لم يجعل خلقه في شبهة من هذا ، فقال :
{كلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}(1) ، فالخيط الأبيض هو المعترض الذي يحرم به الأكل والشرب في الصوم ، وكذلك هو الذي يوجب به الصلاة»(2) .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يصلّي ركعتي الصبح ـ وهي الفجر ـ إذا اعترض الفجر وأضاء حسناً»(3) .
ومنها: رواية هشام بن الهذيل عن أبي الحسن الماضي(عليه السلام) قال : سألته عن وقت صلاة الفجر فقال : «حين يعترض الفجر فتراه مثل نهر سوراء»(4) . إلى غير ذلك ممّا يدل على أنّ وقت الصبح إنّما يدخل إذا طلع الفجر الثاني المسمّى بالفجر الصادق.
والفرق بينه وبين الفجر الكاذب من وجوه :
الأوّل: إنّ الفجرالكاذب منفصل عن الاُفق بخلاف الفجر الصادق، فإنّه متصل به .
الثاني : إنّ الأوّل يكون عموديّاً والثاني اُفقيّاً .
الثالث : إنّ الأوّل يكون عند حدوثه أشدّ ضوءً لأنّه يزول تدريجاً ، والثاني بخلاف ذلك ، فإنّه ينتشر قليلا قليلا ، ويشتدّ ضوءه تدريجاً . هذا كلّه في أوّل وقت صلاة الصبح .
وأمّا آخر وقتها فلا خلاف بين المسلمين في امتداده إلى طلوع الشمس إجمالا ، وإن وقع الخلاف بينهم في كونه آخر وقت الإجزاء ، أو آخر الوقت
- (1) سورة البقرة : 187 .
- (2) الكافي 3 : 282; التهذيب 2 : 36 ، ح115; الاستبصار 1 : 274 ، ح996; الوسائل 4 : 210 ، أبواب المواقيت : ب17 ، ح4 .
- (3) التهذيب 2 : 36 ح111 ; الاستبصار 1 : 273 ح990 ، الوسائل 4 : 211 . أبواب المواقيت ب27 ح5 .
- (4) التهذيب 2 : 37 ح117 ، الإستبصار 1 : 275 ح996 ، الوسائل 4 : 212 . أبواب المواقيت ب27 ح6 .
(الصفحة 152)
للمضطرّ ، وأنّ آخره للمختار هو طلوع الحمرة المشرقية ، فذهب إلى الأوّل أبو حنيفة(1) وهو الأقوى ، بناء على ما اخترناه من أنّ الافتراق بين الوقتين إنّما هو بالفضيلة والإجزاء ، وحكي الثاني عن الشيخ(قدس سره) ، بناء على مااختاره من جعل الافتراق بينهما بالاختيار والاضطرار ، وبه قال الشافعي ، وأحمد(2) .
ويدلّ على ما ذكرنا مضافاً إلى الاجماع أخبار كثيرة :
منها : ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «وقت الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلل الصبح السماء ، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً ، ولكنّه وقت لمن شغل أو نسي أو نام»(3) والتعبير بلفظ «لا ينبغي» ظاهر في تأكّد الاستحباب ، ودلالة الرواية على ما اخترناه من كون افتراق الوقتين بالفضيلة والإجزاء أوضح من دلالتها على مختار الشيخ(رحمه الله) كما لا يخفى .
ومنها : رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لكلّ صلاة وقتان ، وأوّل الوقتين أفضلهما ، ووقت صلاة الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلل الصبح السماء ، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً ، ولكنّه وقت من شغل أو نسي أو سهى أو نام . . .»(4) ، الحديث .
ولا يخفى ما في كلمة ينشق و يتجلل في الروايتين من الاستعارة التخييلية ، حيث شبّه الفجر بشيء ينشق كالحجر مثلا، والصبح بلباس يستر البدن، ثم ذكر المشبه، أعني الفجر والصبح وأسند إليه بعض خواص المشبّه به، وهو
- (1) المجموع 3 : 43 ; الام 1 : 74 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 268 ; بداية المجتهد 1 : 145 ـ 146; الخلاف 1 : 267 مسألة 10 .
- (2) الخلاف 1 : 267 مسألة 10; الاُم 1 : 74 ; المجموع 3 : 43 .
- (3) الكافي 3 : 283 ح5 ; التهذيب 2 : 38 ح121 ، الاستبصار 1 : 276 ح1001 ; الوسائل 4 : 207 . أبواب المواقيت ب26 ح1 .
- (4) التهذيب 2 : 39 ح123 ; الإستبصار 1 : 276 ح1003 ; الوسائل 4 : 208 . أبواب المواقيت ب26 ح5 .
(الصفحة 153)
الانشقاق والتجلل.
ومنها : رواية يزيد بن خليفة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «وقت الفجر حين يبدو حتّى يضيء»(1) .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «وقت صلاة الغداة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس»(2) .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا تفوت صلاة الفجر حتّى تطلع الشمس»(3) . إلى غير ذلك ممّا يدلّ عليه .
ثمّ إنّ المشهور جعلوا آخر وقت الفضيلة هو طلوع الحمرة المشرقية(4) ، مع أنّه ليس منه ذكر في النصوص والأخبار ، ولا ملازمة بين الإضاءة والتجلّل المذكورين في الروايات المتقدّمة وبين طلوع الحمرة كما هو واضح . وحينئذ فاللازم أن يقال بأنّ الشهرة تكشف عن وجود نصّ معتبر ، غاية الأمر أنّه لم يصل إلينا ، كما هو الشأن في جميع الفتاوى المشهورة الخالية عن الدليل الظاهر .
ثمّ إنّه قد وقع الخلاف بين العامّة في أنّ التغليس بصلاة الصبح أفضل ، أو أنّ الأفضل الاسفار بها؟ والمراد بالأوّل هو الإتيان بها في الغلس محرّكة وهي الظلمة ، وبالثاني الإتيان بهابعدالإضاءة، فذهب بعضهم إلى الأوّل ، إستناداً إلى فعل عليّ(عليه السلام)
- (1) الكافي 3 : 283 ح4 ; التهذيب 2 : 36 ح112 ; الإستبصار 1 : 274 ح991 ; الوسائل 4 : 207 . أبواب المواقيت ب26 ح3 .
- (2) التهذيب 2 : 36 ح114 ، الإستبصار 1 : 275 ح998 ، الوسائل 4 : 208 . أبواب المواقيت ب26 ح6 .
- (3) التهذيب 2 : 256 ح1015 ، الإستبصار 1 : 260 ح933 ، السرائر 3 : 602 ، الوسائل 4 : 159 . أبواب المواقيت ب10 ح9 .
- (4) الوسيلة : 83 ، ونقله عن ابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 2 : 31 ; نهاية الأحكام 1 : 311 ; قواعد الأحكام 1 : 247 ; جامع المقاصد 2 : 19 ; روض الجنان : 180 ، كشف الغطاء : 222 ; كشف اللثام 3 : 49 ; مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 42 ، كتاب الصلاة (تقريرات بحث المحقّق النائيني (رحمه الله)) 1 : 38 .