(الصفحة 194)
ثمّ إنّ أكثر الروايات المتقدّمة واردة في النهي عن التطوّع في وقت انعقاد الجماعة للفريضة ، أو غير آبية عن الحمل على هذه الصورة ، والحمل على هذا الوقت وإن كان بعيداً عن أذهاننا وما هو المتبادر إليها من الوقت ، إلاّ أنّ التتبّع في الأخبار يعطي أنّ المراد بالوقت في لسان الأخبار ليس خصوص ما هو المتبادر منه عند أذهاننا ، ويؤيّد ذلك ما رواه العامّة عن أبي هريرة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «إذا دخل الوقت فلا صلاة إلاّ المكتوبة»(1) .
والظاهر إنه ليس لهم في المسألة إلاّ هذه الرواية ، ولعلّها هي التي أشار إليها عمر بن يزيد في روايته المتقدّمة(2) ، كما يدلّ عليه التعبير بقوله : «يروون» ، ولا ينافي ذلك اختلاف التعبير فيهما . فإنّ رواية أبي هريرة ظاهرة في التحريم ، وما حكاه عمر بن يزيد لا يدلّ إلاّ على الكراهة لأنّه عبّر بكلمة لا ينبغي ، وذلك لأنّه يمكن أن لا يكون قد فهم من نفي الصلاة إلاّ الكراهة وعدم الحرمة ، أو أنّه يمكن أن تكون كلمة لا ينبغي مستعملة في التحريم عندهم .
وكيف كان فالمتطوّع في وقت الفريضة إمّا أن يكون مترقّباً لإنعقاد الجماعة ، ومنتظراً لإقامتها ، أو يتطوّع مع انعقاد الجماعة حال التطوّع ، أو أنّه لا يريد الصلاة جماعة بل فرادى ، ففي الصورة الاُولى لا إشكال في جوازه ، لرواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة ، قال : قلت : أُصلّي في وقت فريضة نافلة؟ قال : «نعم ، في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به ، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة»(3) . وأمّا في صورة انعقاد الجماعة فظاهر رواية عمر بن يزيد المتقدّمة الجواز ، لكن مع كراهية ، والفضل في
- (1) سنن ابن ماجه 1 : 364 ح1151 ; سنن الترمذي 2 : 126 ب60 ح861 و862 ; وفيهما «إذا اُقيمت الصلاة . . .» .
- (2) الوسائل 4 : 228 . ابواب المواقيت ب35 ح9 .
- (3) الكافي 3 : 289 ح4 ; الوسائل 4 : 226 . أبواب المواقيت ب35 ح2 .
(الصفحة 195)
البدأة بالفريضة من جهة أفضلية المبادرة والمسارعة إلى إدراك فضل الوقت والجماعة معاً ، وليس المراد بالكراهة هي الكراهة التكليفية أو الوضعية ، بل المراد ما عرفت من كون الإتيان بالفريضة أهمّ وأولى من دون أن يكون في التطوّع حزازة ومنقصة موجبة للكراهة .
ومن هنا يظهر الجواز في صورة الإنفراد أيضاً بطريق أولى ، لأنّ التطوّع في صورة انعقاد الجماعة يوجب فوات فضيلتي الوقت والجماعة معاً ، بخلاف التطوّع منفرداً مع عدم قيام الجماعة ، فإنّه لا يوجب إلاّ فوات فضيلة الوقت فقط كما هو واضح ; فجوازه في الاُولى يستلزم الجواز في الثانية بطريق أولى ، والأمر بالابتداء بالمكتوبة في صورة الإنفراد كما في رواية إسحاق بن عمّار المذكورة ليس إلاّ لدرك فضل الوقت ، ولا يدل على حكم إلزامي أصلا .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ التطوّع في وقت الفريضة أو لمن عليه قضائها لا يكون محرّماً ولا مكروهاً ، بل النهي عنه إنّما هو للإرشاد إلى درك فضل الوقت فقط ، أو مع الجماعة كما عرفت .
نعم ، لا ينبغي الإشكال في عدم الجواز فيما إذا ضاق الوقت ، بحيث لو أتى بالنافلة لخرج وقت الفريضة ، كما أنّه لا إشكال في أنّ سبب النهي بأيّ معنى كان ، هو اشتغال الذمّة بالفريضة ، فالآتي بها لا يكون مشمولا لهذا الحكم أصلا كما هو أوضح من أن يخفى .
(الصفحة 196)
(الصفحة 197)
المقدّمة الثالثة في القبلة
إنّ اعتبار استقبال القبلة في المفروض من الصلوات ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، بل هو من ضروريّات الإسلام والفقه كما أنّه لا شكّ في أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة المشرّفة(1) ، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين من كان في المسجد ، ومن كان في الحرم ، ومن كان خارجاً عنهما ، للأخبار الكثيرة الدالّة عليه :
منها : رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : متى صرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر»(2) . فإنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي إلى الكعبة ، وهذا المعنى كان مسلّماً عند الراوي ، ولذا لم يسأل عنه ، بل سأل عن زمان صرف فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة .
ومنها : رواية أبي بصير عن أحدهما(عليهما السلام) ـ في حديث ـ قال : قلت له : إنّ الله
- (1) الخلاف 1 : 295 ; المقنعة : 95 ; الوسيلة : 85 ; المراسم : 60 ; الغنية : 68 ; المهذّب 1 : 84 ; السرائر 1 : 204 ; المعتبر 2 : 64 ـ 65 ; مختلف الشيعة 2 : 60 ; كشف اللثام 3 : 128 ; جواهر الكلام 7 : 320 .
- (2) التهذيب 2 : 43 ح135 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح1 .
(الصفحة 198)
أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم ، ألا ترى أنّ الله يقول :
{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرسول . . .}(1) ثم قال : إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس ، فقيل لهم إنّ نبيّكم صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين ، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين»(2) .
وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي ربما تبلغ عشرين رواية .
وفي مقابلها ما يدلّ على أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد ، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم ، والحرم قبلة لأهل الدنيا ، كمرسلة عبدالله بن محمّد الحجال عن أبي عبدالله(عليه السلام) : «إنّ الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا» ورواه الصدوق في العلل مثله»(3) .
ورواية ابن عقدة عن بشر بن جعفر الجعفي ، عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) قال : سمعته يقول : «البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة للناس جميعاً»(4) . وغيرهما من الأخبار الواردة بهذا المضمون .
ولكنّها لا تصلح لمعارضة الأخبار الدالّة على أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة لضعف سند بعضها ، وثبوت الارسال في بعضها الآخر ; مع أنّ من عمل بمضمونها كالشيخ(قدس سره) في أكثر كتبه(5) لا يقول بها فيمن صلّى في الحرم متوجّهاً إلى المسجد على
- (1) البقرة : 143 .
- (2) التهذيب 2 : 43 ح138 ; إزاحة العلّة في معرفة القبلة : 2 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح2 .
- (3) علل الشرائع : 415 ب156 ح2 ; التهذيب 2 : 44 ح139 ; الوسائل 4 : 303 . أبواب القبلة ب3 ح1 .
- (4) التهذيب 2 : 44 ح140 ; الوسائل 4 : 304 . أبواب القبلة ب3 ح2 .
- (5) الخلاف 1 : 295 مسألة 41 ; النهاية : 62 ـ 63 ; المبسوط 1 : 77 ـ 78 ، الجمل والعقود : 61 .