(الصفحة 196)
(الصفحة 197)
المقدّمة الثالثة في القبلة
إنّ اعتبار استقبال القبلة في المفروض من الصلوات ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، بل هو من ضروريّات الإسلام والفقه كما أنّه لا شكّ في أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة المشرّفة(1) ، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين من كان في المسجد ، ومن كان في الحرم ، ومن كان خارجاً عنهما ، للأخبار الكثيرة الدالّة عليه :
منها : رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : متى صرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر»(2) . فإنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي إلى الكعبة ، وهذا المعنى كان مسلّماً عند الراوي ، ولذا لم يسأل عنه ، بل سأل عن زمان صرف فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة .
ومنها : رواية أبي بصير عن أحدهما(عليهما السلام) ـ في حديث ـ قال : قلت له : إنّ الله
- (1) الخلاف 1 : 295 ; المقنعة : 95 ; الوسيلة : 85 ; المراسم : 60 ; الغنية : 68 ; المهذّب 1 : 84 ; السرائر 1 : 204 ; المعتبر 2 : 64 ـ 65 ; مختلف الشيعة 2 : 60 ; كشف اللثام 3 : 128 ; جواهر الكلام 7 : 320 .
- (2) التهذيب 2 : 43 ح135 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح1 .
(الصفحة 198)
أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم ، ألا ترى أنّ الله يقول :
{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرسول . . .}(1) ثم قال : إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس ، فقيل لهم إنّ نبيّكم صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين ، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين»(2) .
وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي ربما تبلغ عشرين رواية .
وفي مقابلها ما يدلّ على أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد ، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم ، والحرم قبلة لأهل الدنيا ، كمرسلة عبدالله بن محمّد الحجال عن أبي عبدالله(عليه السلام) : «إنّ الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا» ورواه الصدوق في العلل مثله»(3) .
ورواية ابن عقدة عن بشر بن جعفر الجعفي ، عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) قال : سمعته يقول : «البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة للناس جميعاً»(4) . وغيرهما من الأخبار الواردة بهذا المضمون .
ولكنّها لا تصلح لمعارضة الأخبار الدالّة على أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة لضعف سند بعضها ، وثبوت الارسال في بعضها الآخر ; مع أنّ من عمل بمضمونها كالشيخ(قدس سره) في أكثر كتبه(5) لا يقول بها فيمن صلّى في الحرم متوجّهاً إلى المسجد على
- (1) البقرة : 143 .
- (2) التهذيب 2 : 43 ح138 ; إزاحة العلّة في معرفة القبلة : 2 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح2 .
- (3) علل الشرائع : 415 ب156 ح2 ; التهذيب 2 : 44 ح139 ; الوسائل 4 : 303 . أبواب القبلة ب3 ح1 .
- (4) التهذيب 2 : 44 ح140 ; الوسائل 4 : 304 . أبواب القبلة ب3 ح2 .
- (5) الخلاف 1 : 295 مسألة 41 ; النهاية : 62 ـ 63 ; المبسوط 1 : 77 ـ 78 ، الجمل والعقود : 61 .
(الصفحة 199)
نحو لا يكون مستقبلا إلى الكعبة ، كأن صلّى متوجّهاً إلى زاوية من المسجد ، فأفتى فيه بوجوب مراعاة الكعبة ، وعليه فيمكن أن يدّعى الاجماع(1) على خلاف مضمون هذه الروايات ، بل كاد أن يكون ضروريّاً .
ثمّ إنّه لا تعارض بين الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ الكعبة قبلة للمسلمين ، وبين قوله تعالى :
{وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره}(2) حيث أمر بتولية الوجه شطر المسجد الحرام ، لأنّ المراد بالمسجد في الآية هي الكعبة ، والتعبير عنها به باعتبار قلّة التفاوت بينهما من حيث المقدار ، لأنّ المسجد الحرام قد توسّع في الأزمنة المتأخّرة .
وليس المراد بالكعبة هو خصوص البناء وما أحاطه من الفضاء ، بل المراد به هو البناء وكلّ ما هو مسامت له من تحت الأرض إلى فوق السماء ، كما هو ظاهر رواية عبدالله بن سنان ، أنّه سأل فيها رجل عن صحّة صلاة صلّى فوق أبي قبيس والكعبة واقعة تحته؟ فقال(عليه السلام) : «نعم إنّها قبلة من موضعها إلى السماء»(3) . وهل يكفي التوجّه إلى حجر إسماعيل أم لا؟ المنقول عن جماعة هو الكفاية(4) لكنّ الظاهر عدمها ، لأنّ المتبادر من البيت هو البناء المربع والحجر خارج عنها .
هل المراد بوجوب التوجّه إلى الكعبة وجوب التوجّه إليها بجميع مقاديم البدن أم يكفي توجّه الوجه خاصّة مع خروج طرف الأيمن أو الأيسر؟ وجهان ، بل قولان :
- (1) راجع كشف اللثام 3 : 128 ـ 129 .
- (2) البقرة 2 : 144 .
- (3) التهذيب 2 : 383 ح1598 ; الوسائل 4 : 339 . أبواب القبلة ب18 ح1 .
- (4) نهاية الاحكام 1 : 392 ; تذكرة الفقهاء 3 : 22 مسألة 144 ; الذكرى 3 : 169 ; كشف اللثام 3 : 129 ; مستند الشيعة 4 : 161 ; جواهر الكلام 7 : 326 .
(الصفحة 200)
من أنّ المذكور في قوله تعالى :
{وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره} هو الوجه خاصّة ; ومن أنّ الوجه المذكور في الآية الشريفة لا خصوصية فيه ، بل هو كناية عن مقاديم البدن ، كما يظهر من صدر الآية ، حيث ذكر فيها
{فلنولينّك قبلة ترضيها}(1) فنسب التولية إلى المخاطب دون الوجه .
هذا ، ولا يبعد أن يقال بكفاية توجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها ، ولا يلزم توجّه جميع المقاديم حتى ما هو أوسع من الوجه ممّا لا يحاذيه كالكتف الأيمن أو الأيسر ، لأنّ العرف يفهم من توجّه الوجه إلى شيء أنّ الوجه بوضعه الطبيعي متوجّه إلى ذلك الشيء ، وتوجّهه في هذه الحالة يكون ملازماً لتوجّه المقاديم التي يحاذيه . فالآية الشريفة الآمرة بتولية الوجه نحو الكعبة لا تدلّ على أزيد ممّا ذكرنا ، ومع فرض الشكّ يرجع إلى أصالة عدم وجوب توجّه أزيد من هذا المقدار .
ثمّ إنّه بعدما ظهر ممّا ذكرنا ـ أنّ العبرة بتوجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها ـ يقع الكلام في أنّه هل يتحقّق هذا المقدار بخروج خطّ مستقيم من جزء من أجزاء الوجه إلى الكعبة ، أو لا يحصل بذلك ، بل يلزم أن يخرج ذلك الخطّ من وسط الوجه؟ ومنشأ الإحتمالين أنّ سطح الوجه ليس على نحو تخرج من جميع أجزائه خطوط متوازية كسطح واحد ، بل هو على التقريب يكون ربع الدائرة .
ومن المعلوم أنّ الخطوط المستقيمة الخارجة من كلّ جزء من أجزاء الدائرة ليست على نحو التوازي ، فالشخص المتوجّه إلى الكعبة قد يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إليها دون جزء آخر ; فعلى هذا يقع النزاع في أنّ العبرة في توجّه الوجه إلى شيء هل هو بأن يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إلى