(الصفحة 191)
ينام عن الغداة حتى تبزغ(1) الشمس ، أيصلّي حين يستيقظ ، أو ينتظر حتى تنبسط الشمس؟ قال : «يصلّي حين يستيقظ» قلت : يوتر أو يصلّي الركعتين؟ قال : «بل يبدأ بالفريضة»(2) .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلّها أو نام عنها؟ فقال : يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار ، فإذا دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت ، وهذه أحقّ بوقتها فليقضها ، فإذا قضاها فليصلّ ما فاته ممّا قد مضى ، ولا يتطوّع بركعة حتى يقضي الفريضة كلّها»(3) .
هذه هي الروايات الدالة على المنع ، ولا يخفى أنّ المراد بوقت الفريضة يحتمل أن يكون جميع الوقت الوسيع من أوله إلى آخره ، ويحتمل أن يكون المراد به الوقت الذي لا تكون النافلة فيه مزاحمة للفريضة ، كالذراع والذراعين في الظهرين وسقوط الشفق في العشاء ، ويحتمل أن يكون المراد به الوقت الذي تنعقد فيه الجماعة لأجل المكتوبة ، كما أنّ هنا إحتمالا رابعاً وهو أن يكون المراد به الوقت الذي يتعيّن فيه الإتيان بالفريضة ، لصيرورتها قضاءً لو أخّرت عنه ، لا إشكال في عدم كون المراد به هو الاحتمال الأخير ، لكون الروايات المتقدّمة آبية عن الحمل عليه ، بل صريحة في خلافه ، كما أنّ الظاهر بطلان الاحتمال الأول أيضاً ، لأنّ أكثر روايات المنع كما عرفت قد وردت في خصوص الرواتب اليومية ، أو الأعمّ منها ، ولا يمكن
- (1) بزغت الشمس بزغاً وبزوغاً : شرقت; القاموس المحيط 3 : 106 .
- (2) التهذيب 2 : 265 ح1056 ، الإستبصار 1 : 286 ح1047 ، الوسائل 4 : 284 . أبواب المواقيت ب61 ح4 .
- (3) الكافي 3 : 292 ح3 ، التهذيب 2 : 172 ح685 وج3 : 159 ح341 ، الوسائل 8 : 256 . أبواب قضاء الصلوات ب2 ح3 .
(الصفحة 192)
حملها على خصوص النافلة المبتدأة كما مرّ .
وحينئذ فبعدما استقرّ عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) وكذا جميع الصحابة بل أكثر الناس على الإتيان بالرواتب قبل الفريضة في نافلة الظهرين ، وقبل سقوط الشفق في نافلة المغرب ، وقبل طلوع الحمرة المشرقية في نافلة الصبح ، لا ينبغي الشكّ والارتياب في استحباب الإتيان بالنافلة الراتبة في أوّل الزوال مثلا ، وكون جواز ذلك بل أفضليته من الاُمور المرتكزة عند الناس ، وحينئذ فإذا اُلقي إليهم هذه العبارات الدالة على عدم جواز الإتيان بالنافلة في وقت الفريضة ، لا يفهمون منه عدم الجواز في وقت يصح فيه الإتيان بالفريضة ، بل لا يتبادر إلى أذهانهم إلاّ أول أوقات الفضيلة للفريضة التي تكون خاتمة الأوقات المضروبة للنوافل التي تزاحم فيها مع الفريضة ، وحينئذ فيكون مدلول الروايات أخصّ من مدّعى المانعين ، لأنّ مدّعاهم المنع في جميع الوقت الوسيع الذي يصحّ فيه الإتيان بالفريضة ، وحينئذ فلابدّ من التزامهم بالتخصيص فيها ، لخروج الرواتب عن هذا الحكم قطعاً ، وأمّا بناء على ما ذكرنا يكون خروج الرواتب بنحو التخصّص ، إذ لا تعرّض في الروايات حينئذ لما قبل الذراع والذراعين مثلا ، وحينئذ فلا دليل على المنع في غير الرواتب أيضاً .
نعم لابدّ من تعيين المراد من النهي الوارد فيها ، وأنّه هل المراد منه الحرمة ، أو الكراهة تكليفاً ، أو وضعاً ، ولكنّه بحث آخر يأتي ، والكلام هنا في تعيين موضع النهي في هذه الرواية ، وقد عرفت أنّ استقرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومن بعده قرينة متّصلة على أنّ المراد بوقت الفريضة ليس مجموع الوقت الوسيع من أوّله إلى آخره ، نعم يستفاد من روايات المنع ، منع الإتيان بالرواتب بعد دخول وقت الفضيلة للفريضة ، فيكون غيرها أولى بعدم الجواز ; وحينئذ فلابدّ من التكلّم فيها من حيث أنّ النهي الوارد فيها هل يكون المراد به الحرمة أو غيرها؟ فنقول : إنّ
(الصفحة 193)
النهي فيها يحتمل وجوهاً :
أحدها : أن يكون النهي فيها للتحريم بسبب انطباق عنوان محرّم على النافلة مطلقاً ، راتبةً كانت أو غيرها بعد مضيّ الذراع مثلا .
ثانيها : أن يكون النهي إرشاداً إلى فساد النافلة في ذلك الوقت .
ثالثها : أن يكون النهي نهياً تنزيهيّاً بسبب انطباق عنوان ذي حزازة ومنقصة على النافلة في ذلك الوقت .
رابعها : أن يكون للإرشاد إلى قلة الثواب ، بمعنى أنّ النافلة لو أتى بها في هذا الوقت تكون أقل ثواباً بالنسبة إلى ما لو أتى بها في غير هذا الوقت .
خامسها : أن لا يكون النهي عن النافلة بسبب حرمتها أو حزازتها أو كونها أقلّ ثواباً ، بل كان للإرشاد إلى أنّ الأفضل حينئذ البدأة بالمكتوبة ، بمعنى أنّه حيث كانت ذمّة المكلّف مشغولة بما هوّ أهم وأكمل ، فالأحرى تقديم الأهمّ وعدم تأخيره ، فالنهي إنّما هو لمراعاة فضل المبادرة إلى الفريضة ، ومقتضى هذا الاحتمال عدم كون التطوّع في وقت الفريضة حراماً ، ولا ذا حزازة ومنقصة أصلا ، ولا ينقص فضلها عن الإتيان بها في غير وقتها ، بل هما متساويان بلا تفاضل .
وهذا هو أوجه الاحتمالات كما يظهر بالتدبّر فيها ، ويساعده فهم العرف أيضاً ، فإنّ العرف المخاطب بمثل قوله(عليه السلام) : «إذا دخل وقت الفريضة فابدأ بها» أو «لا تطوّع في وقت الفريضة» لا يفهم منه مع ملاحظة توسعة الوقت إلاّ أنّ مع اشتغال الذمّة بالفريضة ينبغي تقديمها وإفراغها منها ، ثمّ الشروع في الإتيان بالنوافل .
هذا كلّه مع أنّه لو أغمضنا النظر عمّا ذكرنا نقول : إنّ الأخبار الدالّة على الجواز صريحة فيه ، وروايات المنع ظاهرة في مدلولها ، ومقتضى قاعدة الجمع حمل الظاهر على النصّ ، وتوجيهه بما لا ينافيه ، والشهرة التي ادعيت على المنع ليست بحدّ توجب خروج أخبار الجواز عن الحجّية كما لا يخفى .
(الصفحة 194)
ثمّ إنّ أكثر الروايات المتقدّمة واردة في النهي عن التطوّع في وقت انعقاد الجماعة للفريضة ، أو غير آبية عن الحمل على هذه الصورة ، والحمل على هذا الوقت وإن كان بعيداً عن أذهاننا وما هو المتبادر إليها من الوقت ، إلاّ أنّ التتبّع في الأخبار يعطي أنّ المراد بالوقت في لسان الأخبار ليس خصوص ما هو المتبادر منه عند أذهاننا ، ويؤيّد ذلك ما رواه العامّة عن أبي هريرة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «إذا دخل الوقت فلا صلاة إلاّ المكتوبة»(1) .
والظاهر إنه ليس لهم في المسألة إلاّ هذه الرواية ، ولعلّها هي التي أشار إليها عمر بن يزيد في روايته المتقدّمة(2) ، كما يدلّ عليه التعبير بقوله : «يروون» ، ولا ينافي ذلك اختلاف التعبير فيهما . فإنّ رواية أبي هريرة ظاهرة في التحريم ، وما حكاه عمر بن يزيد لا يدلّ إلاّ على الكراهة لأنّه عبّر بكلمة لا ينبغي ، وذلك لأنّه يمكن أن لا يكون قد فهم من نفي الصلاة إلاّ الكراهة وعدم الحرمة ، أو أنّه يمكن أن تكون كلمة لا ينبغي مستعملة في التحريم عندهم .
وكيف كان فالمتطوّع في وقت الفريضة إمّا أن يكون مترقّباً لإنعقاد الجماعة ، ومنتظراً لإقامتها ، أو يتطوّع مع انعقاد الجماعة حال التطوّع ، أو أنّه لا يريد الصلاة جماعة بل فرادى ، ففي الصورة الاُولى لا إشكال في جوازه ، لرواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة ، قال : قلت : أُصلّي في وقت فريضة نافلة؟ قال : «نعم ، في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به ، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة»(3) . وأمّا في صورة انعقاد الجماعة فظاهر رواية عمر بن يزيد المتقدّمة الجواز ، لكن مع كراهية ، والفضل في
- (1) سنن ابن ماجه 1 : 364 ح1151 ; سنن الترمذي 2 : 126 ب60 ح861 و862 ; وفيهما «إذا اُقيمت الصلاة . . .» .
- (2) الوسائل 4 : 228 . ابواب المواقيت ب35 ح9 .
- (3) الكافي 3 : 289 ح4 ; الوسائل 4 : 226 . أبواب المواقيت ب35 ح2 .
(الصفحة 195)
البدأة بالفريضة من جهة أفضلية المبادرة والمسارعة إلى إدراك فضل الوقت والجماعة معاً ، وليس المراد بالكراهة هي الكراهة التكليفية أو الوضعية ، بل المراد ما عرفت من كون الإتيان بالفريضة أهمّ وأولى من دون أن يكون في التطوّع حزازة ومنقصة موجبة للكراهة .
ومن هنا يظهر الجواز في صورة الإنفراد أيضاً بطريق أولى ، لأنّ التطوّع في صورة انعقاد الجماعة يوجب فوات فضيلتي الوقت والجماعة معاً ، بخلاف التطوّع منفرداً مع عدم قيام الجماعة ، فإنّه لا يوجب إلاّ فوات فضيلة الوقت فقط كما هو واضح ; فجوازه في الاُولى يستلزم الجواز في الثانية بطريق أولى ، والأمر بالابتداء بالمكتوبة في صورة الإنفراد كما في رواية إسحاق بن عمّار المذكورة ليس إلاّ لدرك فضل الوقت ، ولا يدل على حكم إلزامي أصلا .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ التطوّع في وقت الفريضة أو لمن عليه قضائها لا يكون محرّماً ولا مكروهاً ، بل النهي عنه إنّما هو للإرشاد إلى درك فضل الوقت فقط ، أو مع الجماعة كما عرفت .
نعم ، لا ينبغي الإشكال في عدم الجواز فيما إذا ضاق الوقت ، بحيث لو أتى بالنافلة لخرج وقت الفريضة ، كما أنّه لا إشكال في أنّ سبب النهي بأيّ معنى كان ، هو اشتغال الذمّة بالفريضة ، فالآتي بها لا يكون مشمولا لهذا الحكم أصلا كما هو أوضح من أن يخفى .