(الصفحة 203)
علم بذلك السمت فهو ، وإلاّ فيكفي فيه الظن ، فتنطبق هذه التعاريف الثلاثة على ما فسّرت به في المعتبر .
وفي جامع المقاصد(1) : إنّ جهة الكعبة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوّز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة ، بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه .
وفي الروضة : إنّها السمت الّذي يحتمل كونها فيه ، ويقطع بعدم خروجها عنه لأمارة شرعية(2) . ولعل هذا التعريف مأخوذ من جامع المقاصد .
ومرجع بعض هذه التعاريف المذكورة وغيرها من التفاسير إلى أنّ المراد من الجهة هي قطعة من الدائرة المفروضة التي وقعت الكعبة في جزء منها ، ويعلم بعدم خروج الكعبة عنها ، ويتساوي احتمال وجودها بالنسبة إلى كلّ جزء من القطعة المذكورة ، فيكفي توجّه الوجه نحو القوس الذي يحتمل في كلّ جزء منه وجود الكعبة ; وهذا المعنى يختلف سعةً وضيقاً باختلاف آحاد المصلّين ، من حيث أنّه قد يعلم بوجود الكعبة في ربع الدائرة ، وقد يعلم بوجودها في أزيد أو أنقص من هذا المقدار ، وحينئذ فيتوجّه عليه الإشكال بأنّ الشطر الذي أمر بتولية الوجه إليه أمر واقعي لا ارتباط له بحال المكلف ، من حيث العلم والجهل ، لأنّ الكلام في الحكم الواقعي الذي جعل لجميع المكلّفين ، والآية الشريفة(3) أيضاً ناظرة إليه ، والحكم الواقعي هو الذي جعل للناس مع قطع النظر عن حالاتهم من حيث العلم والجهل ، وحينئذ فالتفسير المذكور لا يناسبه ، بل يناسب الحكم الظاهري .
وأغرب التعاريف ما نقله صاحب الجواهر(قدس سره) عن الفاضل المقداد والمحقّق
- (1) جامع المقاصد 2 : 49 .
- (2) الروضة البهيّة 1 : 190 .
- (3) البقرة : 144 ، 150 ; فولّ وجهك . . .
(الصفحة 204)
الثاني في شرح الألفية ـ وذهب إليه الشيخ بن فهد(1)ـ من أنّ جهة الكعبة التي هي القبلة للبعيد خطّ مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب ، ويمرّ بسطح الكعبة ، ويعتبر أن يخرج من موقف المصلّي خطّ مستقيم آخر واقع على الخط المذكور على نحو يحدث بين جنبيه زاويتان قائمتان ، فلو كان الخطّ الخارج من موقف المصلّي واقعاً على الخطّ المذكور بحيث يحدث زاويتان : إحداهما حادّة ، والاُخرى منفرجة ، لا يتحقّق التوجّه نحو الكعبة ولم يكن المصلّي مستقبلا إليها(2) .
وجه الأغربية أنّه لو كان موقف المصلّي قريباً إلى المشرق مثلا وعلم بفعل المعصوم أو غيره أنّ الكعبة واقعة قريب المغرب ، يلزم على هذا بطلان صلاته لو توجّه نحو الكعبة ، لأنّ الخط الذي يخرج من موقف المصلّي ويقع على الكعبة ليس بحيث يحدث بين طرفيه زاويتان قائمتان ، بل تحدث من طرف اليمين زاوية منفرجة ومن اليسار زاوية حادّة ، وبطلان التالي ضروريّ ، فليس هذا التعريف ممّا يمكن أن يعتمد عليه .
والذي يقوى في النظر في تعريف الجهة ، هو الذي ذكره المحقّق في المعتبر واختاره(3) وقد سبق ، ويمكن أن يقال في تقريبه : إنه وإن كان يتوقّف تحقّق توجّه الوجه إلى شيء على خروج خط مستقيم من وسط الوجه ووقوعه على ذلك الشيء ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى القريب ، وأمّا البعيد فيكفي فيه مجرّد خروج خط مستقيم من جزء من أجزاء وجهه إليه وإن لم يكن من وسطه ; للزوم الحرج في المقام لو أوجبنا خروج ذلك الخط من وسط الوجه وهو منفيّ شرعاً .
ويؤيّد ما ذكرنا صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا صلاة إلاّ إلى
- (1) المهذّب البارع 1 : 307 .
- (2) جواهر الكلام 7 : 336 .
- (3) المعتبر 2 : 65 .
(الصفحة 205)
القبلة» قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : «بين المشرق والمغرب قبلة كلّه»(1) . وصحيحة معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق(عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له : «قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة»(2) .
توضيحه : إنه ليس المراد من المشرق والمغرب المذكورين في هاتين الروايتين منتهى الخط الذي يخرج من طرف اليمين واليسار بالنسبة إلى الشخص الذي وقع في مركز الدائرة متوجّهاً إلى جانب القبلة ، بل المراد منهما كلّ ما يصدق عليه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ، ومن المعلوم أنّ لها مشارق ومغارب مختلفة تطلع كلّ يوم من أحدها وتغرب في أحدها ، مثلا تطلع أوّل الشتاء من نقطة قريبة إلى الجنوب ، وأوّل الصيف من نقطة قريبة إلى الشمال ، فالنقاط الفاصلة بين هاتين النقطتين كلّها مشرق للشمس .
وحينئذ فالقبلة التي هي ما بين المشرق والمغرب هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ولو في يوم ، وهذا المقدار مساو لربع الكرة تقريباً، فالقبلة بمقتضى الروايتين هو ربع الكرة، وهذاالمقداريساوي ما ذكرنا، لأنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه على نحو غير التوازي لا يكون انتهاء البعد بينها أزيد من ذلك المقدار ، فلا محالة تقع إحدى الخطوط الخارجة على الكعبة.
ويؤيّده أيضاً ما دلّ من الأخبار على وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع الاشتباه وتعذّر الترجيح(3) ، فإنّ ظاهرها أنّ مع الإتيان بالصلوات الأربع يكون
- (1) الفقيه 1 : 180 ح 885 ; الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب10 ح 2 .
- (2) الفقيه 1 : 179 ح846 ; التهذيب 2 : 48 ح157 ; الإستبصار 1 : 297 ح1095 ; الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب10 ح1 .
- (3) الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب8 .
(الصفحة 206)
المصلّي مدركاً للصلاة إلى القبلة واقعاً ، وهذا يتم بناءً على ما ذكرنا ، وإلاّ فبناءً على اعتبار خروج الخط من وسط الوجه يلزم أن يصلّي أكثر من ذلك المقدار ; والحاصل أنّه لو خرج من جزء من أجزاء وجه البعيد خط مستقيم ووقع على الكعبة يصدق عليه أنّه متوجّه شطرها ، فتنطبق عليه الآية الشريفة(1) .
ثمّ إنّ الشيخ(رحمه الله)(2) القائل بأنّ قبلة البعيد هي عين الحرم ، استند لذلك بأخبار تدلّ على أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد ، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم ، والحرم قبلة لأهل الدنيا ; وقد تقدّم أكثرها(3) ، ورجّحها على الأخبار الدالة على أنّ الكعبة قبلة لجميع المسلمين بوجه عقلي ، وهو أنّه لو كان قبلة البعيد هي عين الكعبة يلزم بطلان صلاة بعض الصف الذي كان طوله أزيد من طول الكعبة ، وبطلان التالي معلوم بالضرورة . وقد يقال : بأنّ هذا الإشكال وارد عليه أيضاً ولكن يمكن أن يناقش فيه بأنّ الشيخ(قدس سره) يتمسّك في بطلان التالي بالسيرة المستمرّة من زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا ، وهي غير متحقّقة في ما أشكل عليه كما لا يخفى .
والحقّ في الجواب عنه أن يقال : إنه يمكن الالتزام بأنّ القبلة هي عين الكعبة مع عدم لزوم البطلان في الصورة المفروضة ، لأنّ الصف المذكور إذا راعوا كلّهم رعاية صحيحة وتوجّهوا نحو الكعبة على طبق الأمارات التي عيّنت لهم شرعاً كان لصفّهم لا محالة إنحناء غير محسوس ، والخطوط الخارجة من كلّ واحد منهم إلى الكعبة غير متوازية .
والسرّ في عدم احساس الانحناء هو أنّ المصلّين إلى القبلة يقعون في الحقيقة في محيط دائرة أحاطت بالكعبة ووقعت في مركزها ، ومن المعلوم أنّه كلّما كان طول
- (1) البقرة : 144 ، 150 ، فولّ وجهك . . .
- (2) المبسوط 1 : 77 ; الخلاف 1 : 295 مسألة 41 ; النهاية : 63 .
- (3) الوسائل 4 : 303 . أبواب القبلة ب3 .
(الصفحة 207)
شعاع الدائرة أزيد مقداراً كانت القسى المنقطعة عن سائر أجزاء محيطها أشبه بالخطّ المستقيم ، بحيث قد يبلغ إلى درجة لا يحسّ الانحناء أصلا .
ثمّ إنّه ذهب إلى القول الأوّل جماعة من محقّقي المتأخّرين كصاحب الجواهر(قدس سره)فإنّه بعد أن حكى عن الأصحاب أقوالا مختلفة ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي عين الكعبة أو جهتها؟ ـ قال ما ملخّصه :
إنّ قبلة البعيد هي بعينها قبلة القريب ، فكما أنّ القريب المشاهد يجب أن يستقبل عين الكعبة ، فكذلك البعيد يجب أن يتوجه نحوها ، وهذا المعنى ـ أي التوجه نحو العين ـ ليس أمراً ممتنعاً ، لأنّه كما يصدق الاستقبال في المشاهد كذلك يصدق في البعيد ، لأنّه لا يعتبر في صدقه وقوع خطّ المستقبل ـ بالكسر ـ على المستقبل ـ بالفتح ـ ، لأنّ الاستقبال الذي أمر به أمر عرفيّ ، وهو يصدق عرفاً بدون ذلك ، ضرورة تحقّقه عرفاً في الأجرام المشاهدة من بعيد ، وإن نقطع بعدم اتصال جميع الخطوط الخارجة بها .
والحاصل أنّه وإن كان يتوقّف صدق الاستقبال الحقيقي على ذلك ، أي على وقوع خطّ المستقبل على المستقبل ، إلاّ أنّه لا يعتبر في تحقّق الاستقبال العرفي لما عرفت ، وإلى ذلك يرجع ما هو المشهور بين الأعلام من أنّ الجسم كلّما ازداد بُعداً إزداد محاذاةً ، لأنّهم لا يريدون أنّ في صورة ازدياد البعد يكون صدق المحاذي الذي يقع خطّه على المحاذى ، أوسع من صورة القرب ، لأنّ وقوع خط المحاذي على المحاذى وعدمه لا فرق فيما بين محاذاة القريب والبعيد ، بل مرادهم أنّ في صورة كثرة البعد يكون صدق المحاذي على الأشخاص الذين وقعوا في مقابل الجسم في نظر العرف أكثر وأوسع من صورة القرب .
فعلى هذا لا إشكال في صحّة الصلاة في الصورة المفروضة في كلام الشيخ(قدس سره)لأنّه يصدق عرفاً على كلّ واحد منهم أنّه مستقبل الكعبة ومتوجّه نحوها ، وإن كان