(الصفحة 208)
بعض الخطوط الخارجة لا يقع عليها(1) ، انتهى .
وفيه أنّ استقبال الشيء لا يصدق بدون اتصال الخطّ المذكور إلى ذلك الشيء ، وصحّة الصلاة في الصورة المذكورة قد عرفت وجهها في مقابل الجواب عن الشيخ(رحمه الله) .
ثمّ لو قلنا بأنّ قبلة البعيد هي عين الكعبة ، يقع الكلام في وجه صحّة صلاة من كان في بلاد مختلفة التي يكون البعد بينها أزيد من طول الكعبة ، أو في بلد كذلك مع توجّهم في الصلاة إلى جهة واحدة ، فهل الوجه في صحّتها أنّه لا يعتبر في تحقّق الاستقبال عرفاً وقوع خط المستقبل على المستقبل ، وإن كان يتوقّف تحقّق المحاذاة على ذلك ، أو أنّه لا فرق بين الاستقبال والمحاذاة ، فكما أنّه لا يعتبر في الأوّل فكذلك لا يتوقّف صدق الثاني عليه ، وإن كان يعتبر في محاذاة القريب للقريب ذلك .
والأوّل قد عرفت ما فيه ، والثاني وإن كان قد استشهد عليه بالوجدان وقيل في توضيحه : إنّك لو كنت في موقف قريب من الصفّ المركّب من أفراد كثيرة ، ووقعت في محاذاتهم ، لتجد نفسك محاذياً لواحد منهم ، وإذا بعدت عنهم على نحو لو خرج من موقفك الأوّل خط مستقيم لوقع على موقفك الثاني لتجد نفسك محاذياً لجميعهم ، وإن كان الخط الخارج من وجهك لا يقع إلاّ على وجه واحد منهم ، وهو الذي عبّر عنه الأعلام في كلماتهم بأنّ الجسم كلّما ازاد بعداً إزداد محاذاةً(2) .
والحاصل أنّ المحاذاة أمر واحد متفاوت الصدق بالنسبة إلى القريب والبعيد ، ولكن فيه ـ مع أنّ هذا المثال عكس ما نحن فيه ـ : أنّ ازدياد البعد عن ذلك الصف يوجب أن يكون الصفّ كالشيء الواحد في نظر المحاذي ، ومن المعلوم أنّ الشيء الواحد لو وقع الخط الخارج من المستقبل على بعض أجزائه لا يخرج عن صدق
- (1) جواهر الكلام 7 : 331 ـ 332 .
- (2) الذكرى 3 : 160 ; نهاية الأحكام 1 : 393 ; مسالك الأفهام 1 : 152 .
(الصفحة 209)
المحاذاة ، فالخطّ الخارج في المثال من المحاذى وإن كان يقع على بعض أفراد ذلك الصف إلاّ أنّه لمّا كان بمنزلة شيء واحد ويكفي في محاذاته وقوع الخط على بعض أجزائه ، فلذا تصدق المحاذاة لذلك الصفّ .
ويمكن أن يكون الوجه في ازدياد سعة المحاذاة بالنسبة إلى البعيد أنّ الشخص لو كان قريباً من ذلك الصفّ ليقع جميع الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على بعض أفراد ذلك الصف ، وأمّا لو كان بعيداً عنهم ليقع الخطوط الخارجة على تمام أفراده ; والسّر فيه ما تقدّم من أنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه ليس على نحو التوازي ، بل على نحو كلّما كان طولها أزيد ، كان ازدياد البعد بينها أكثر ، وفي البعيد لمّا كان طول الخطوط الخارجة أزيد من القريب فلذا يكون البعد بينها أكثر ، ومع ازدياد البعد لا يقع جميع الخطوط على بعض الأفراد ، بل على جميعها .
هذا . ولعلّ الوجه في صحّة الصلاة في مفروض المسألة ـ بناءً على اعتبار العين ـ هو ما تقدّم في وجه صحّة صلاة الصفّ الذي كان طوله أزيد من الكعبة فراجع .
إذا عرفت ما ذكرنا تظهر لك أوسعية أمر القبلة ، كما يدل عليه ما رواه الشيخ بإسناده عن الطاطري ، عن جعفر بن سماعة ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال : سألته عن القبلة؟ فقال(عليه السلام) : «ضع الجدي في قفاك وصلّ»(1) فإنّ المراد من القفا إمّا أن يكون مقدار ما بين الكتفين ، أو المقدار الذي وقع ظهر الوجه وهو ربع الدائرة التي تتشكّل من الوجه والعنق ، وطرفي اليمين واليسار .
وعلى أيّ تقدير فجعل الجدي على القفا في أوساط العراق كالكوفة يحتاج إلى
- (1) التهذيب 2 : 45 ح143 ; الوسائل 4 : 306 . أبواب القبلة ب5 ح1 .
(الصفحة 210)
الإنحراف عن نقطة الجنوب إلى المغرب ، والتخصيص بأوساط العراق لأجل أنّ السائل ـ وهو محمّد بن مسلم ـ من أهل الكوفة .
وما رواه الصدوق قال : قال رجل للصادق(عليه السلام) : إنّي أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل ، فقال : أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ قلت : نعم . قال : «إجعله على يمينك وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك»(1) .
ولا يعلم منه أنّ السائل من أهل أيّ بلد كان وجعل الجدي على اليمين قد ينطبق على بعض بلاد الهند ، وهو لا ينطبق مع جعلهم الجدي في طريق الحجّ على كتفهم ، فإنّ طريق حجهم يكون من البحر ، وفي هذا الطريق لا يتفاوت قبلتهم مع كونهم في بلدهم ، اللّهم إلاّ أن يكون طريق حجّهم من البرّ فينطبق مع الأوّل ، والمراد بطريق الحجّ هو الطريق الذي لا يقصد غالباً بطيّه غير الحجّ ، وتخصيص السائل عدم اهتدائه بالليل يشعر بأنّه يعرف القبلة في النهار بالشمس أو غيرها .
ورواية معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق(عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له : «قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة»(2) .
ورواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» . قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه»(3) فإنّ المراد بما بين المشرق والمغرب المذكور فيهما إمّا ما ذكرنا من أنّه المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ، ولو في يوم في كلّ سنة ، فإنّ لها مشارق
- (1) الفقيه 1 : 181 ح860 ; الوسائل 4 : 306 . أبواب القبلة ب5 ح2 .
- (2) الفقيه 1 : 179 ح846 ; التهذيب 2 : 48 ح157 ; الاستبصار 1 : 279 ح1095 ; الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب10 ح1 .
- (3) الفقيه 1 : 180 ح855 ; الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب10 ح2 .
(الصفحة 211)
ومغارب مختلفة ، وباختلافهما تختلف المدارات التي تسير الشمس فيها ، فعلى هذا تكون القبلة ربع الدائرة المفروضة التي تمرّ بسطح الكعبة .
وأمّا ما هو المفهوم منهما عند العرف فإنّه لا يتوجّه إلى أنّ للشمس مشارق ومغارب مختلفة ، بل يفهم منهما الطرفين اللذين يتقاطع الخطّ الخارج منهما مع الخط الذي يخرج من نقطة الشمال إلى الجنوب ، فعلى هذا تكون القبلة نصف الدائرة المذكورة تقريباً .
وعلى أيّ تقدير فتدل الروايتان على أوسعية القبلة ، إلاّ أنّ المعنى الثاني غير مفتى به لأحد من الأصحاب . هذا ، ويمكن أن يقال : إنّه ليس المراد بقول الإمام(عليه السلام) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» إنّه قبلة لجميع الأشخاص في تمام الحالات حتى يدل على أوسعية دائرة القبلة مطلقاً ، بل المراد أنّه قبلة في الجملة .
توضيحه ، إنّ الإمام(عليه السلام) ذكر في رواية زرارة أنّه «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» ومعناه أنّه لا يصدق عنوان الصلاة على فعل من كان مستقبلا إلى غيرها فسأل الراوي عن حدّ القبلة التي لو كان المصلّي متوجّهاً نحوها لصدق على فعله أنّه صلاة فقال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» فقوله هذا بيان لحدّ صدق الصلاة ، وذلك قضية مجملة لا تدلّ على أنّها قبلة لجميع المصلّين في جميع الحالات ، فيمكن أن يختصّ ذلك بحال الإشتباه أو خطأ المجتهد في إجتهاده أو غيرهما من الأعذار .
وبالجملة : فمفاد الرواية صدق عنوان الصلاة على الصلاة الواقعة إلى ما بين المشرق والمغرب ، وأمّا كون ذلك الصدق ثابتاً بنحو الإطلاق وفي جميع الموارد فلا يستفاد منها أصلا ، والشاهد على ذلك ما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ،
(الصفحة 212)
قال : «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه ساعة يعلم ، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثم يحوّل وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة»(1) فإنّ ظاهر هذه الرواية أنّ القبلة التي لو كان المصلّي عالماً بها من أوّل صلاته لوجب عليه أن يتوجّه نحوها ، هي الأخصّ ممّا بين المشرق والمغرب ، والمراد بدبر القبلة ليس هي النقطة المقابلة لها ، بل المراد به بقرينة سابقه هو الذي لايكون مشرقاً ولا مغرباً ولا بينهما ; وما رواه عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد عن ا لحسن بن ظريف ، عن الحسين بن علوان ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عن عليّ(عليهم السلام) أنّه كان يقول : «من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثم عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب»(2) . وتقريب دلالتها على ذلك يعلم ممّا ذكر آنفاً .
ثمّ إنّه قد روى نظير هاتين الروايتين بعض العامّة عن ابن عمر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3) ، والمترائى من الناقلين أنّها معمول بها عندهم ، ولذا حملوها على المناطق التي وقعت في شمال مكّة كالمدينة ونحوها .
وممّا يؤيّد أيضاً ما ذكرنا من أوسعية دائرة القبلة ، ما ذكره المحقّق في الشرائع(4)علامة لأهل العراق من جعل الجدي خلف المنكب الأيمن أو جعل عين الشمس وقت الزوال على الحاجب الأيمن أو جعل المشرق على الأيمن والمغرب على الأيسر ، فإنّ مقتضى هذه العلامات مختلف فإنّ المصلّي لو عمل على طبق الأمارة
- (1) الكافي 3 : 285 ح8 ; التهذيب 2 : 48 ح159 وص142 ح555 ; الإستبصار 1 : 298 ح1100 ; الوسائل 4 : 315 . أبواب القبلة ب10 ح4 .
- (2) قرب الإسناد : 107 ح381 ; الوسائل 4 : 315 . أبواب المواقيت ب10 ح5 .
- (3) السنن الكبرى ج2 : 9 .
- (4) شرائع الاسلام 1: 66.