(الصفحة 212)
قال : «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه ساعة يعلم ، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثم يحوّل وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة»(1) فإنّ ظاهر هذه الرواية أنّ القبلة التي لو كان المصلّي عالماً بها من أوّل صلاته لوجب عليه أن يتوجّه نحوها ، هي الأخصّ ممّا بين المشرق والمغرب ، والمراد بدبر القبلة ليس هي النقطة المقابلة لها ، بل المراد به بقرينة سابقه هو الذي لايكون مشرقاً ولا مغرباً ولا بينهما ; وما رواه عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد عن ا لحسن بن ظريف ، عن الحسين بن علوان ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عن عليّ(عليهم السلام) أنّه كان يقول : «من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثم عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب»(2) . وتقريب دلالتها على ذلك يعلم ممّا ذكر آنفاً .
ثمّ إنّه قد روى نظير هاتين الروايتين بعض العامّة عن ابن عمر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3) ، والمترائى من الناقلين أنّها معمول بها عندهم ، ولذا حملوها على المناطق التي وقعت في شمال مكّة كالمدينة ونحوها .
وممّا يؤيّد أيضاً ما ذكرنا من أوسعية دائرة القبلة ، ما ذكره المحقّق في الشرائع(4)علامة لأهل العراق من جعل الجدي خلف المنكب الأيمن أو جعل عين الشمس وقت الزوال على الحاجب الأيمن أو جعل المشرق على الأيمن والمغرب على الأيسر ، فإنّ مقتضى هذه العلامات مختلف فإنّ المصلّي لو عمل على طبق الأمارة
- (1) الكافي 3 : 285 ح8 ; التهذيب 2 : 48 ح159 وص142 ح555 ; الإستبصار 1 : 298 ح1100 ; الوسائل 4 : 315 . أبواب القبلة ب10 ح4 .
- (2) قرب الإسناد : 107 ح381 ; الوسائل 4 : 315 . أبواب المواقيت ب10 ح5 .
- (3) السنن الكبرى ج2 : 9 .
- (4) شرائع الاسلام 1: 66.
(الصفحة 213)
الاُولى يلزم عليه أن ينحرف عن نقطة الجنوب نحو المغرب بقليل لو جعلنا المنكب عبارة عمّا بين المفصل والعنق ، ولو جعلناه عبارة عمّا بين المفصل والعضد لزم أن ينحرف كثيراً .
وأمّا لو عمل على طبق الأمارة الثانية لزم الإنحراف عن نقطة الجنوب نحو المشرق فإنّ الشمس تكون في تلك الحالة على دائرة نصف النهار ، وجعلها في هذه الحالة على الحاجب الأيمن يستلزم الإنحراف المذكور ، وأمّا لو راعى العلامة الثالثة فاللازم أن يتوجّه نحو نقطة الجنوب .
فظهر أنّ مقتضى هذه العلامات لا يكاد يجتمع ، وعدم الاجتماع مع كونها علامة لأهل بلد واحد دليل على ما ذكرنا ، إلاّ أن يقال إنّ هذه الأمارات ليست علامات لجميع أهل العراق بل يختصّ كلّ واحدة منها ببلد منه ، فالعلامة الاُولى تكون أمارة لأوساط العراق كالكوفة ، والثانية لأطرافه الغربية كسنجار ، والثالثة لأطرافه الشرقية كالبصرة وما والاها ، ولكن يبعد ذلك عدم القرينة على التخصيص ، مضافاً إلى وجود القرينة على الخلاف ، وهي أنّ قبلة الأطراف الغربية من العراق كالموصل ، هي نقطة الجنوب دون الإنحراف عنها إلى جانب المشرق .
وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ قبلة البعيد هي ربع الدائرة التي تمرّ بسطح الكعبة ، وتقع الكعبة في جزء منها ، فيكفي توجّه المستقبل نحو ذلك الربع ، وهو الربع الذي يكون محاذياً للأمام الذي هي جهة من الجهات الأربع ، فإنّ الشخص إذا وقف في مركز دائرة ، يكون كلّ ربع من هذه الدائرة محاذياً لربع دورة رأسه ، فيكفي محاذاة ربع دورة الرأس المسمّى بالوجه لربع الدائرة الكبيرة التي وقع الشخص في مركزها ، وهو الربع الذي يكون مشتملا على الكعبة ; فافهم واغتنم .
(الصفحة 214)
المسألة الثانية : كفاية العمل بالمظنّة في القبلة
لو علم المستقبل بالجهة التي وقعت الكعبة فيها بسبب الأمارات التي عيّنت شرعاً لتعين القبلة أو بغيرها ، وجب عليه العمل على طبقه .
ودعوى أنّ تلك الأمارات لا تفيد العلم بالقبلة بل تورث الظنّ بها .
مدفوعة بأنّا لا نسلّم ذلك إذا كانت القبلة للبعيد هي الجهة بالمعنى المذكور ، فإنّها بناءً عليه تفيد العلم قطعاً . نعم لو كانت القبلة هي عين الكعبة ، فالتحقيق أنّها تفيد الظن بها كما عن الشهيد الثاني وغيره(1) ، ولو لم يعلم بتلك الجهة كما إذا كانت الشمس في النهار ، أو القمر وسائر النجوم في الليل مستورة تحت غيم ونحوه ، ولم يتميّز قطب الشمال أو الجنوب ، ففي كفاية العمل بالمظنة أو عدمها خلاف .
ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في هذا المقام ، فطائفة منها تدل على كفاية العمل بالظن ، مثل ما رواه الكليني في الصحيح عن زرارة قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : «يجزئ التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(2) فإنّ لفظ التحرّي قد اُطلق على العمل على طبق الراجح ، فإنّه هو الأحرى من العمل بالمرجوح ، كما هو المتداول في تلك الأزمنة .
والمراد بالاجزاء إمّا أن يكون هو الاجزاء بالنسبة إلى مقام العمل ، بمعنى أنّه يجوز للمكلّف في مقام العمل أن يعتمد على الظنّ ويعمل على طبقه ، وحينئذ فلا
- (1) مسالك الأفهام 1 : 156 ; الروضة البهيّة 1 : 192 ; الذكرى 3 : 162 ; جامع المقاصد 2 : 69 ; مدارك الأحكام 3 : 131 ـ 132 .
- (2) الكافي 3 : 285 ح7 ; التهذيب 2 : 45 ح146 ; الاستبصار 1 : 295 ح1087 ، الوسائل 4 : 307 . أبواب القبلة ب6 ح1 .
(الصفحة 215)
تعرّض في الرواية لحال المكلّف بعد انكشاف الخلاف .
وإمّا أن يكون هو الاجزاء بالنسبة إلى الواقع ، ومعناه أنّه يكفي ذلك واقعاً كصورة العلم بالقبلة ، فيجزي العمل على طبق المظنة ، ولو انكشف الخلاف وهو الظاهر من الرواية .
ثمّ إنّ فيها إشعاراً بأنّ عدم العلم بالقبلة أمر قد يتّفق وهو مؤيّد لما ذكرناه من أنّ قبلة البعيد هي الجهة دون العين ، إذ لو كانت قبلة البعيد هي العين لزم أن تكون صورة عدم العلم أكثر من صورة العلم كما لا يخفى ; ومثل رواية سماعة قال : سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال(عليه السلام) : «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك»(1) . فإنّ الرأي هو المشي على طبق الظنّ .
وجملة من الأخبار تدل على كفاية الصلاة إلى إحدى الجوانب الأربع للمتحيّر ، مثل ما رواه زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) إنّه قال : «يجزئ المتحيّر أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(2) . ومرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا ، عن زرارة قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قبلة المتحيّر؟ فقال : «يصلّي حيث يشاء»(3) فإنّ ظاهرهما كفاية الصلاة إلى أيّ جهة شاء المصلّي المتحيّر .
والمراد بالمتحيّر إمّا من لا علم له كما يدل عليه ذيل الرواية الاُولى فيشمل صورة المظنة أيضاً ، وحينئذ فيتحقق التعارض بينهما وبين الروايتين المتقدمتين الدالتين على وجوب العمل بالظن ، وقاعدة الجمع حينئذ تقتضي التخصيص وحمل
- (1) الكافي 3 : 284 ح1 ; التهذيب 2 : 46 ح147 وص255 ح1009 ، الإستبصار 1 : 295 ح1089 ; الوسائل 4 : 308 . أبواب القبلة ب6 ح2 .
- (2) الفقيه 1 : 179 ح845 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح2 .
- (3) الكافي 3 : 286 ح10 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح3 .
(الصفحة 216)
هاتين الروايتين على المتحيّر غير الظانّ ، وإمّا أن يكون هو من لا علم له ولا ظنّ ، كما هو الظاهر من المتحيّر ، فإنّ من كان ظانّاً بشيء لا يكون عند العقلاء والعرف متحيّراً في ذلك الشيء ، فعلى هذا لا تعارض بين الطائفتين ، بل تكون الطائفة الاُولى واردة على الثانية ، والظاهر من الروايتين هو الإحتمال الثاني ، فإنّ من كان ظانّاً بالقبلة وصلّى إلى الجانب الموهوم ، يعدّ فعله عند العقلاء قبيحاً ، فإنّه من ترجيح المرجوح على الراجح ، هذا .
وبعض الأخبار الواردة في الباب يدلّ على وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب ، مثل ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن العبّاس ، عن عبدالله بن المغيرة ، عن إسماعيل بن عبّاد ، عن خراش ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : «ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه»(1) .
ومقتضى هذه الرواية وجوب الصلاة لأربع وجوه في مورد المظنة ، فتعارض جميع الروايات المتقدّمة ، ولكنّها موهونة من جهة مجهولية بعض رواته كخداش [حراش ] ، ومن جهة الإرسال ، مضافاً إلى أنّ مقتضى ظاهرها أنّ الشيعة لا يعمل على طبق الظنّ أصلا ولو في مورد ، مع أنّه خلاف ما عليه جميع علمائهم من العمل بالظنّ في موارد كثيرة ، كالظنّ في الركعتين الأخيرتين في الصلاة ، وغيره من الموارد ; فلا يمكن الاعتماد على مثل هذه الرواية .
ولم يبق معارض للطائفة الاُولى من الأخبار الدالة على وجوب العمل بالمظنة إلاّ بعض ما يدل من الأخبار على وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب عدا الرواية
- (1) التهذيب 2 : 45 ح144 ; الإستبصار 1 : 295 ح1085 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح5 .