(الصفحة 217)
المتقدّمة ، وهي مرسلة الصدوق قال : روي فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة «أنّه يصلّي إلى أربعة جوانب»(1) . ومرسلة الكليني قال : وروي أيضاً «أنّه ـ أي المتحير ـ يصلي إلى أربع جوانب»(2) .
ومقتضى الجمع أن يقال : إنّ الطائفة الاُولى من الأخبار تكون أخصّ من المرسلة الاُولى لو كان المراد بعدم الإهتداء هو عدم الإهتداء علماً ، فيجب تخصيصها بها ، ولو كان المراد به عدم الإهتداء ولو ظنّاً فلا تعارض بينهما .
وأمّا المرسلة الثانية فموردها المتحيّر ; وقد عرفت الجمع بين الأخبار الواردة في المتحير والأخبار الدالة على وجوب التحرّي والعمل بالظنّ ، فراجع .
نعم تبقى المعارضة بين نفس الأخبار الواردة في المتحيّر وسيجيء حكمه .
هذا كلّه فيما إذا تمكّن المصلّي من تحصيل الظنّ ، وأمّا إذا لم يحصل له العلم ولا الظنّ ، بل كان متحيّراً في جهة الكعبة ، فمقتضى بعض الأخبار كرواية زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّمة المروية في الفقيه ، ومرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة المروية في الكافي . أنّه يجزي المتحرّي أينما توجّه ، وإلى أيّ جهة شاء ، ومقتضى مرسلتي الصدوق والكليني المتقدّمتين أيضاً وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب .
والروايتان الاُوليان وإن كانتا مرسلتين أيضاً إلاّ أنّ الإرسال لا يضرّ باعتبارهما ، لإنجباره بفتوى جلّ الأصحاب على طبق مضمونهما ، وكيف كان فمرجع الخبرين الأولين إلى سقوط شرطية الإستقبال في صورة التحيّر ، ومرجع الأخيرين إلى ثبوتها مطلقاً ، فيتعارضان فيسقطان ، فيرجع إلى الإطلاقات الدالة على شرطية الإستقبال مطلقاً حتّى في صورة التحيّر ، وقد تقدّم بعضها في أوّل
- (1) الفقيه 1 : 180 ح854 ; الوسائل 4 : 310 . أبواب القبلة ب8 ح1 .
- (2) الكافي 3 : 286 ذ ح10 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح4 .
(الصفحة 218)
المبحث .
ثمّ إنّ المراد بالظنّ الذي يجب العمل على طبقه هو الظن الحاصل بعد التحرّي والاجتهاد ، لا الأعمّ منه ومن الظن الابتدائي ، لظهور الأخبار في ذلك كخبر سماعة المتقدّم وغيره .
ثمّ إنّه هل يكفي في مورد المظنّة أن يصلّي إلى الجوانب الأربعة الذي هو مقتضى الإحتياط أم لا يجوز ، بل يجب العمل على طبقها؟ وجهان مبنيّان على أنّه هل يكفي للمكلّف القادر على تحصيل الإمتثال التفصيلي ولو ظنّاً أن يقتصر على الإمتثال الإجمالي أم لا ، بل يجب عليه إتيان العمل على نحو الإمتثال التفصيلي ولو ظنّاً؟ وقد ذكر في محلّه(1) فراجع .
ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّه تجب الصلاة إلى أربعة جوانب على المتحيّر الذي لايتمكّن من تحصيل العلم ولا الظنّ ، إنّما هو في صورة تمكّنه من الصلاة إليها ، كما إذا لم يكن الوقت مضيقاً ولم يكن عرض به ما يمنعه عنها ، وأمّا إذا لم يتمكّن من الصلاة إلى أربعة جوانب ، إمّا لضيق الوقت ، أو لشيء من الموانع والطوارئ ، فإن لم يتمكّن إلاّ من الصلاة إلى جهة واحدة فقط فيجب عليه صلاة واحدة إلى جهة واحدة مخيّراً في تعيينها ، كما يدلّ على ذلك ما دلّ على أنّ المتحيّر يصلّي إلى أيّ جهة شاء(2) ، بعد حملها على صورة عدم تمكّنه من الصلاة إلى الجوانب الأربعة ، لمعارضتها لما يدلّ على أنّه يجب على المتحيّر الصلاة إليها(3) .
وهل يجب عليه بعد التمكّن وزوال المانع أن يصلّي إلى باقي الجهات أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّه هل يستفاد من الروايات الدالّة على كفاية الصلاة إلى
- (1) فرائد الاُصول : 14 .
- (2) الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح3 .
- (3) الوسائل 4 : 310 ـ 311 . أبواب القبلة ب8 ح1 و 4 .
(الصفحة 219)
إحدى الجهات ـ بعد حملها على الصورة المذكورة ـ سقوط شرطية القبلة في تلك الصورة ، وانّ الصلاة الواحدة هو التكليف الواقعي لذلك الشخص ، ولو لم يصادف القبلة ، أو أنه لم يسقط شرطيتها وأنّ المكلف به ، الصلاة إلى القبلة الواقعية؟ غاية الأمر أنّه يكتفي بالواحدة ، لعدم تمكّنه من الصلاة إلى باقي الجهات ، فإذا تمكّن وزال المانع في الوقت أو خارجه يجب عليه الصلاة إلى بقية الجهات ; ولعلّ الظاهر من الرواية هو المعنى الأوّل فتدبّر .
وأمّا إذا تمكّن من الصلاة إلى جهتين أو ثلاث جهات ، ففي وجوب صلاة واحدة إلى جهة واحدة فقط ، أو وجوب مقدار تمكّن منه ، خلاف ، فالمحكيّ عن بعض هو الإكتفاء بالواحدة ، وعدم وجوب الزائدة عليها(1) ، واستدل له بأنّ وجوب الصلاة إلى الجوانب الأربعة إنّما هو مقدّمة للعلم بتحقّق الواجب الواقعي الذي هو الصلاة إلى القبلة الواقعية ، ومن المعلوم أنّ المقدّمة العلمية إنّما تجب مع تحقق العلم بعدها ، وأمّا مع عدم إمكان تحققه فغير واجبة عند العقل ، والمفروض في المقام أنّ المكلف غير قادر على الإتيان بجميع المحتملات التي توجب العلم ويتحقق بعدها .
وفيه : أنّ العلم بتحقّق الواجب الواقعي ليس واجباً مستقلاًّ في مقابل نفس الواجب الواقعي حتى تجب مقدّماته الوجودية ، واستحق المكلّف بإتيانه المثوبة ، وبمخالفته العقوبة ، اللّتين يستحقّهما المكلّف بسبب اطاعة الواجب الواقعي ومخالفته ; بل المكلّف لمّا توجّه إليه التكليف الصادر من المولى وعلم به ، يحكم العقل عليه بأنّه يجب عليك إمتثاله ، فإذا كان المكلّف قادراً على الإمتثال اليقيني يحكم عليه بوجوبه . وأمّا إذا لم يتمكّن منه فالعقل يحكم عليه بوجوب السعي ،
- (1) الفقيه 1 : 179 ; وحكاه عن العمّاني في مختلف الشيعة 2 : 67 ; مجمع الفائدة والبرهان 2 : 67 ; مدارك الاحكام 3 : 136 ; الحدائق 6 : 400 ; مفاتيح الشرائع 1 : 114 ; الذخيرة 1 : 21 .
(الصفحة 220)
وتحصيل الجهد في حصول مراد المولى ومقصوده ، فإذا تمكّن من الإمتثال الظني يحكم بوجوبه عليه ، فإذا جهد وسعى غاية السعي ولم يصادف ما أتى به للواجب الواقعي فهو معذور عنده .
وفيما نحن فيه تكون غاية السعي ، إتيان مقدار يتمكّن منه من المحتملات ، لأنّ بإتيان الواحدة يحتمل أنّه لم يدرك الصلاة إلى القبلة الواقعية مع احتمال إدراكها في باقي الصلوات ، فإنّه وإن لم يتمكن من الموافقة القطعية ، وتشترك الصلاة الواحدة مع الأكثر في حصول الموافقة الإحتمالية إلاّ أنّ الموافقة الإحتمالية إذا كانت من وجوه متعددة بعضها أقرب إلى الإمتثال اليقيني من بعض آخر ، يحكم العقل بوجوب إتيان ما هو الأقرب ، نظير ما إذا علم بوجوب أحد الشيئين المتبائنين ، ولم يتمكّن من الإتيان بهما معاً .
ولكن يرجّح في نظره وجوب أحدهما على الآخر ، فإنّ العقل يستقل بترجيح الجانب المظنون ، ويحكم بأنّه لو كان الواجب الواقعي هو الطرف الموهوم لم يستحق المكلّف عقاباً بل هو معذور ; بخلاف ما إذا رجّح الجانب الموهوم ، لأنّ في الصورة الاُولى قد بذل المكلّف جهده في تحصيل مراد المولى بخلاف الثانية ، فالأقوى فيما نحن فيه هو القول بوجوب مقدار يتمكّن منه .
فرع :
إذا كان المكلّف المتحيّر متمكّناً من الصلاة إلى الجوانب الأربعة ولم يأت بشيء منها حتى زال تمكّنه ، وبقي متمكّناً من الصلاة إلى أحدها فلا ريب في وجوبها ; وهل يجب عليه بعد الوقت أن يصلّي إلى باقي الجهات أو لا؟ وجهان مبنيّان على سقوط شرطية القبلة في هذه الصورة وعدمه .
والأقوى هوالسقوط وعدموجوب القضاء بعد الوقت، لأنّه لا يزاحم شرطية
(الصفحة 221)
القبلة مع الوقت كما يعلم بالاستقراء والتتبّع في مواردمزاحمة الوقت مع سائر الشروط بل بعض الأجزاء ، كما في صورة فقدان الماء التي تجب الصلاة مع التيمّم ، فإنّه لولا أهمية الوقت لوجب أن يصلّي المكلّف مع الطهارة المائية ولو بعد الوقت ، وكذا لو تنجّس بدنه أو ثوبه ، فإنّه في الأول يجب عليه أن يصلّي في الوقت مع نجاسة البدن ، بمعنى أنّه تسقط شرطية الطهارة من الخبث ، وفي الثاني يجب عليه أن يصلّي عارياً على قول ، أو مع ثوبه المتنجس على قول آخر ، فعلى الأول تسقط شرطية الستر ، وعلى الثاني تسقط شرطية الطهارة من الخبث ; وكما في صورة سقوط السورة لضيق الوقت ونحوه وتبدّل بعض أجزائها بشيء آخر كذلك في صلاة الخوف .
وغير ذلك من الموارد ، فإنّه يعلم منها أنّ الشارع قد اهتمّ بالوقت ، ولم يسقط شرطيته في صورة المزاحمة مع الشروط الاُخر ، ففي المقام إذا قيل : بأنّ المكلّف مأمور بالصلاة إلى القبلة الواقعية ، لزم أن تسقط شرطية الوقت ، لأنّ الجمع بين التكليف الأدائي وحفظ شرطية القبلة أمر ممتنع ، فبملاحظة رعاية الوقت يجب الحكم بسقوط شرطية القبلة ، فالصلاة إلى الجهة الواحدة هي المأمور بها الواقعية لهذا المكلّف ، ومقتضى الإتيان بها سقوط الأمر ، فلا وجه لوجوب الصلاة إلى باقي الجهات بعد الوقت .
إن قيل : مقتضى ما ذكر عدم عصيان المكلّف لأجل تأخيره حتّى زال تمكّنه من الجوانب الأربعة ، لأنّه على الفرض قد أتى بما هو المأمور به واقعاً ، ولم يتحقّق منه مخالفة أصلا ، وليس هنا أمر آخر حتّى يستحقّ المكلّف بمخالفته العقوبة ، لأنّ الأمر الذي يتوهّم مخالفة المكلّف له هو الأمر بالصلاة إلى القبلة الواقعية ، ولكن يدفعه أنّ الأمر قد تعلّق بطبيعة الصلاة والتخيير بين أفرادها في أجزاء الوقت عقليّ .
ومن المعلوم أنّ الشرائط تختلف باختلاف حالات المكلف في أجزاء الوقت ، ففي حالة وجدان الماء تكون الصلاة مع الطهارة الواقعية مصداقاً لطبيعة الصلاة