(الصفحة 213)
الاُولى يلزم عليه أن ينحرف عن نقطة الجنوب نحو المغرب بقليل لو جعلنا المنكب عبارة عمّا بين المفصل والعنق ، ولو جعلناه عبارة عمّا بين المفصل والعضد لزم أن ينحرف كثيراً .
وأمّا لو عمل على طبق الأمارة الثانية لزم الإنحراف عن نقطة الجنوب نحو المشرق فإنّ الشمس تكون في تلك الحالة على دائرة نصف النهار ، وجعلها في هذه الحالة على الحاجب الأيمن يستلزم الإنحراف المذكور ، وأمّا لو راعى العلامة الثالثة فاللازم أن يتوجّه نحو نقطة الجنوب .
فظهر أنّ مقتضى هذه العلامات لا يكاد يجتمع ، وعدم الاجتماع مع كونها علامة لأهل بلد واحد دليل على ما ذكرنا ، إلاّ أن يقال إنّ هذه الأمارات ليست علامات لجميع أهل العراق بل يختصّ كلّ واحدة منها ببلد منه ، فالعلامة الاُولى تكون أمارة لأوساط العراق كالكوفة ، والثانية لأطرافه الغربية كسنجار ، والثالثة لأطرافه الشرقية كالبصرة وما والاها ، ولكن يبعد ذلك عدم القرينة على التخصيص ، مضافاً إلى وجود القرينة على الخلاف ، وهي أنّ قبلة الأطراف الغربية من العراق كالموصل ، هي نقطة الجنوب دون الإنحراف عنها إلى جانب المشرق .
وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ قبلة البعيد هي ربع الدائرة التي تمرّ بسطح الكعبة ، وتقع الكعبة في جزء منها ، فيكفي توجّه المستقبل نحو ذلك الربع ، وهو الربع الذي يكون محاذياً للأمام الذي هي جهة من الجهات الأربع ، فإنّ الشخص إذا وقف في مركز دائرة ، يكون كلّ ربع من هذه الدائرة محاذياً لربع دورة رأسه ، فيكفي محاذاة ربع دورة الرأس المسمّى بالوجه لربع الدائرة الكبيرة التي وقع الشخص في مركزها ، وهو الربع الذي يكون مشتملا على الكعبة ; فافهم واغتنم .
(الصفحة 214)
المسألة الثانية : كفاية العمل بالمظنّة في القبلة
لو علم المستقبل بالجهة التي وقعت الكعبة فيها بسبب الأمارات التي عيّنت شرعاً لتعين القبلة أو بغيرها ، وجب عليه العمل على طبقه .
ودعوى أنّ تلك الأمارات لا تفيد العلم بالقبلة بل تورث الظنّ بها .
مدفوعة بأنّا لا نسلّم ذلك إذا كانت القبلة للبعيد هي الجهة بالمعنى المذكور ، فإنّها بناءً عليه تفيد العلم قطعاً . نعم لو كانت القبلة هي عين الكعبة ، فالتحقيق أنّها تفيد الظن بها كما عن الشهيد الثاني وغيره(1) ، ولو لم يعلم بتلك الجهة كما إذا كانت الشمس في النهار ، أو القمر وسائر النجوم في الليل مستورة تحت غيم ونحوه ، ولم يتميّز قطب الشمال أو الجنوب ، ففي كفاية العمل بالمظنة أو عدمها خلاف .
ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في هذا المقام ، فطائفة منها تدل على كفاية العمل بالظن ، مثل ما رواه الكليني في الصحيح عن زرارة قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : «يجزئ التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(2) فإنّ لفظ التحرّي قد اُطلق على العمل على طبق الراجح ، فإنّه هو الأحرى من العمل بالمرجوح ، كما هو المتداول في تلك الأزمنة .
والمراد بالاجزاء إمّا أن يكون هو الاجزاء بالنسبة إلى مقام العمل ، بمعنى أنّه يجوز للمكلّف في مقام العمل أن يعتمد على الظنّ ويعمل على طبقه ، وحينئذ فلا
- (1) مسالك الأفهام 1 : 156 ; الروضة البهيّة 1 : 192 ; الذكرى 3 : 162 ; جامع المقاصد 2 : 69 ; مدارك الأحكام 3 : 131 ـ 132 .
- (2) الكافي 3 : 285 ح7 ; التهذيب 2 : 45 ح146 ; الاستبصار 1 : 295 ح1087 ، الوسائل 4 : 307 . أبواب القبلة ب6 ح1 .
(الصفحة 215)
تعرّض في الرواية لحال المكلّف بعد انكشاف الخلاف .
وإمّا أن يكون هو الاجزاء بالنسبة إلى الواقع ، ومعناه أنّه يكفي ذلك واقعاً كصورة العلم بالقبلة ، فيجزي العمل على طبق المظنة ، ولو انكشف الخلاف وهو الظاهر من الرواية .
ثمّ إنّ فيها إشعاراً بأنّ عدم العلم بالقبلة أمر قد يتّفق وهو مؤيّد لما ذكرناه من أنّ قبلة البعيد هي الجهة دون العين ، إذ لو كانت قبلة البعيد هي العين لزم أن تكون صورة عدم العلم أكثر من صورة العلم كما لا يخفى ; ومثل رواية سماعة قال : سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال(عليه السلام) : «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك»(1) . فإنّ الرأي هو المشي على طبق الظنّ .
وجملة من الأخبار تدل على كفاية الصلاة إلى إحدى الجوانب الأربع للمتحيّر ، مثل ما رواه زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) إنّه قال : «يجزئ المتحيّر أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(2) . ومرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا ، عن زرارة قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قبلة المتحيّر؟ فقال : «يصلّي حيث يشاء»(3) فإنّ ظاهرهما كفاية الصلاة إلى أيّ جهة شاء المصلّي المتحيّر .
والمراد بالمتحيّر إمّا من لا علم له كما يدل عليه ذيل الرواية الاُولى فيشمل صورة المظنة أيضاً ، وحينئذ فيتحقق التعارض بينهما وبين الروايتين المتقدمتين الدالتين على وجوب العمل بالظن ، وقاعدة الجمع حينئذ تقتضي التخصيص وحمل
- (1) الكافي 3 : 284 ح1 ; التهذيب 2 : 46 ح147 وص255 ح1009 ، الإستبصار 1 : 295 ح1089 ; الوسائل 4 : 308 . أبواب القبلة ب6 ح2 .
- (2) الفقيه 1 : 179 ح845 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح2 .
- (3) الكافي 3 : 286 ح10 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح3 .
(الصفحة 216)
هاتين الروايتين على المتحيّر غير الظانّ ، وإمّا أن يكون هو من لا علم له ولا ظنّ ، كما هو الظاهر من المتحيّر ، فإنّ من كان ظانّاً بشيء لا يكون عند العقلاء والعرف متحيّراً في ذلك الشيء ، فعلى هذا لا تعارض بين الطائفتين ، بل تكون الطائفة الاُولى واردة على الثانية ، والظاهر من الروايتين هو الإحتمال الثاني ، فإنّ من كان ظانّاً بالقبلة وصلّى إلى الجانب الموهوم ، يعدّ فعله عند العقلاء قبيحاً ، فإنّه من ترجيح المرجوح على الراجح ، هذا .
وبعض الأخبار الواردة في الباب يدلّ على وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب ، مثل ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن العبّاس ، عن عبدالله بن المغيرة ، عن إسماعيل بن عبّاد ، عن خراش ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : «ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه»(1) .
ومقتضى هذه الرواية وجوب الصلاة لأربع وجوه في مورد المظنة ، فتعارض جميع الروايات المتقدّمة ، ولكنّها موهونة من جهة مجهولية بعض رواته كخداش [حراش ] ، ومن جهة الإرسال ، مضافاً إلى أنّ مقتضى ظاهرها أنّ الشيعة لا يعمل على طبق الظنّ أصلا ولو في مورد ، مع أنّه خلاف ما عليه جميع علمائهم من العمل بالظنّ في موارد كثيرة ، كالظنّ في الركعتين الأخيرتين في الصلاة ، وغيره من الموارد ; فلا يمكن الاعتماد على مثل هذه الرواية .
ولم يبق معارض للطائفة الاُولى من الأخبار الدالة على وجوب العمل بالمظنة إلاّ بعض ما يدل من الأخبار على وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب عدا الرواية
- (1) التهذيب 2 : 45 ح144 ; الإستبصار 1 : 295 ح1085 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح5 .
(الصفحة 217)
المتقدّمة ، وهي مرسلة الصدوق قال : روي فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة «أنّه يصلّي إلى أربعة جوانب»(1) . ومرسلة الكليني قال : وروي أيضاً «أنّه ـ أي المتحير ـ يصلي إلى أربع جوانب»(2) .
ومقتضى الجمع أن يقال : إنّ الطائفة الاُولى من الأخبار تكون أخصّ من المرسلة الاُولى لو كان المراد بعدم الإهتداء هو عدم الإهتداء علماً ، فيجب تخصيصها بها ، ولو كان المراد به عدم الإهتداء ولو ظنّاً فلا تعارض بينهما .
وأمّا المرسلة الثانية فموردها المتحيّر ; وقد عرفت الجمع بين الأخبار الواردة في المتحير والأخبار الدالة على وجوب التحرّي والعمل بالظنّ ، فراجع .
نعم تبقى المعارضة بين نفس الأخبار الواردة في المتحيّر وسيجيء حكمه .
هذا كلّه فيما إذا تمكّن المصلّي من تحصيل الظنّ ، وأمّا إذا لم يحصل له العلم ولا الظنّ ، بل كان متحيّراً في جهة الكعبة ، فمقتضى بعض الأخبار كرواية زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّمة المروية في الفقيه ، ومرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة المروية في الكافي . أنّه يجزي المتحرّي أينما توجّه ، وإلى أيّ جهة شاء ، ومقتضى مرسلتي الصدوق والكليني المتقدّمتين أيضاً وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب .
والروايتان الاُوليان وإن كانتا مرسلتين أيضاً إلاّ أنّ الإرسال لا يضرّ باعتبارهما ، لإنجباره بفتوى جلّ الأصحاب على طبق مضمونهما ، وكيف كان فمرجع الخبرين الأولين إلى سقوط شرطية الإستقبال في صورة التحيّر ، ومرجع الأخيرين إلى ثبوتها مطلقاً ، فيتعارضان فيسقطان ، فيرجع إلى الإطلاقات الدالة على شرطية الإستقبال مطلقاً حتّى في صورة التحيّر ، وقد تقدّم بعضها في أوّل
- (1) الفقيه 1 : 180 ح854 ; الوسائل 4 : 310 . أبواب القبلة ب8 ح1 .
- (2) الكافي 3 : 286 ذ ح10 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح4 .