(الصفحة 235)
الإعادة في الوقت مطلقاً ، وقيّدوا الروايات الدالة على الحكم الأوّل ، وذلك لأنّ القدماء من الأصحاب لم يتعرضوا لحكم ما إذا كان الإنحراف يسيراً ، وعدم تعرضهم له يحتمل أن يكون لأجل طرحهم للروايات الدالة على ذلك ، وهو بعيد مع صحتها .
ويحتمل أن يكون لمّا فهموا منها من كون مدلولها إنّما هو تعيين حد القبلة ، خصوصاً على ما بيناه في معنى تلك الروايات من أنّ المراد بما بين المشرق والمغرب هو المقدار الذي لا يصدق على شيء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ، وهو مساو لربع الدورة تقريباً ; فهذه الروايات لم تكن متعرضة لحكم الإنحراف عن القبلة .
هذا كلّه فيما إذا كان منحرفاً عن القبلة انحرافاً يسيراً ، وأمّا إذا كان الإنحراف أزيد ممّا بين المشرق والمغرب ، فالأقوى فيه وجوب الإعادة في الوقت دون خارجه ، لقاعدة الإجزاء بالنسبة إلى ما بعد الوقت ، وللنصوص الدالة عليه :
كرواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان لك أنّك صلّيت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد وإن فاتك الوقت فلا تعد»(1) .
ورواية يعقوب بن يقطين قال : سألت عبداً صالحاً عن رجل صلّى في يوم سحاب على غير القبلة ثمّ طلعت الشمس وهو في وقت ، أيعيد الصلاة إذا كان قد صلّى على غير القبلة؟ وإن كان قد تحرّى القبلة بجهده أتجزيه صلاته؟ فقال(عليه السلام) : «يعيد ما كان في وقت فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه»(2) .
- (1) الكافي 3 : 284 ، ح3 ; التهذيب 2 : 47 و142 و49 ح151 و554 ; الإستبصار 1 : 269 ح1090 ; الوسائل 4 : 315 . أبواب القبلة ب11 ح1 .
- (2) التهذيب 2: 48 و141 ح155 و 552، الإستبصار 1: 296 ح1093; الوسائل 4: 316. أبواب القبلة ب11 ح2.
(الصفحة 236)
ومكاتبة محمد بن الحصين قال : كتبت إلى عبد صالح : الرجل يصلّي في يوم غيم في فلاة من الأرض ولا يعرف القبلة ، فيصلّي حتّى إذا فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذاً هو قد صلّى لغير القبلة ، أيعتدّ بصلاته أم يعيدها؟ فكتب(عليه السلام) : «يعيدها ما لم يفته الوقت أو لم يعلم أنّ الله يقول وقوله الحقّ :
{فأينما تولوا فثمّ وجه الله}(1)»(2) .
ورواية سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلّي لغير القبلة ، ثمّ يصحى فيعلم أنّه صلّى لغير القبلة كيف يصنع؟ قال(عليه السلام) : إن كان في وقت فليعد صلاته ، وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده»(3) .
والمستفاد من هذه الأخبار عدم الفرق في عدم وجوب الإعادة في خارج الوقت بين ما كان مستدبراً للقبلة ، وبين ما كان مستقبلا للمشرق أو المغرب أو ما بينهما إلى جهة الشمال . ولكن الشيخ(قدس سره) قال في محكيّ النهاية : وقد رويت رواية أنّه إذا كان أنّ من صلّى إلى استدبار القبلة ، ثمّ علم بعد خروج الوقت وجب عليه إعادة الصلاة وهذا هو الأحوط ، وعليه العمل(4) . انتهى .
ونظيره حكى السيّد في الناصريّات وابن إدريس في السرائر(5) ، إلاّ أنهما لم يعتمدا عليه ; ولا يخفى أنّ هذه الرواية وإن لم تكن مذكورة مسندة في الجوامع التي بأيدينا بل حكاها الشيخ(قدس سره) في محكي النهاية بنحو الإرسال ، إلاّ أنّه باعتبار إحاطة
- (1) البقرة : 115 .
- (2) التهذيب 2 : 49 ح160 ; الإستبصار 1 : 297 ح1097 ; الوسائل 4 : 316 . أبواب القبلة ب11 ح4 .
- (3) الكافي 3 : 285 ح9 ; التهذيب 2 : 47 و142 ح152 و 153 و553 ; الإستبصار 1 : 269 ح1091 ; الوسائل 4 : 317 . أبواب القبلة ب11 ح6 .
- (4) النهاية : 64 .
- (5) المسائل الناصريات : 202 المسألة الثمانون; السرائر 1 : 205 .
(الصفحة 237)
الشيخ بالأخبار المرويّة عن النبيّ والأئمّة(عليهم السلام) نعلم بوجودها في الجوامع الأولية .
ولا يمكن أن يكون مراد الشيخ بهذه الرواية هي رواية عمّار الساباطي المتقدّمة ، لأنّها ظاهرة في حكم ما لو كان مستدبراً للقبلة ، ثمّ علم بعد الفراغ قبل خروج الوقت ، فالمورد فيهما مختلف ، وأيضاً لا يكون المقصود بها رواية عمرو بن يحيى قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل صلّى على غير القبلة ، ثمّ تبينت القبلة وقد دخلت وقت صلاة اُخرى؟ قال(عليه السلام) : «يعيدها قبل أن يصلّي هذه التي قد دخل وقتها»(1) . لأنّها ظاهرة في تعيين وقت قضاء الصلاة التي وقعت على غير القبلة ، بعد الفراغ عن أصل وجوب الإعادة ، فهي غير مرتبطة بما تدلّ على أصل وجوب الإعادة أو القضاء ، وعلى تقديره فهي لا تتعرّض لحكم الإستدبار بالخصوص ، بل تدلّ على حكم الصلاة التي وقعت على غير القبلة أعمّ ممّا كان مستدبراً .
فظهر أنّ الروايات الواردة في حكم المسألة التي نحن فيها لا تنحصر بالطائفتين المذكورتين ، بل فيها ما يدلّ على التفصيل بين الإستدبار وغيره ، وهو ما رواه الشيخ في النهاية مرسلا ، وقد استشكل فيها :
أوّلا : بأنّها غير معلومة الحجية ، إذ لو كانت مذكورة مسندة ونعلم برواتها لاطّلعنا على قدح في رواتها وإن لم يطّلع عليه الشيخ .
وثانياً : بأنّها على فرض حجيتها معارضة مع الأخبار المتقدمة الدالة على عدم وجوب الإعادة في خارج الوقت مطلقاً ولو كان مستدبراً .
وثالثاً : بفتوى جماعة من قدماء الأصحاب على خلافها كالسيّد المرتضى وابن إدريس وابن جنيد(2) . ولكن لا يخفى أنّ ضعفها على تقديره منجبر بفتوى كثير من
- (1) التهذيب 2 : 46 ح149 ; ا لاستبصار 1 : 297 ح1098 ; الوسائل 4 : 313 . أبواب القبلة ب9 ح5 .
- (2) المسائل الناصريات : 202 المسألة الثمانون ; السرائر 1 : 205 . وحكاه عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2 : 69 .
(الصفحة 238)
الأصحاب على طبق مضمونها كالمفيد في المقنعة ، والشيخ في جميع كتبه ، وسلاّر وغيرهم(1) ، وليست معارضة مع الأخبار المتقدّمة لأنّها أخصّ منها ، إذ التعارض بينهما إنّما هو في خصوص ما بعد الوقت ، فتلك الأخبار تدلّ على عدم وجوب الإعادة مطلقاً ، وهذه تدلّ على وجوبها لو كان مستدبراً ، فيجب أن يخصّص بها .
وفتوى من ذكر من الأصحاب على خلافها لا يوجب قدحاً فيها ، لأنّ بعضهم لا يعمل بالخبر الواحد أصلا ولو كان مسنداً ، كالسيد المرتضى ، وابن إدريس ; والبعض الآخر لا يعلم من حاله أنّه محيط بالأخبار المرويّة عن النبيّ والأئمّة(عليهم السلام) ، فلعلّه لم يطّلع على هذه الرواية ، فأفتى على طبق تلك الروايات المتقدّمة ، فالحكم بوجوب الإعادة لو كان مستدبراً مطلقاً في الوقت وفي خارجه غير بعيد ; فما ذكره المحقّق في الشرائع من أنّ الأظهر هو القول بعدم وجوب الإعادة في خارج الوقت مطلقاً(2) غير ظاهر ، فضلا عن أن يكون أظهر . والعجب أنّه(قدس سره)ممّن يعتمد في نظائر المسألة على مجرّد نقل الشيخ ، ويطعن على من ردّه بالإرسال أو غيره! .
ثمّ إنّ المراد بالإستدبار في الرواية التي رواها الشيخ(3) ليس هي النقطة المقابلة للكعبة ، بل المراد به هو الربع المقابل للربع من الدائرة التي وقعت الكعبة في جزء منه ، ويجب التوجه في الصّلاة وغيرها إليه ، وأيضاً ليس المراد به ما هو خارج عمّا بين المشرق والمغرب ، كما قد يتوهّم من رواية عمّار الساباطي المتقدّمة ، باعتبار
- (1) المقنعة : 97 ; الخلاف 1 : 303 مسألة 51 ، المبسوط 1 : 80 ; النهاية : 64 ; المراسم : 61 ; الغنية : 69; المهذّب 1 : 87 ; الكافي في الفقه : 139 .
- (2) شرائع الاسلام 1 : 58 .
- (3) النهاية : 64 .
(الصفحة 239)
المقابلة بينه وبين ما بين المشرق والمغرب ، لأنّ هذا التوهّم ممنوع ، ومع فرضه فلايدلّ على أنّ المراد بالإستدبار فيما حكاه الشيخ أيضاً ذلك ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ ما ذكرنا ـ من وجوب الإعادة عليه في الوقت دون خارجه فيما إذا كان الإنحراف كثيراً ـ إنّما هو فيما إذا كان مأموراً بالتحرّي والإجتهاد ، لعدم انكشاف الواقع ، فتحرّى ثمّ تبيّن مخالفته للواقع ، وأمّا إذا كان عالماً بالحكم وبالقبلة ولكن صلّى إلى غير القبلة سهواً أو إشتباهاً ، ففي إلحاقه بالصورة الاُولى خلاف بين الأصحاب .
وممّن ذهب إلى الإلحاق وعدم التفصيل ، المفيد(قدس سره) في المقنعة ، والشيخ في التهذيب والنهاية ، وبعض المتأخّرين كالمحقّق الهمداني في المصباح(1) ، ولكنّ الأقوى عدم الإلحاق وفاقاً للعلاّمة في المختلف(2) . واحتجّ الشيخ ـ على ما حكاه عنه العلاّمة فيه وإن لم نجده في كتبه ـ بحديث الرفع(3) وأجاب عنه بأنّ حديث الرفع لا يدلّ على رفع الحكم ، بل المرفوع هي المؤاخذة ، فلا يدلّ على عدم وجوب الإعادة .
أقول : إن كان المراد من حديث الرفع هو رفع حكم ما فعله الناسي في حال نسيانه ، بمعنى أنّ الفعل الذي يفعله الناسي لو كان له حكم لو خلّى وطبعه ، فذلك الحكم مرفوع في حال صدوره نسياناً ، فلا يتمّ الاستدلال أيضاً ، لأنّ المفروض أنّ الناسي المكلّف بالصلاة إلى القبلة الواقعية لم يأت بها ، ففي الحقيقة يكون كمن لم يصلّ أصلا ، فهو لم يعمل عملا له حكم حتى يرفع ذلك الحكم في حال النسيان ، بخلاف من كان مأموراً بالتحرّي والاجتهاد ، فإنّ الحكم في حقّه هي الصلاة إلى
- (1) المقنعة : 97 ; التهذيب 2 : 47 ; النهاية : 64 ; مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 115 .
- (2) مختلف الشيعة 2 : 73 .
- (3) التوحيد : 353 ح24 ; الخصال : 417 ح9 ; الوسائل 15 : 369 . أبواب جهاد النفس ب56 ح1 .