(الصفحة 237)
الشيخ بالأخبار المرويّة عن النبيّ والأئمّة(عليهم السلام) نعلم بوجودها في الجوامع الأولية .
ولا يمكن أن يكون مراد الشيخ بهذه الرواية هي رواية عمّار الساباطي المتقدّمة ، لأنّها ظاهرة في حكم ما لو كان مستدبراً للقبلة ، ثمّ علم بعد الفراغ قبل خروج الوقت ، فالمورد فيهما مختلف ، وأيضاً لا يكون المقصود بها رواية عمرو بن يحيى قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل صلّى على غير القبلة ، ثمّ تبينت القبلة وقد دخلت وقت صلاة اُخرى؟ قال(عليه السلام) : «يعيدها قبل أن يصلّي هذه التي قد دخل وقتها»(1) . لأنّها ظاهرة في تعيين وقت قضاء الصلاة التي وقعت على غير القبلة ، بعد الفراغ عن أصل وجوب الإعادة ، فهي غير مرتبطة بما تدلّ على أصل وجوب الإعادة أو القضاء ، وعلى تقديره فهي لا تتعرّض لحكم الإستدبار بالخصوص ، بل تدلّ على حكم الصلاة التي وقعت على غير القبلة أعمّ ممّا كان مستدبراً .
فظهر أنّ الروايات الواردة في حكم المسألة التي نحن فيها لا تنحصر بالطائفتين المذكورتين ، بل فيها ما يدلّ على التفصيل بين الإستدبار وغيره ، وهو ما رواه الشيخ في النهاية مرسلا ، وقد استشكل فيها :
أوّلا : بأنّها غير معلومة الحجية ، إذ لو كانت مذكورة مسندة ونعلم برواتها لاطّلعنا على قدح في رواتها وإن لم يطّلع عليه الشيخ .
وثانياً : بأنّها على فرض حجيتها معارضة مع الأخبار المتقدمة الدالة على عدم وجوب الإعادة في خارج الوقت مطلقاً ولو كان مستدبراً .
وثالثاً : بفتوى جماعة من قدماء الأصحاب على خلافها كالسيّد المرتضى وابن إدريس وابن جنيد(2) . ولكن لا يخفى أنّ ضعفها على تقديره منجبر بفتوى كثير من
- (1) التهذيب 2 : 46 ح149 ; ا لاستبصار 1 : 297 ح1098 ; الوسائل 4 : 313 . أبواب القبلة ب9 ح5 .
- (2) المسائل الناصريات : 202 المسألة الثمانون ; السرائر 1 : 205 . وحكاه عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2 : 69 .
(الصفحة 238)
الأصحاب على طبق مضمونها كالمفيد في المقنعة ، والشيخ في جميع كتبه ، وسلاّر وغيرهم(1) ، وليست معارضة مع الأخبار المتقدّمة لأنّها أخصّ منها ، إذ التعارض بينهما إنّما هو في خصوص ما بعد الوقت ، فتلك الأخبار تدلّ على عدم وجوب الإعادة مطلقاً ، وهذه تدلّ على وجوبها لو كان مستدبراً ، فيجب أن يخصّص بها .
وفتوى من ذكر من الأصحاب على خلافها لا يوجب قدحاً فيها ، لأنّ بعضهم لا يعمل بالخبر الواحد أصلا ولو كان مسنداً ، كالسيد المرتضى ، وابن إدريس ; والبعض الآخر لا يعلم من حاله أنّه محيط بالأخبار المرويّة عن النبيّ والأئمّة(عليهم السلام) ، فلعلّه لم يطّلع على هذه الرواية ، فأفتى على طبق تلك الروايات المتقدّمة ، فالحكم بوجوب الإعادة لو كان مستدبراً مطلقاً في الوقت وفي خارجه غير بعيد ; فما ذكره المحقّق في الشرائع من أنّ الأظهر هو القول بعدم وجوب الإعادة في خارج الوقت مطلقاً(2) غير ظاهر ، فضلا عن أن يكون أظهر . والعجب أنّه(قدس سره)ممّن يعتمد في نظائر المسألة على مجرّد نقل الشيخ ، ويطعن على من ردّه بالإرسال أو غيره! .
ثمّ إنّ المراد بالإستدبار في الرواية التي رواها الشيخ(3) ليس هي النقطة المقابلة للكعبة ، بل المراد به هو الربع المقابل للربع من الدائرة التي وقعت الكعبة في جزء منه ، ويجب التوجه في الصّلاة وغيرها إليه ، وأيضاً ليس المراد به ما هو خارج عمّا بين المشرق والمغرب ، كما قد يتوهّم من رواية عمّار الساباطي المتقدّمة ، باعتبار
- (1) المقنعة : 97 ; الخلاف 1 : 303 مسألة 51 ، المبسوط 1 : 80 ; النهاية : 64 ; المراسم : 61 ; الغنية : 69; المهذّب 1 : 87 ; الكافي في الفقه : 139 .
- (2) شرائع الاسلام 1 : 58 .
- (3) النهاية : 64 .
(الصفحة 239)
المقابلة بينه وبين ما بين المشرق والمغرب ، لأنّ هذا التوهّم ممنوع ، ومع فرضه فلايدلّ على أنّ المراد بالإستدبار فيما حكاه الشيخ أيضاً ذلك ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ ما ذكرنا ـ من وجوب الإعادة عليه في الوقت دون خارجه فيما إذا كان الإنحراف كثيراً ـ إنّما هو فيما إذا كان مأموراً بالتحرّي والإجتهاد ، لعدم انكشاف الواقع ، فتحرّى ثمّ تبيّن مخالفته للواقع ، وأمّا إذا كان عالماً بالحكم وبالقبلة ولكن صلّى إلى غير القبلة سهواً أو إشتباهاً ، ففي إلحاقه بالصورة الاُولى خلاف بين الأصحاب .
وممّن ذهب إلى الإلحاق وعدم التفصيل ، المفيد(قدس سره) في المقنعة ، والشيخ في التهذيب والنهاية ، وبعض المتأخّرين كالمحقّق الهمداني في المصباح(1) ، ولكنّ الأقوى عدم الإلحاق وفاقاً للعلاّمة في المختلف(2) . واحتجّ الشيخ ـ على ما حكاه عنه العلاّمة فيه وإن لم نجده في كتبه ـ بحديث الرفع(3) وأجاب عنه بأنّ حديث الرفع لا يدلّ على رفع الحكم ، بل المرفوع هي المؤاخذة ، فلا يدلّ على عدم وجوب الإعادة .
أقول : إن كان المراد من حديث الرفع هو رفع حكم ما فعله الناسي في حال نسيانه ، بمعنى أنّ الفعل الذي يفعله الناسي لو كان له حكم لو خلّى وطبعه ، فذلك الحكم مرفوع في حال صدوره نسياناً ، فلا يتمّ الاستدلال أيضاً ، لأنّ المفروض أنّ الناسي المكلّف بالصلاة إلى القبلة الواقعية لم يأت بها ، ففي الحقيقة يكون كمن لم يصلّ أصلا ، فهو لم يعمل عملا له حكم حتى يرفع ذلك الحكم في حال النسيان ، بخلاف من كان مأموراً بالتحرّي والاجتهاد ، فإنّ الحكم في حقّه هي الصلاة إلى
- (1) المقنعة : 97 ; التهذيب 2 : 47 ; النهاية : 64 ; مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 115 .
- (2) مختلف الشيعة 2 : 73 .
- (3) التوحيد : 353 ح24 ; الخصال : 417 ح9 ; الوسائل 15 : 369 . أبواب جهاد النفس ب56 ح1 .
(الصفحة 240)
جهة ظنّ أنّها القبلة ، ولذا لو لم يكن دليل على وجوب الإعادة عليه في الوقت لم نقل بوجوبها عليه ، لأنّ الأمر الظاهري يقتضي الإجزاء ولو انكشف الخلاف في الوقت ، وهذا بخلاف الناسي فإنّ الحكم في حقّه هي الصلاة إلى القبلة الواقعية ، والمفروض عدم مطابقة عمله لها .
ثمّ إنّه على تقدير دلالة حديث الرفع على عدم وجوب الإعادة فهو معارض بحديث رواه زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود»(1) لأنّ مورده صورة النسيان فقط ، لا ما يشمل العامد والجاهل كما قال به بعض ، لأنّ التعبير بالإعادة لا يناسبها ، فإنّها إنّما تستعمل في مورد يكون الشخص قاصداً لإمتثال التكليف المتوجّه إليه ، ويكون هو الداعي له على إتيان العمل .
غاية الأمر أنّه منعه عن إتيانه تامّاً بأجزائه وشرائطه بعض الطوارئ القهرية ، وإلاّ فالعامد الذي يترك عمداً بعض ماله دخل في تحقّق المأمور به ، أو يفعل بعض ما كان وجوده مضرّاً به لا يكون قاصداً في الحقيقة لإتيان المأمور به ، فلا يقال عليه أنّه يجب عليك الإعادة ، بل يقال : إنّه يجب عليك أصل الصلاة كما هو واضح . نعم لايبعد أن يكون شاملا للجاهل القاصر الذي يعتقد صحّة ما يفعله ، وإن كان في الواقع فاسداً ، وسيأتي في بعض المباحث الآتية مزيد توضيح لذلك فانتظر . فإذا انحصر مورد حديث لا تعاد بصورة النسيان ولم يكن عامّاً له ولغيره ، فيكون حينئذ مخصّصاً لحديث الرفع ، وحاكماً عليه كما لا يخفى .
ثمّ إنّه لا دلالة للأخبار المتقدمة المفصلة بين الوقت وخارجه على عدم الفرق بين الناسي وغيره كما يظهر من بعض ، لأنّك عرفت أنّ موردها ما إذا كانت علائم
- (1) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2 : 152 ح597 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح1 .
(الصفحة 241)
الإنكشاف مفقودة لأجل العمى أو الغيم أو غيرهما ، فلا يشمل صورة النسيان ، فالواجب الرجوع في حكم هذه الصورة إلى القواعد ، وهي تقتضي وجوب الإعادة عليه في الوقت وفي خارجه مطلقاً ، حتّى ما إذا لم يكن مستدبراً للقبلة ، فإنّه لم يأت بما هو المأمور به .
والمفروض أنه لم يتوجه إليه أمر ظاهري حتى يقال بإقتضائه للإجزاء ، فيجب عليه الإعادة كما يدلّ عليه أيضاً حديث لا تعاد على ما عرفت .
هذا كلّه فيما إذا كان الإنحراف كثيراً ، وأمّا إذا كان يسيراً فمقتضى حديث الرفع وإن كان عدم وجوب الإعادة ، بناءً على أنّ المراد برفع النسيان هو رفع حكم كلّ ما صار النسيان سبباً له ، من فعل أو ترك ، فإذا صلّى مع نسيان السورة مثلا فهو يقتضي عدم وجوب الإعادة عليه ، وعدم كون السورة جزءً في حال النسيان ، فما يترتّب على تركها من عدم تحقّق المركّب وعدم الإتيان بالمأمور به ووجوب الإعادة فهو مرفوع ، ولا يلزم من هذا عدم وجوب الإتيان بالصلاة فيما إذا تركها في بعض الوقت سهواً ، لأنّ وجوب الإتيان بها بعده ليس من آثار عدم الإتيان به فيما مضى من الوقت ، بل من آثار بقاء الأمر المتوجه إليه من أول الوقت .
وبالجملة : فمقتضى حديث الرفع وإن كان ذلك إلاّ أنّ حديث لا تعاد يدل على وجوب الإعادة عليه ، وهو مخصّص لحديث الرفع ، لأنّك عرفت أنّ مورده هو الساهي فقط ، ولا يشمل العالم العامد والجاهل . هذا مع قطع النظر عن الأخبار الخاصة الواردة في المسألة ، وأمّا مع ملاحظتها فلا يجب عليه الإعادة لإطلاق موردها على وجه يشمل الناسي ، ولا يختصّ بالمجتهد المخطئ في إجتهاده كما هو ظاهر صحيحتي معاوية بن عمّار وزرارة ، ورواية عمّار الساباطي المتقدّمة(1) .
- (1) الوسائل 4 : 314 ، 315 . أبواب القبلة ب10 ح1 و2 و4 .