(الصفحة 242)
ثمّ إنّ الصحيحتين تدلاّن بظاهرهما على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة لجميع المكلفين ، في جميع الحالات من العلم والظنّ وغيرهما ، مع أنّ أحداً من الأصحاب لم يعمل على طبقهما ، ولذا لم يعبّر بذلك في مقام تعيين حد القبلة كمعارض لقوله(عليه السلام) في رواية عمّار الساباطي : «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم» فإنّها تدلّ بظاهرها على أنّ القبلة التي لو كان المكلّف عالماً بها لوجب عليه أن يتوجّه نحوها ، أضيق ممّا بين المشرق والمغرب .
فالوجه أن يقال : إنّ المراد منهما أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة في الجملة ، ولو لبعض المكلفين في الحالات ، بأن يقال مثلا : إنّ الإمام(عليه السلام) قال في صحيحة زرارة أنّه لا يصدق عنوان الصلاة على الصلاة التي كانت فاقدة لشرط القبلة ، فصدقها يتوقف على أن يكون المصلّي متوجّهاً إليها ، ثمّ سأل الراوي عن حد القبلة التي لو كان المكلف متوجهاً إليها لصدق على فعله أنّه صلاة فقال(عليه السلام) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» يعني : إنّه إذا تجاوز هذا الحدّ فلا يصدق عنوان الصلاة ، وأمّا صدقها على الصلاة التي كان التوجه فيها إلى ما بين المشرق والمغرب مطلقاً وفي جميع الأحوال فلا يعلم منهما .
وبالجملة : لا يستفاد منهما أنّ ما بينهما قبلة مطلقاً ، بل هي قضيّة مجملة لا تنافي عدم كونه قبلة في بعض الأحوال ، وعلى تقدير كون ظاهرهما ذلك يجب تأويلهما وحملهما على ما ذكرنا ، لما عرفت من كونهما معرضاً عنهما مع ثبوت المعارض لهما ، ويؤيد ذلك أنّ المشهور بل المتفق عليه بين الأصحاب أنّ الإلتفات إلى غير القبلة في أثناء الصلاة مبطل لها(1) ، ومعنى الإلتفات أن ينحرف بوجهه عن القبلة بحيث
- (1) النهاية : 64 ; المعتبر 2 : 260 ; روض الجنان : 332 ; الذكرى 3 : 180 ; الروضة البهيّة 1 : 236 ; البيان : 182 ; جامع المقاصد 2 : 347 ; الحدائق 9 : 31 ; مستند الشيعة 7 : 20 .
(الصفحة 243)
يرى خلفه .
ومن المعلوم أنّه يتحقق بكون وجهه مواجهاً إلى قريب المشرق والمغرب الذي يصدق عليه إنّه ما بينهما ، فلو كان ما بين المشرق والمغرب قبلة في جميع الحالات لزم عدم بطلان الصلاة في صورة الإنحراف بوجه الإلتفات ، لأنّه لم ينحرف بوجهه عمّا بينهما ، هذا مضافاً إلى سائر الروايات الواردة في حكم المسألة الدالّة على خلاف ذلك ، مثل ما رواه في الجعفريات عن محمّد بن محمّد بن أشعث الكوفي ، عن موسى بن إسماعيل ، عن أبيه ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه(عليهما السلام) : إنّ عليّاً(عليه السلام)كان يقول : «من صلّى لغير القبلة إذا كان بين المشرق والمغرب فلا يعيد»(1) . ورواه السيّد فضل الله الراوندي في النوادر عن عبدالواحد بن إسماعيل عن محمّد بن الحسن التميمي ، عن سهل بن أحمد الديباجي ، عن محمد بن محمد إلى آخر ما ذكر في الطريق(2) الأول ، إلاّ أنّ فيها : «إذا كان إلى المشرق أو المغرب» . والظاهر أنّه من سهو الراوي والصحيح هو الأول .
نعم ، في رواية الكليني عن أبي هاشم الجعفري الواردة في الصلاة على المصلوب ما يدل على ذلك ، حيث قال : سألت الرضا(عليه السلام) عن المصلوب؟ فقال : «أما علمت أنّ جدّي(عليه السلام) صلّى على عمّه؟(3) قلت : أعلم ذلك ولكنّي لا أفهمه مبيناً ، فقال : اُبينه لك ، إن كان وجه المصلوب إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن ، وإن كان قفاه إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر ، فإنّ بين المشرق والمغرب قبلة ، وإن كان منكبه الأيسر إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن ، وإن كان منكبه الأيمن إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر ، وكيف كان منحرفاً فلا تزايلنّ مناكبه ، وليكن وجهك إلى
- (1) الجعفريات : 87 ح295 .
- (2) نوادر الراوندي : 155 ح499 ; بحار الأنوار 81 : 69 ح26 .
- (3) الظاهر أنّه : زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) .
(الصفحة 244)
ما بين المشرق والمغرب ، ولا تستقبله ولا تستدبره ألبتة . قال أبو هاشم : وقد فهمت إن شاء الله تعالى ، فهمته والله»(1) .
هذا ، ولكن قد عرفت أنّ الأخذ بظاهر مثلها في غاية الإشكال . هذا كلّه إذا كان المراد بالمشرق والمغرب الإعتداليين منهما كما هو المفهوم عند العرف ، وهما منتهى الخط الخارج من طرف اليمين واليسار بالنسبة إلى الشخص المتوجه إلى الجنوب أو الشمال ، وهو ما إذا كان مدار الشمس دائرة المعدّل وما يقاربها من جانب الجنوب أو الشمال ، وأمّا إذا كان المراد بهما كلّ مشرق للشمس أو مغرب لها كما ذكرناه سابقاً ، وعليه يكون المراد بما بينهما هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ولو في يوم ، وهو عبارة عمّا بين مشرق أوّل الجدي ومغربه المساوي لربع الدورة تقريباً ; فالأخذ به أيضاً على الإطلاق مشكل .
فالأوسعية بهذا المقدار ممّا لا يمكن الإلتزام بها ، وكذلك وجوب التوجه إلى عين الكعبة على نحو يخرج من وسط وجه المصلي خط مستقيم واقع عليها ، قام على عدمه سيرة المسلمين من زمان النبيّ والأئمة(عليهم السلام) إلى زماننا هذا ، مع كثرة إبتلاء الناس إلى التوجه إليها في الصلاة وغيرها ، فكيف يمكن أن يكون الناس مأمورين بالتوجه إليها على النحو المذكور ، ولذلك ذهب المتأخرون إلى أنّه لا يعتبر في تحقق الإستقبال عرفاً وقوع الخط الخارج من المستقبِل ـ بالكسر ـ على المستقبَل ـ بالفتح ـ ، وإن اختلفوا في أنّه هل يعتبر ذلك في المحاذاة أو لايعتبر فيها أيضاً .
قال المحقق الهمداني في توجيهه ما ملخّصه : إنّ الإستقبال ممّا يختلف بالنسبة
- (1) الكافي 3 : 215 ح2 ، عيون أخبار الرضا
(عليه السلام) 1 : 255 ح8 ، الوسائل 3 : 130 . أبواب صلاة الجنازة باب 35 ح1 .
(الصفحة 245)
إلى القريب والبعيد فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلا وكنت قريباً منهم لا تكون مستقبلا إلاّ واحداً منهم ، ولكنّك إذا بعدت عنهم بمقدار كثير على نحو لا تخرج من الخط المستقيم الخارج من موقفك الأول لوجدت نفسك محاذياً لجميعهم ، مع أنّ المحاذاة الحقيقية لا تكون إلا بينك وبين ما كانت أولا ، وكذلك إذا نظرت إلى عين الشمس أو سائر الكواكب لوجدت نفسك محاذياً لها ، وفي مقابل وجهك مع أنّ مساحة الشمس أعظم من مساحة الأرض أضعافاً مضاعفة ، والمحاذاة الحقيقية تكون بينك وبين نقطة صغيرة منها .
وهذا هو المراد ممّا شاع في ألسنتهم من أنّ الشيء كلّما ازداد بعداً إزدادت جهة محاذاته سعةً ، وبه يندفع ما أورده الشيخ القائل بأنّ قبلة البعيد هي عين الحرم على القائلين بأنّ قبلة البعيد هي عين الكعبة ، من لزوم بطلان صلاة بعض الصف الطويل ، لما عرفت من أنّ هذا بالنسبة إلى القريب مسلّم ، وأمّا إذا كان الصف بعيداً فيرى كل من أهل الصف نفسه مستقبلا للكعبة(1) انتهى .
وظاهره أنّ الحاكم باختلاف الاستقبال بالنسبة إلى القريب والبعيد هو الوجدان ، ويمكن أن يكون الوجه فيه ـ أي في حكم الوجدان بذلك ـ أنّ استقبال الإنسان للشيء إنّما يتحقّق بكون وجهه مقابلا ومواجهاً له ، ومن المعلوم أنّ وجه الإنسان يكون محدّباً ، فإنّه يكون ربع الدائرة التي يتشكّل منها رأس الإنسان أو خمسها ، ومن الواضح أنّ الخطوط الخارجة من الشيء المحدّب لا يكون على نحو التوازي ، بل على نحو كلّما كان طولها أزيد كان المقدار الفاصل بينها أكثر .
فإذا كان الإنسان مواجهاً للشيء القريب منه ، يكون تمام الخطوط الخارجة من وجهه واقعة على ذلك الشيء ، وأمّا إذا كان مواجهاً لما هو بعيد منه ، يكون
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 87 .
(الصفحة 246)
بعض الخطوط الخارجة واقعاً عليه ، وبعضها الآخر على الأجسام الواقعة في طرف يمين ذلك الشيء أو يساره ; هذا إذا كان المستقبل أشياء متعدّدة ، وأمّا إذا كان شيئاً واحداً كما فيما نحن فيه من مسألة القبلة ، فلا محالة يقع أحد الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على الكعبة ، لأنّك عرفت أنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه ليست على نحو التوازي ، والمفروض أنّ الكعبة واقعة في الربع أو الخمس من الدائرة التي تمرّ بالكعبة ، مع أنّ المقدار الفاصل بين منتهى تلك الخطوط لا يزيد على ربع تلك الدائرة ، فعليه يقع أحد الخطوط على الكعبة لا محالة .
ولا يستلزم ذلك جواز الإنحراف إلى ما بين المشرق والمغرب ممّا هو قريب منهما ، بيان توهم الاستلزام : أنّ الخط الخارج من منتهى يسار الوجه أو يمينه لو كان واقعاً على الكعبة مع كونها واقعة في منتهى يمين ذلك المقدار من الدائرة أو يساره يلزم الإنحراف بمقدار الربع أو الخمس . وبيان الدفع ، أنّ الكعبة واقعة في وسط ذلك المقدار ، وعلى فرض وقوع الخطّ الخارج من منتهى يمين الوجه أو يساره عليها لا يلزم الإنحراف بذلك المقدار ، بل يلزم نصفه كما لا يخفى .
هذا ، مضافاً إلى عدم معلومية كفاية الخط الخارج من منتهى يمين الوجه أو يساره ، بل يلزم أن يخرج من وسط الوجه وما يقاربه من جانبيه كالقريب .
ثمّ إنّك عرفت أنّ قبلة البعيد هي الجهة ، وهي كما ذكره المحقق في المعتبر ، السمت الذي فيه الكعبة(1) ، وعرفت أنّ المراد بالسمت إحدى الجهات السّت المتصوّرة بالنسبة إلى كلّ شخص ، وهو ربع الدائرة التي أحاطت به .
ويؤيّده ما دلّ على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة(2) بالمعنى الذي ذكرناه ،
- (1) المعتبر 2 : 65 .
- (2) الوسائل 4 : 314 و 315 . أبواب القبلة ب10 وغيره كما تقدّم .