(الصفحة 241)
الإنكشاف مفقودة لأجل العمى أو الغيم أو غيرهما ، فلا يشمل صورة النسيان ، فالواجب الرجوع في حكم هذه الصورة إلى القواعد ، وهي تقتضي وجوب الإعادة عليه في الوقت وفي خارجه مطلقاً ، حتّى ما إذا لم يكن مستدبراً للقبلة ، فإنّه لم يأت بما هو المأمور به .
والمفروض أنه لم يتوجه إليه أمر ظاهري حتى يقال بإقتضائه للإجزاء ، فيجب عليه الإعادة كما يدلّ عليه أيضاً حديث لا تعاد على ما عرفت .
هذا كلّه فيما إذا كان الإنحراف كثيراً ، وأمّا إذا كان يسيراً فمقتضى حديث الرفع وإن كان عدم وجوب الإعادة ، بناءً على أنّ المراد برفع النسيان هو رفع حكم كلّ ما صار النسيان سبباً له ، من فعل أو ترك ، فإذا صلّى مع نسيان السورة مثلا فهو يقتضي عدم وجوب الإعادة عليه ، وعدم كون السورة جزءً في حال النسيان ، فما يترتّب على تركها من عدم تحقّق المركّب وعدم الإتيان بالمأمور به ووجوب الإعادة فهو مرفوع ، ولا يلزم من هذا عدم وجوب الإتيان بالصلاة فيما إذا تركها في بعض الوقت سهواً ، لأنّ وجوب الإتيان بها بعده ليس من آثار عدم الإتيان به فيما مضى من الوقت ، بل من آثار بقاء الأمر المتوجه إليه من أول الوقت .
وبالجملة : فمقتضى حديث الرفع وإن كان ذلك إلاّ أنّ حديث لا تعاد يدل على وجوب الإعادة عليه ، وهو مخصّص لحديث الرفع ، لأنّك عرفت أنّ مورده هو الساهي فقط ، ولا يشمل العالم العامد والجاهل . هذا مع قطع النظر عن الأخبار الخاصة الواردة في المسألة ، وأمّا مع ملاحظتها فلا يجب عليه الإعادة لإطلاق موردها على وجه يشمل الناسي ، ولا يختصّ بالمجتهد المخطئ في إجتهاده كما هو ظاهر صحيحتي معاوية بن عمّار وزرارة ، ورواية عمّار الساباطي المتقدّمة(1) .
- (1) الوسائل 4 : 314 ، 315 . أبواب القبلة ب10 ح1 و2 و4 .
(الصفحة 242)
ثمّ إنّ الصحيحتين تدلاّن بظاهرهما على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة لجميع المكلفين ، في جميع الحالات من العلم والظنّ وغيرهما ، مع أنّ أحداً من الأصحاب لم يعمل على طبقهما ، ولذا لم يعبّر بذلك في مقام تعيين حد القبلة كمعارض لقوله(عليه السلام) في رواية عمّار الساباطي : «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم» فإنّها تدلّ بظاهرها على أنّ القبلة التي لو كان المكلّف عالماً بها لوجب عليه أن يتوجّه نحوها ، أضيق ممّا بين المشرق والمغرب .
فالوجه أن يقال : إنّ المراد منهما أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة في الجملة ، ولو لبعض المكلفين في الحالات ، بأن يقال مثلا : إنّ الإمام(عليه السلام) قال في صحيحة زرارة أنّه لا يصدق عنوان الصلاة على الصلاة التي كانت فاقدة لشرط القبلة ، فصدقها يتوقف على أن يكون المصلّي متوجّهاً إليها ، ثمّ سأل الراوي عن حد القبلة التي لو كان المكلف متوجهاً إليها لصدق على فعله أنّه صلاة فقال(عليه السلام) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» يعني : إنّه إذا تجاوز هذا الحدّ فلا يصدق عنوان الصلاة ، وأمّا صدقها على الصلاة التي كان التوجه فيها إلى ما بين المشرق والمغرب مطلقاً وفي جميع الأحوال فلا يعلم منهما .
وبالجملة : لا يستفاد منهما أنّ ما بينهما قبلة مطلقاً ، بل هي قضيّة مجملة لا تنافي عدم كونه قبلة في بعض الأحوال ، وعلى تقدير كون ظاهرهما ذلك يجب تأويلهما وحملهما على ما ذكرنا ، لما عرفت من كونهما معرضاً عنهما مع ثبوت المعارض لهما ، ويؤيد ذلك أنّ المشهور بل المتفق عليه بين الأصحاب أنّ الإلتفات إلى غير القبلة في أثناء الصلاة مبطل لها(1) ، ومعنى الإلتفات أن ينحرف بوجهه عن القبلة بحيث
- (1) النهاية : 64 ; المعتبر 2 : 260 ; روض الجنان : 332 ; الذكرى 3 : 180 ; الروضة البهيّة 1 : 236 ; البيان : 182 ; جامع المقاصد 2 : 347 ; الحدائق 9 : 31 ; مستند الشيعة 7 : 20 .
(الصفحة 243)
يرى خلفه .
ومن المعلوم أنّه يتحقق بكون وجهه مواجهاً إلى قريب المشرق والمغرب الذي يصدق عليه إنّه ما بينهما ، فلو كان ما بين المشرق والمغرب قبلة في جميع الحالات لزم عدم بطلان الصلاة في صورة الإنحراف بوجه الإلتفات ، لأنّه لم ينحرف بوجهه عمّا بينهما ، هذا مضافاً إلى سائر الروايات الواردة في حكم المسألة الدالّة على خلاف ذلك ، مثل ما رواه في الجعفريات عن محمّد بن محمّد بن أشعث الكوفي ، عن موسى بن إسماعيل ، عن أبيه ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه(عليهما السلام) : إنّ عليّاً(عليه السلام)كان يقول : «من صلّى لغير القبلة إذا كان بين المشرق والمغرب فلا يعيد»(1) . ورواه السيّد فضل الله الراوندي في النوادر عن عبدالواحد بن إسماعيل عن محمّد بن الحسن التميمي ، عن سهل بن أحمد الديباجي ، عن محمد بن محمد إلى آخر ما ذكر في الطريق(2) الأول ، إلاّ أنّ فيها : «إذا كان إلى المشرق أو المغرب» . والظاهر أنّه من سهو الراوي والصحيح هو الأول .
نعم ، في رواية الكليني عن أبي هاشم الجعفري الواردة في الصلاة على المصلوب ما يدل على ذلك ، حيث قال : سألت الرضا(عليه السلام) عن المصلوب؟ فقال : «أما علمت أنّ جدّي(عليه السلام) صلّى على عمّه؟(3) قلت : أعلم ذلك ولكنّي لا أفهمه مبيناً ، فقال : اُبينه لك ، إن كان وجه المصلوب إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن ، وإن كان قفاه إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر ، فإنّ بين المشرق والمغرب قبلة ، وإن كان منكبه الأيسر إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن ، وإن كان منكبه الأيمن إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر ، وكيف كان منحرفاً فلا تزايلنّ مناكبه ، وليكن وجهك إلى
- (1) الجعفريات : 87 ح295 .
- (2) نوادر الراوندي : 155 ح499 ; بحار الأنوار 81 : 69 ح26 .
- (3) الظاهر أنّه : زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) .
(الصفحة 244)
ما بين المشرق والمغرب ، ولا تستقبله ولا تستدبره ألبتة . قال أبو هاشم : وقد فهمت إن شاء الله تعالى ، فهمته والله»(1) .
هذا ، ولكن قد عرفت أنّ الأخذ بظاهر مثلها في غاية الإشكال . هذا كلّه إذا كان المراد بالمشرق والمغرب الإعتداليين منهما كما هو المفهوم عند العرف ، وهما منتهى الخط الخارج من طرف اليمين واليسار بالنسبة إلى الشخص المتوجه إلى الجنوب أو الشمال ، وهو ما إذا كان مدار الشمس دائرة المعدّل وما يقاربها من جانب الجنوب أو الشمال ، وأمّا إذا كان المراد بهما كلّ مشرق للشمس أو مغرب لها كما ذكرناه سابقاً ، وعليه يكون المراد بما بينهما هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ولو في يوم ، وهو عبارة عمّا بين مشرق أوّل الجدي ومغربه المساوي لربع الدورة تقريباً ; فالأخذ به أيضاً على الإطلاق مشكل .
فالأوسعية بهذا المقدار ممّا لا يمكن الإلتزام بها ، وكذلك وجوب التوجه إلى عين الكعبة على نحو يخرج من وسط وجه المصلي خط مستقيم واقع عليها ، قام على عدمه سيرة المسلمين من زمان النبيّ والأئمة(عليهم السلام) إلى زماننا هذا ، مع كثرة إبتلاء الناس إلى التوجه إليها في الصلاة وغيرها ، فكيف يمكن أن يكون الناس مأمورين بالتوجه إليها على النحو المذكور ، ولذلك ذهب المتأخرون إلى أنّه لا يعتبر في تحقق الإستقبال عرفاً وقوع الخط الخارج من المستقبِل ـ بالكسر ـ على المستقبَل ـ بالفتح ـ ، وإن اختلفوا في أنّه هل يعتبر ذلك في المحاذاة أو لايعتبر فيها أيضاً .
قال المحقق الهمداني في توجيهه ما ملخّصه : إنّ الإستقبال ممّا يختلف بالنسبة
- (1) الكافي 3 : 215 ح2 ، عيون أخبار الرضا
(عليه السلام) 1 : 255 ح8 ، الوسائل 3 : 130 . أبواب صلاة الجنازة باب 35 ح1 .
(الصفحة 245)
إلى القريب والبعيد فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلا وكنت قريباً منهم لا تكون مستقبلا إلاّ واحداً منهم ، ولكنّك إذا بعدت عنهم بمقدار كثير على نحو لا تخرج من الخط المستقيم الخارج من موقفك الأول لوجدت نفسك محاذياً لجميعهم ، مع أنّ المحاذاة الحقيقية لا تكون إلا بينك وبين ما كانت أولا ، وكذلك إذا نظرت إلى عين الشمس أو سائر الكواكب لوجدت نفسك محاذياً لها ، وفي مقابل وجهك مع أنّ مساحة الشمس أعظم من مساحة الأرض أضعافاً مضاعفة ، والمحاذاة الحقيقية تكون بينك وبين نقطة صغيرة منها .
وهذا هو المراد ممّا شاع في ألسنتهم من أنّ الشيء كلّما ازداد بعداً إزدادت جهة محاذاته سعةً ، وبه يندفع ما أورده الشيخ القائل بأنّ قبلة البعيد هي عين الحرم على القائلين بأنّ قبلة البعيد هي عين الكعبة ، من لزوم بطلان صلاة بعض الصف الطويل ، لما عرفت من أنّ هذا بالنسبة إلى القريب مسلّم ، وأمّا إذا كان الصف بعيداً فيرى كل من أهل الصف نفسه مستقبلا للكعبة(1) انتهى .
وظاهره أنّ الحاكم باختلاف الاستقبال بالنسبة إلى القريب والبعيد هو الوجدان ، ويمكن أن يكون الوجه فيه ـ أي في حكم الوجدان بذلك ـ أنّ استقبال الإنسان للشيء إنّما يتحقّق بكون وجهه مقابلا ومواجهاً له ، ومن المعلوم أنّ وجه الإنسان يكون محدّباً ، فإنّه يكون ربع الدائرة التي يتشكّل منها رأس الإنسان أو خمسها ، ومن الواضح أنّ الخطوط الخارجة من الشيء المحدّب لا يكون على نحو التوازي ، بل على نحو كلّما كان طولها أزيد كان المقدار الفاصل بينها أكثر .
فإذا كان الإنسان مواجهاً للشيء القريب منه ، يكون تمام الخطوط الخارجة من وجهه واقعة على ذلك الشيء ، وأمّا إذا كان مواجهاً لما هو بعيد منه ، يكون
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 87 .