(الصفحة 246)
بعض الخطوط الخارجة واقعاً عليه ، وبعضها الآخر على الأجسام الواقعة في طرف يمين ذلك الشيء أو يساره ; هذا إذا كان المستقبل أشياء متعدّدة ، وأمّا إذا كان شيئاً واحداً كما فيما نحن فيه من مسألة القبلة ، فلا محالة يقع أحد الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على الكعبة ، لأنّك عرفت أنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه ليست على نحو التوازي ، والمفروض أنّ الكعبة واقعة في الربع أو الخمس من الدائرة التي تمرّ بالكعبة ، مع أنّ المقدار الفاصل بين منتهى تلك الخطوط لا يزيد على ربع تلك الدائرة ، فعليه يقع أحد الخطوط على الكعبة لا محالة .
ولا يستلزم ذلك جواز الإنحراف إلى ما بين المشرق والمغرب ممّا هو قريب منهما ، بيان توهم الاستلزام : أنّ الخط الخارج من منتهى يسار الوجه أو يمينه لو كان واقعاً على الكعبة مع كونها واقعة في منتهى يمين ذلك المقدار من الدائرة أو يساره يلزم الإنحراف بمقدار الربع أو الخمس . وبيان الدفع ، أنّ الكعبة واقعة في وسط ذلك المقدار ، وعلى فرض وقوع الخطّ الخارج من منتهى يمين الوجه أو يساره عليها لا يلزم الإنحراف بذلك المقدار ، بل يلزم نصفه كما لا يخفى .
هذا ، مضافاً إلى عدم معلومية كفاية الخط الخارج من منتهى يمين الوجه أو يساره ، بل يلزم أن يخرج من وسط الوجه وما يقاربه من جانبيه كالقريب .
ثمّ إنّك عرفت أنّ قبلة البعيد هي الجهة ، وهي كما ذكره المحقق في المعتبر ، السمت الذي فيه الكعبة(1) ، وعرفت أنّ المراد بالسمت إحدى الجهات السّت المتصوّرة بالنسبة إلى كلّ شخص ، وهو ربع الدائرة التي أحاطت به .
ويؤيّده ما دلّ على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة(2) بالمعنى الذي ذكرناه ،
- (1) المعتبر 2 : 65 .
- (2) الوسائل 4 : 314 و 315 . أبواب القبلة ب10 وغيره كما تقدّم .
(الصفحة 247)
وما دلّ على أنّ مع اشتباه القبلة يجب أن يصلّي إلى أربع جهات(1) ، وما ورد في حرمة إستقبال القبلة واستدبارها في البول والغائط من التعبير بوجوب التشريق أو التغريب(2) .
ويؤيّده أيضاً ما في سؤال بعض الروات ، من مسألة حكم صورة الجهل بالقبلة لأجل عدم ظهور الشمس مع كونه في الفلاة ، أو لأجل كونه في الليل(3) ، فإنّه يشعر بأنّ مع ظهور الشمس لايكون جاهلا بالقبلة ، وما ورد من أنّه لمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة أتى الناس رجلٌ وهم في الصلاة وقد صلّوا ركعتين فقال : إنّه قد صرفت القبلة إلى الكعبة فتحوّلت النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء وصلّوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة(4) ، وغير ذلك من المؤيّدات فتدبّر جيّداً .
المسألة التاسعة : عدم شرطيّة الاستقبال في النوافل
لا إشكال ولا خلاف في عدم شرطية الإستقبال في النوافل في الجملة ، ومستنده أخبار كثيرة :
منها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن إنه سأل أبا عبدالله(عليه السلام)عن الرجل يصلّي النوافل في الأمصار وهو على دابته حيثما توجهت به؟ قال : «لابأس»(5) .
- (1) الوسائل 4 : 310 ـ 311 . أبواب القبلة ب8 .
- (2) التهذيب 1 : 25 ح64 ; الإستبصار 1 : 47 ح130 ; الوسائل 1 : 302 . أبواب أحكام الخلوة ب2 ح5 .
- (3) الوسائل 4 : 316 ـ 317 . أبواب القبلة ب11 ح4 و 6 .
- (4) التهذيب 2 : 43 ح138 ; ازاحة العلّة : 2 ; بحار الأنوار 84 : 76 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح2 .
- (5) الفقيه 1 : 285 ح1298 ; الكافي 3 : 440 ح8 ; التهذيب 3 : 230 ح591 ، وفيهما : نعم لا بأس . الوسائل 4 : 328 . أبواب القبلة ب15 ح1 .
(الصفحة 248)
ومنها : ما رواه إبراهيم الكرخي عن أبي عبدالله(عليه السلام) إنه قال له : إنّي أقدر أن أتوجه نحو القبلة في المحمل ، فقال : «هذا الضيق أما لكم في رسول الله(صلى الله عليه وآله)أسوة؟»(1) .
ومنها : صحيحة الحلبي المروية في التهذيب : إنه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن صلاة النافلة على البعير والدابة؟ فقال : «نعم حيث كان متوجهاً ، وكذلك فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)» . ورواه محمّد بن سنان على ما في الكافي مثله وزاد قلت : على البعير والدابة؟ فقال : «نعم حيث ما كنت متوجّهاً» . قلت : أستقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال : «لا ، ولكن تكبّر حيث ما كنت متوجهاً ، وكذلك فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(2) .
ومنها : صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) : في الرجل يصلّي النافلة وهو على دابته في الأمصار قال : «لا بأس»(3) . وهذه الرواية وإن لم يقع فيها التصريح بنفي شرطية الإستقبال في النافلة كبعض الروايات الاُخر ، إلاّ أنّ المتبادر منها إرادة فعلها متوجهاً نحو المقصد أي جهة كان .
ومنها : صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن(عليه السلام) قال : سألته عن صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابة إذا خرجت قريباً من أبيات الكوفة ، أو كنت مستعجلا بالكوفة؟ فقال : «إن كنت مستعجلا لا تقدر على النزول وتخوّفت فوت ذلك إن تركته وأنت راكب فنعم وإلاّ فإنّ صلاتك على الأرض أحبّ إليّ»(4) . وظاهرها جواز الإتيان بالنافلة على ظهر الدابة حيثما توجهت به ، ولكن الأفضل
- (1) الفقيه 1 : 285 ح1295 ; التهذيب 3 : 229 ح586 ; الوسائل 4 : 329 . أبواب القبلة ب15 ح2 .
- (2) التهذيب 3 : 228 ح581 ; الكافي 3 : 440 ح5 ; الوسائل 4 : 329 ـ 330 . أبواب القبلة ب15 ح6 ـ 7 .
- (3) التهذيب 3 : 229 ح589 ; الوسائل 4 : 330 . أبواب القبلة ب15 ح10 .
- (4) التهذيب 3 : 232 ح605 ; الوسائل 4 : 331 . أبواب القبلة ب15 ح12 .
(الصفحة 249)
إيقاعها على الأرض .
ومنها : ما عن الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) في قوله تعالى :
{فأينما تولّوا فثمّ وجه الله}(1) «إنّها ليست بمنسوخة ، وأنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر»(2) .
ومنها : ما عن الشيخ في النهاية عن الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى :
{فأينما تولّوا . . .}الآية قال : «هذا في النوافل خاصة في حال السفر ، فأمّا الفرائض فلابد فيها من إستقبال القبلة»(3) .
وغير ذلك ممّا يدل على عدم شرطية الاستقبال في النوافل في حال عدم استقرار المصلّي(4) ، ككونه راكباً على الدابة أو السفينة أو ماشياً في السفر والحضر ، فلا إشكال في هذه الصورة ، إنّما الإشكال فيما لو كان المصلي مستقراً أو أنّه هل تجوز صلاة النافلة مستقراً بلا استقبال إختياراً أم لا؟ قولان :
وقد نسب القول بالعدم إلى المشهور(5) ، وربّما يستدل عليه بعدم معهودية الصلاة مستقراً إلى غير القبلة عند المتشرعة ، بل تكون عندهم من المنكرات وبعدم مشروعيتها ، لكون العبادات توقيفية ، وبإطلاق قوله(صلى الله عليه وآله) : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(6) وبقوله(عليه السلام) في صحيحة زرارة : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة»(7) وفي
- (1) البقرة : 115 .
- (2) مجمع البيان 1 : 228 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح18 .
- (3) النهاية : 64 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح19 .
- (4) الوسائل 4 : 333 ـ 334 . أبواب القبلة ب15 .
- (5) الخلاف 1: 399 مسألة 45; شرائع الاسلام 1: 57; الوسيلة: 86; إرشاد الأذهان 1: 244 ; كفاية الاحكام : 15 ; مجمع الفائدة والبرهان 2 : 60 ; مدارك الأحكام 3 : 147 ; بحار الأنوار 81 : 48 ; مستند الشيعة 4 : 304 ـ 305 .
- (6) السنن الكبرى 2 : 345 .
- (7) الفقيه 1 : 180 ح855 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح2.
(الصفحة 250)
صحيحة اُخرى منه : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود»(1) .
وربّما يستدل على الأول بأصالة البراءة عن الوجوب ـ أي وجوب الاستقبال ـ وبأصالة العدم ، وبما يدلّ على عدم صلاحية صلاة الفريضة في جوف الكعبة دون النافلة(2) ، فإنّ المترائى منه أنّ عدم الصلاحية في الفريضة إنّما هو لأجل امتناع تحقق شرطها وهو الاستقبال ، والنافلة لمّا لم تكن مشروطة به ، فلم يكن فعلها فيه بغير صالح .
وبما ورد في تفسير قوله تعالى :
{فأينما تولّوا فثمّ وجه الله} من أنّها ليست بمنسوخة وأنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر(3) ، فإنّ إطلاقه يشمل النافلة في حال الاستقرار ، والتقييد بحال السفر ليس لأجل اختصاص الحكم به ، بل لأجل غلبة وقوع النوافل في حال السفر إلى غير القبلة ، ولذا لا يكون الاستقبال شرطاً لها في الأمصار أيضاً في حال عدم استقرار المصلي بلا خلاف ; ويؤيده التقابل بين الفريضة ومطلق النافلة فيما حكاه الشيخ في النهاية عن الصادق(عليه السلام) في تفسير ذلك القول(4) كما عرفت .
وأنت خبير بأنّ التمسك بأصالة البراءة مما لا يتم ، لأنّ مدركها إما حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، وإمّا حديث الرفع ونظائره . والأوّل غير جار في المقام لأنّ الكلام في شرطية الاستقبال في النافلة وهي لا يترتّب على تركها عقاب أصلا ، وكذا الثاني لأنّ حديث الرفع مسوق لرفع التضييق ، وهو معدوم في النوافل .
- (1) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2 : 152 ح597 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح1 .
- (2) الوسائل 4 : 337 ـ 338 . أبواب القبلة ب17 ح4 و5 و9 .
- (3) مجمع البيان 1 : 228 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح18 .
- (4) النهاية : 64 .