(الصفحة 248)
ومنها : ما رواه إبراهيم الكرخي عن أبي عبدالله(عليه السلام) إنه قال له : إنّي أقدر أن أتوجه نحو القبلة في المحمل ، فقال : «هذا الضيق أما لكم في رسول الله(صلى الله عليه وآله)أسوة؟»(1) .
ومنها : صحيحة الحلبي المروية في التهذيب : إنه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن صلاة النافلة على البعير والدابة؟ فقال : «نعم حيث كان متوجهاً ، وكذلك فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)» . ورواه محمّد بن سنان على ما في الكافي مثله وزاد قلت : على البعير والدابة؟ فقال : «نعم حيث ما كنت متوجّهاً» . قلت : أستقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال : «لا ، ولكن تكبّر حيث ما كنت متوجهاً ، وكذلك فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(2) .
ومنها : صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) : في الرجل يصلّي النافلة وهو على دابته في الأمصار قال : «لا بأس»(3) . وهذه الرواية وإن لم يقع فيها التصريح بنفي شرطية الإستقبال في النافلة كبعض الروايات الاُخر ، إلاّ أنّ المتبادر منها إرادة فعلها متوجهاً نحو المقصد أي جهة كان .
ومنها : صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن(عليه السلام) قال : سألته عن صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابة إذا خرجت قريباً من أبيات الكوفة ، أو كنت مستعجلا بالكوفة؟ فقال : «إن كنت مستعجلا لا تقدر على النزول وتخوّفت فوت ذلك إن تركته وأنت راكب فنعم وإلاّ فإنّ صلاتك على الأرض أحبّ إليّ»(4) . وظاهرها جواز الإتيان بالنافلة على ظهر الدابة حيثما توجهت به ، ولكن الأفضل
- (1) الفقيه 1 : 285 ح1295 ; التهذيب 3 : 229 ح586 ; الوسائل 4 : 329 . أبواب القبلة ب15 ح2 .
- (2) التهذيب 3 : 228 ح581 ; الكافي 3 : 440 ح5 ; الوسائل 4 : 329 ـ 330 . أبواب القبلة ب15 ح6 ـ 7 .
- (3) التهذيب 3 : 229 ح589 ; الوسائل 4 : 330 . أبواب القبلة ب15 ح10 .
- (4) التهذيب 3 : 232 ح605 ; الوسائل 4 : 331 . أبواب القبلة ب15 ح12 .
(الصفحة 249)
إيقاعها على الأرض .
ومنها : ما عن الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) في قوله تعالى :
{فأينما تولّوا فثمّ وجه الله}(1) «إنّها ليست بمنسوخة ، وأنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر»(2) .
ومنها : ما عن الشيخ في النهاية عن الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى :
{فأينما تولّوا . . .}الآية قال : «هذا في النوافل خاصة في حال السفر ، فأمّا الفرائض فلابد فيها من إستقبال القبلة»(3) .
وغير ذلك ممّا يدل على عدم شرطية الاستقبال في النوافل في حال عدم استقرار المصلّي(4) ، ككونه راكباً على الدابة أو السفينة أو ماشياً في السفر والحضر ، فلا إشكال في هذه الصورة ، إنّما الإشكال فيما لو كان المصلي مستقراً أو أنّه هل تجوز صلاة النافلة مستقراً بلا استقبال إختياراً أم لا؟ قولان :
وقد نسب القول بالعدم إلى المشهور(5) ، وربّما يستدل عليه بعدم معهودية الصلاة مستقراً إلى غير القبلة عند المتشرعة ، بل تكون عندهم من المنكرات وبعدم مشروعيتها ، لكون العبادات توقيفية ، وبإطلاق قوله(صلى الله عليه وآله) : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(6) وبقوله(عليه السلام) في صحيحة زرارة : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة»(7) وفي
- (1) البقرة : 115 .
- (2) مجمع البيان 1 : 228 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح18 .
- (3) النهاية : 64 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح19 .
- (4) الوسائل 4 : 333 ـ 334 . أبواب القبلة ب15 .
- (5) الخلاف 1: 399 مسألة 45; شرائع الاسلام 1: 57; الوسيلة: 86; إرشاد الأذهان 1: 244 ; كفاية الاحكام : 15 ; مجمع الفائدة والبرهان 2 : 60 ; مدارك الأحكام 3 : 147 ; بحار الأنوار 81 : 48 ; مستند الشيعة 4 : 304 ـ 305 .
- (6) السنن الكبرى 2 : 345 .
- (7) الفقيه 1 : 180 ح855 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح2.
(الصفحة 250)
صحيحة اُخرى منه : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود»(1) .
وربّما يستدل على الأول بأصالة البراءة عن الوجوب ـ أي وجوب الاستقبال ـ وبأصالة العدم ، وبما يدلّ على عدم صلاحية صلاة الفريضة في جوف الكعبة دون النافلة(2) ، فإنّ المترائى منه أنّ عدم الصلاحية في الفريضة إنّما هو لأجل امتناع تحقق شرطها وهو الاستقبال ، والنافلة لمّا لم تكن مشروطة به ، فلم يكن فعلها فيه بغير صالح .
وبما ورد في تفسير قوله تعالى :
{فأينما تولّوا فثمّ وجه الله} من أنّها ليست بمنسوخة وأنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر(3) ، فإنّ إطلاقه يشمل النافلة في حال الاستقرار ، والتقييد بحال السفر ليس لأجل اختصاص الحكم به ، بل لأجل غلبة وقوع النوافل في حال السفر إلى غير القبلة ، ولذا لا يكون الاستقبال شرطاً لها في الأمصار أيضاً في حال عدم استقرار المصلي بلا خلاف ; ويؤيده التقابل بين الفريضة ومطلق النافلة فيما حكاه الشيخ في النهاية عن الصادق(عليه السلام) في تفسير ذلك القول(4) كما عرفت .
وأنت خبير بأنّ التمسك بأصالة البراءة مما لا يتم ، لأنّ مدركها إما حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، وإمّا حديث الرفع ونظائره . والأوّل غير جار في المقام لأنّ الكلام في شرطية الاستقبال في النافلة وهي لا يترتّب على تركها عقاب أصلا ، وكذا الثاني لأنّ حديث الرفع مسوق لرفع التضييق ، وهو معدوم في النوافل .
- (1) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2 : 152 ح597 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح1 .
- (2) الوسائل 4 : 337 ـ 338 . أبواب القبلة ب17 ح4 و5 و9 .
- (3) مجمع البيان 1 : 228 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح18 .
- (4) النهاية : 64 .
(الصفحة 251)
وأمّا أصالة العدم فإن كان مرجعها إلى الاستصحاب فلا مجرى لها فيما نحن فيه لعدم وجود الحالة السابقة له ، وإن كان المراد أنّها أصل مستقل برأسه ، ففيه مضافاً إلى عدم الدليل على حجيتها ، أنّها لا تجري في مثل المقام ممّا كان الشك في ثبوت أمر إعتباري ، كالشرطية التي تنتزع من الأمر بالمشروط ، والجزئية التي تنتزع من الأمر بالكل ، بل إنّما تجري فيما لو كان الشك في وجود شيء مستقل .
وأمّا الاستدلال بما يدل على عدم جواز صلاة الفريضة في جوف الكعبة فيرده أنّ الحق جواز ذلك على كراهية ، كما هو مقتضى بعض الروايات الاُخر . وأمّا ما ورد في تفسير قوله تعالى :
{فأينما تولّوا . . .} الآية ، فلا يدل على ذلك أصلا لأنه ليس في مقام بيان هذه الجهة كما لا يخفى .
وأمّا ما استدل به على عدم الجواز فعمدته هي صحيحة زرارة الاُولى ، وتقريب دلالتها على ذلك بوجه لا يرد عليه ما أورده بعض الأعاظم(1) ، هو أنّها تدلّ على انتفاء حقيقة الصلاة وماهيتها إذا لم تكن إلى القبلة ، فصدق عنوانها على الصلوات المأتي بها في الخارج بترقّب أنّها صلاة ، يتوقف على كونها إلى القبلة ، فكلّ فرد يؤتى به من أنواع الصلوات الواجبة والمندوبة إلى غير القبلة فهو ليس من أفراد هذا العنوان .
فخرج من ذلك العموم صلاة النافلة ـ مع كون المصلي غير مستقر ـ بالإجماع وبالأخبار الصحيحة المتقدمة(2) ، وبقي الباقي تحته . فما أورد على الاستدلال بها من أنّ خروج الفرد في بعض الأحوال ينافي حجية العام بالنسبة إليه في سائر الأحوال غير وارد ، لأنّ كل ما يؤتى به في الخارج فهو فرد من أفراد طبيعة
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري (رحمه الله) : 30 و 34 .
- (2) الوسائل 4 : 328 . أبواب القبلة ب15 .
(الصفحة 252)
الصلاة ، وليست صلاة النافلة فرداً واحداً خارجاً عن تحت العموم في بعض الأحوال ، بل الصلاة مستقراً فرد مستقل شك في خروجه عن تحت العام ، فيجب الرجوع إلى أصالة الحقيقة بالنسبة إلى غير الفرد الخارج ، لأنّ الحكم بخروجه يوجب تقييداً زائداً وهو مجاز .
إن قلت : إنّ تقييد المطلق ليس مجازاً حتى لو شك فيه لوجب الرجوع إلى أصالة الحقيقة ، كما قد حقّق ذلك في الاُصول .
قلت : الأمر وإن كان كذلك في مثل قوله : «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» ، إلاّ أنّه ليس كذلك في مثل المقام لأنّ تقييد النكرة التي وقعت في سياق النفي مناف لما تكون كلمة لا موضوعة له ، لأنّها موضوعة لنفي المدخول فقط فإذا استعملت في نفيه وغيره فقد استعملت في غير الموضوعة له ، فيجب الرجوع لو شك في التقييد في مثله إلى أصالة عدمه وأصالة الحقيقة ، فظهر ممّا ذكرنا صحة التمسك بالرواية ، وأنّ الأقوى ما عليه المشهور .
ثمّ إنك بعدما عرفت جواز الإتيان بالنوافل على الراحلة وغيرها على ما هو مقتضى تلك الأخبار المذكورة ، فاعلم أنّ الأمر في الفريضة يكون كذلك في حال الضرورة ، فيجوز الإتيان بها في حالها على الراحلة وغيرها مع رعاية سائر ما يعتبر فيها بلا خلاف ولا إشكال(1) ; إنّما الخلاف في جواز صلاة النافلة على الراحلة إذا كانت متعلّقة للنذر أو غيره ، وأنّه هل تلحق بصلاة الفريضة حتّى لا يجوز الإتيان بها عليها إلاّ في حال الضرورة ، أو يكون حكمها حكم سائر النوافل التي لم يتعلّق بها نذر أو غيره ، فيجوز إتيانها على الراحلة مطلقاً في حال الضرورة وغيرها؟
- (1) الخلاف 1 : 300 مسألة 47 ; تذكرة الفقهاء 3 : 17 مسألة 143 ; كشف اللثام 3 : 159 .