(الصفحة 250)
صحيحة اُخرى منه : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود»(1) .
وربّما يستدل على الأول بأصالة البراءة عن الوجوب ـ أي وجوب الاستقبال ـ وبأصالة العدم ، وبما يدلّ على عدم صلاحية صلاة الفريضة في جوف الكعبة دون النافلة(2) ، فإنّ المترائى منه أنّ عدم الصلاحية في الفريضة إنّما هو لأجل امتناع تحقق شرطها وهو الاستقبال ، والنافلة لمّا لم تكن مشروطة به ، فلم يكن فعلها فيه بغير صالح .
وبما ورد في تفسير قوله تعالى :
{فأينما تولّوا فثمّ وجه الله} من أنّها ليست بمنسوخة وأنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر(3) ، فإنّ إطلاقه يشمل النافلة في حال الاستقرار ، والتقييد بحال السفر ليس لأجل اختصاص الحكم به ، بل لأجل غلبة وقوع النوافل في حال السفر إلى غير القبلة ، ولذا لا يكون الاستقبال شرطاً لها في الأمصار أيضاً في حال عدم استقرار المصلي بلا خلاف ; ويؤيده التقابل بين الفريضة ومطلق النافلة فيما حكاه الشيخ في النهاية عن الصادق(عليه السلام) في تفسير ذلك القول(4) كما عرفت .
وأنت خبير بأنّ التمسك بأصالة البراءة مما لا يتم ، لأنّ مدركها إما حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، وإمّا حديث الرفع ونظائره . والأوّل غير جار في المقام لأنّ الكلام في شرطية الاستقبال في النافلة وهي لا يترتّب على تركها عقاب أصلا ، وكذا الثاني لأنّ حديث الرفع مسوق لرفع التضييق ، وهو معدوم في النوافل .
- (1) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2 : 152 ح597 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح1 .
- (2) الوسائل 4 : 337 ـ 338 . أبواب القبلة ب17 ح4 و5 و9 .
- (3) مجمع البيان 1 : 228 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح18 .
- (4) النهاية : 64 .
(الصفحة 251)
وأمّا أصالة العدم فإن كان مرجعها إلى الاستصحاب فلا مجرى لها فيما نحن فيه لعدم وجود الحالة السابقة له ، وإن كان المراد أنّها أصل مستقل برأسه ، ففيه مضافاً إلى عدم الدليل على حجيتها ، أنّها لا تجري في مثل المقام ممّا كان الشك في ثبوت أمر إعتباري ، كالشرطية التي تنتزع من الأمر بالمشروط ، والجزئية التي تنتزع من الأمر بالكل ، بل إنّما تجري فيما لو كان الشك في وجود شيء مستقل .
وأمّا الاستدلال بما يدل على عدم جواز صلاة الفريضة في جوف الكعبة فيرده أنّ الحق جواز ذلك على كراهية ، كما هو مقتضى بعض الروايات الاُخر . وأمّا ما ورد في تفسير قوله تعالى :
{فأينما تولّوا . . .} الآية ، فلا يدل على ذلك أصلا لأنه ليس في مقام بيان هذه الجهة كما لا يخفى .
وأمّا ما استدل به على عدم الجواز فعمدته هي صحيحة زرارة الاُولى ، وتقريب دلالتها على ذلك بوجه لا يرد عليه ما أورده بعض الأعاظم(1) ، هو أنّها تدلّ على انتفاء حقيقة الصلاة وماهيتها إذا لم تكن إلى القبلة ، فصدق عنوانها على الصلوات المأتي بها في الخارج بترقّب أنّها صلاة ، يتوقف على كونها إلى القبلة ، فكلّ فرد يؤتى به من أنواع الصلوات الواجبة والمندوبة إلى غير القبلة فهو ليس من أفراد هذا العنوان .
فخرج من ذلك العموم صلاة النافلة ـ مع كون المصلي غير مستقر ـ بالإجماع وبالأخبار الصحيحة المتقدمة(2) ، وبقي الباقي تحته . فما أورد على الاستدلال بها من أنّ خروج الفرد في بعض الأحوال ينافي حجية العام بالنسبة إليه في سائر الأحوال غير وارد ، لأنّ كل ما يؤتى به في الخارج فهو فرد من أفراد طبيعة
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري (رحمه الله) : 30 و 34 .
- (2) الوسائل 4 : 328 . أبواب القبلة ب15 .
(الصفحة 252)
الصلاة ، وليست صلاة النافلة فرداً واحداً خارجاً عن تحت العموم في بعض الأحوال ، بل الصلاة مستقراً فرد مستقل شك في خروجه عن تحت العام ، فيجب الرجوع إلى أصالة الحقيقة بالنسبة إلى غير الفرد الخارج ، لأنّ الحكم بخروجه يوجب تقييداً زائداً وهو مجاز .
إن قلت : إنّ تقييد المطلق ليس مجازاً حتى لو شك فيه لوجب الرجوع إلى أصالة الحقيقة ، كما قد حقّق ذلك في الاُصول .
قلت : الأمر وإن كان كذلك في مثل قوله : «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» ، إلاّ أنّه ليس كذلك في مثل المقام لأنّ تقييد النكرة التي وقعت في سياق النفي مناف لما تكون كلمة لا موضوعة له ، لأنّها موضوعة لنفي المدخول فقط فإذا استعملت في نفيه وغيره فقد استعملت في غير الموضوعة له ، فيجب الرجوع لو شك في التقييد في مثله إلى أصالة عدمه وأصالة الحقيقة ، فظهر ممّا ذكرنا صحة التمسك بالرواية ، وأنّ الأقوى ما عليه المشهور .
ثمّ إنك بعدما عرفت جواز الإتيان بالنوافل على الراحلة وغيرها على ما هو مقتضى تلك الأخبار المذكورة ، فاعلم أنّ الأمر في الفريضة يكون كذلك في حال الضرورة ، فيجوز الإتيان بها في حالها على الراحلة وغيرها مع رعاية سائر ما يعتبر فيها بلا خلاف ولا إشكال(1) ; إنّما الخلاف في جواز صلاة النافلة على الراحلة إذا كانت متعلّقة للنذر أو غيره ، وأنّه هل تلحق بصلاة الفريضة حتّى لا يجوز الإتيان بها عليها إلاّ في حال الضرورة ، أو يكون حكمها حكم سائر النوافل التي لم يتعلّق بها نذر أو غيره ، فيجوز إتيانها على الراحلة مطلقاً في حال الضرورة وغيرها؟
- (1) الخلاف 1 : 300 مسألة 47 ; تذكرة الفقهاء 3 : 17 مسألة 143 ; كشف اللثام 3 : 159 .
(الصفحة 253)
وكذا الإشكال في جواز صلاة الفريضة على الراحلة إذا صارت مستحبة كصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى ، ومنشأ الإشكال في الفرض الأول اختلاف الأخبار .
ففي صحيحة عبدالله بن سنان قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أيصلّي الرجل شيئاً من الفروض راكباً؟ فقال : «لا إلاّ من ضرورة»(1) .
وفي صحيحة عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا يصلّي على الدابة الفريضة إلاّ مريض يستقبل به القبلة ويجزيه فاتحة الكتاب ، ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شيء ، ويؤمي في النافلة ايماءً»(2) .
وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى(عليه السلام) قال : سألته عن رجل جعل لله عليه أن يصلي كذا وكذا هل يجزيه أن يصلي ذلك على دابته وهو مسافر؟ قال(عليه السلام) : «نعم»(3) .
فمقتضى الصحيحتين الأوّليين عدم جواز الإتيان بالنافلة المنذورة على الراحلة إلاّ في حال الضرورة ، بناء على إطلاق لفظ الفريضة وشمولها لما صارت فريضة بالعرض ، ومقتضى الصحيحة الأخيرة هو الجواز مطلقاً في حال الضرورة وغيرها ، فهما مطلقتان من حيث الموضوع ، والأخيرة مطلقة من حيث الحكم ، فيرجع الأمر إلى تقديم أحد الإطلاقين على الآخر .
فقد يقال بتقديم الإطلاق الأوّل وتقييد الثاني بحال الضرورة ، كما ذهب إليه بعض ، وقد يقال بتقييد الأوّل بالفرائض الذاتية وتقديم الثاني كما هو الظاهر ، لأنّ دلالتها على إطلاق الحكم من حيث حال الضرورة وغيره أقوى من دلالتهما على
- (1) التهذيب 3 : 308 ح954 ; الوسائل 4 : 326 . أبواب القبلة ب14 ح4 .
- (2) التهذيب 3 : 308 ح952 ; الوسائل 4 : 325 . أبواب القبلة ب14 ح1 .
- (3) التهذيب 3 : 231 ح596 ; الوسائل 4 : 326 . أبواب القبلة ب14 ح6 .
(الصفحة 254)
الإطلاق من حيث شموله للنوافل الذاتية المفروضة بالعرض ، لأنّ تقييدها بحال الضرورة في غاية البعد ، لأنّ الظاهر أنّ عليّ بن جعفر(عليه السلام) كان عالماً بالفرق بين النافلة والفريضة من حيث جواز الإتيان بالاُولى على الراحلة مطلقاً ، وعدم جواز الإتيان بالثانية عليها إلاّ في حال الضرورة .
فسؤاله إنّما هو عن جواز الإتيان بالنافلة المنذورة على الراحلة في حال الإختيار ، لأنّ من المعلوم أنّ ما صار فريضة بالعرض لا يزيد حكمه على المفروض بالذات ، فإذا جاز الإتيان بالثاني في حال الضرورة على الراحلة فالإتيان بالأول عليها في حالها يكون جائزاً بطريق أولى ، فما يتعلّق به الشك والتحير الموجب للسؤال إنّما هو ما ذكرنا من الإتيان بالفريضة بالعرض على الراحلة في حال الإختيار ، فيجب تقييد الروايتين بها . هذا ، مضافاً إلى أنّ مورد الرواية هو ما كان المنذور نافلة دون الأعمّ منها ومن الفريضة كما هو واضح .
ومن المعلوم أنّ الوجوب الآتي من قبل النذر لا يغير المنذور عمّا هو عليه من الحكم ، بل المنذور بعد تعلّق النذر به إنّما يصير ديناً لله على العبد يجب الوفاء به ، ووجوب الوفاء بالشيء لا يغير حكمه ، فإذا كانت صلاة الليل مثلا قبل تعلّق النذر بها ممّا يجوز الإتيان بها على الراحلة ، فبعدما صارت ديناً على العبد ووجب عليه الإتيان بها لا يصير حكمها عدم جواز الإتيان بها على الدابة وغيرها ، كما هو المغروس في أذهان العرف .
ومضافاً إلى أنّ أخذ الفروض في الروايتين الاُوليين متعلّقاً لعدم الجواز ليس من باب مدخلية الفرضية في ذلك الحكم ، بل التعبير بها للإشارة إلى العناوين المفروضة بالذات كما لا يخفى .
ويؤيّد ما ذكرنا ـ من عدم جواز تقييد الأخيرة بحال الضرورة ـ ما دلّ على أنّ