(الصفحة 261)
ومن المعلوم أنّ ما هو المناط في وجوب الستر ثابت في الوجه على النحو الأتم كما لا يخفى . فتدل الرواية حينئذ على أنّه يجب على المرأة ستر جميع البدن حتّى الوجه والكفّين . هذا ، ويحتمل أن يكون المراد من العورة ما هو معناها بحسب اللغة وهو كلّ شيء يستره الإنسان للاستحياء من ظهوره لكونه قبيحاً ، ويكون المراد من الرواية أنّ المرأة شيء يستحيي من ظهورها لاحتفافها بالأعمال القبيحة ، والأفعال الممنوعة التي لا ينبغي صدورها منها .
ويؤيده ما رواه الخاصّة عن النّبي(صلى الله عليه وآله) انّه قال : «النساء عيّ وعورة فداووا عيّهنّ بالسكوت وعوراتهنّ بالبيوت»(1) فإنّ حفظ عوراتهنّ بالبيوت يدل على كون ظهورها ولو مع تسترها بالثياب معرضاً لصدور الأفعال القبيحة ، فحمل العورة على المرأة باعتبار احتفافها بتلك الأفعال والأعمال ، وإلاّ فنفس المرأة ليست شيء يستحيي منها مع قطع النظر عن احتفافها بها ، كما يدلّ عليه إضافة العورات إليهن .
ولكنّ الظاهر من الرواية هو المعنى الأول كما هو غير خفيّ على من لاحظ ما هو المفهوم من العورة عند العرف ، وقوله(صلى الله عليه وآله) : «فداووا . . . وعوراتهنّ بالبيوت» يكون تأكيداً لحرمة ظهورها غير مستورة ووجوب سترها ، فلا ينافي عدم وجوب الحفظ بالبيوت .
هذا مقتضى الرواية الاُولى ، وأمّا الرواية الثانية فتدلّ أيضاً على وجوب ستر الوجه والكفّين عليها ، بضميمة وجوب إرخاء مقدار من الجلباب الذي يستفاد من قوله تعالى :
{يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ} وبضميمة وجوب ضرب الخمار على الجيب الذي يدلّ عليه قوله تعالى :
{وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ}(2)
- (1) أمالي الطوسي 2 : 192 ; بحار الأنوار 100 : 251 ح48 .
- (2) النور: 31.
(الصفحة 262)
فانقدح أنّ مقتضى هاتين الروايتين ـ كغيرهما ممّا لم يكن بهذا الظهور ـ هو العموم بالنسبة إلى الوجه والكفين .
وقوله تعالى :
{ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها} وإن كان المستفاد منه عدم وجوب سترهما بناءً على ما حكاه العامة عن ابن عباس من تفسير الزينة الظاهرة بالكحل والخدّين والخضاب في الكف(1) ، إلاّ أنّه بملاحظة أنّ انكشاف المرأة وعدم تستّرها ولو بوجهها يعدّ عند المتشرّعة من المنكرات ، وأنّ السيرة المستمرة قائمة على عدمه ، فيعلم أنّ المراد من الزينة الظاهرة ليس ما هو المحكيّ عن ابن عباس ، بل المراد منها هو الثياب كما حكي عن ابن مسعود(2) .
ومن هنا انقدح أنّه لا اعتبار بالأخبار الدالة على عدم وجوب ستر الوجه والكفّين ، كخبر مسعدة بن زياد المحكيّ عن قرب الإسناد حيث قال : سمعت جعفراً وسئل عمّا تظهر المرأة من زينتها؟ قال : «الوجه والكفّان»(3) . وغيره ممّا رواه الخاصة عن الأئمة(عليهم السلام) ، وذلك لإعراض الأصحاب عنها لقيام السيرة على خلافها .
نعم قد ورد في باب إحرام المرأة روايات ، واستدل القائلون بعدم وجوب سترهما ببعضها كصحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : مرّ أبو جعفر(عليه السلام) بامرأة متنقبة وهي محرمة ، فقال : «أحرمي واسفري وأرخي ثوبك من فوق رأسك ، فإنّك إن تنقبت لم يتغيّر لونك» ، فقال رجل : إلى أين ترخيه؟ قال : «تغطّي عينيها» ، قال : قلت : تبلغ فمها؟ قال : «نعم»(4) . والمراد بقوله : إسفري وجوب كشف الغطاء عن الوجه .
- (1) جامع البيان 10 : 157 ـ 158 ; الدر المنثور 5 : 41 .
- (2) مجمع البيان 7 : 138 .
- (3) قرب الاسناد : 83 ح257 ; الوسائل 20 : 202 . أبواب مقدّمات النكاح ب110 ح5 .
- (4) الكافي 4 : 344 ح3 ; التهذيب 5 : 74 ح245 ; الوسائل 12 : 494 . أبواب تروك الاحرام ب48 ح3 .
(الصفحة 263)
وأنت خبير بأنّ هذه الرواية لا تدلّ على وجوب كشف الوجه على نحو يمكن أن ينظر الناظر إليه ، ويقع معرضاً لنظره ، بل إنّما تدل على حرمة تغطية الوجه على نحو تكون بعيدة عن التأذي بسبب حرارة الشمس وغيرها ، كما إذا غطّى الوجه بالنقاب ونحوه ، فلا تنافي مع وجوب ستره على نحو لا يكون معرضاً لنظر الأجنبي إليه ، كما هو المرسوم في هذه الأزمنة ، وعلى فرضه فلا تدلّ على كون الحكم في غير حال الإحرام أيضاً كذلك .
هذا ، مضافاً إلى أنّ ذيلها يدلّ على وجوب إرخاء الثوب من فوق الرأس على نحو يغطّي العينين والفم ، فالمستفاد من الآيات والروايات هو وجوب التستّر على المرأة حتى بالنسبة إلى الوجه والكفّين ، ولم يثبت ما يدلّ على التخصيص بهما .
ثمّ لا يخفى أنّ الحكم بعدم وجوب ستر الوجه على النساء لا يلازم الحكم بجواز نظر الأجنبيّ إليه ، فلا ينافيه ما يدلّ على حرمة النظر إلى الأجنبية ، مثل ما دلّ على أن النظر إليها سهم مسموم من سهام إبليس . أو أنّه زنا البصر(1) وغير ذلك ، فإنّ شمولها للنظر إلى الوجه ممّا لا يكاد ينكر ، بل هو القدر المتيقّن منه ، خصوصاً مع ملاحظة الحكمة في هذا الحكم المنصوص عليها في بعض الروايات(2) ، وهي كونه مهيّجاً للشهوة ، فإنّ التهييج الحاصل من النظر إلى الوجه يكون أقوى مراتبه .
ويدلّ على عدم ثبوت الملازمة بين الأمرين أنّ نظر المرأة إلى الأجنبي حرام مع أنّه لا يجب التستّر عليه بالاجماع(3) والضرورة ، حتّى إنّ بعضهم مع حكمه بعدم وجوب التستّر على النساء في الوجه حرّم نظرهنّ إلى وجوه الرجال .
- (1) جامع الاخبار : 93 ; بحار الأنوار 101 : 38 ح34 و35 ; وص40 ح46 .
- (2) علل الشرائع : 564 ; عيون الاخبار 2 : 97 ; بحار الأنوار 101 : 34 ح12 .
- (3) جواهر الكلام 29 : 81 .
(الصفحة 264)
وبالجملة : فلا ملازمة بين حرمة النظر ووجوب التستر ، ويؤيّد ذلك أنّهم أجمعوا على أنّه يجوز لمن أراد أن يتزوّج امرأة أن ينظر إلى وجهها ، ولمن أراد اشتراء أمة أن ينظر إلى الوجه والكفّين(1) ، فإنّه يستفاد منه أنّ جواز النظر إلى الأجنبية يختصّ بمن أراد التزويج أو الاشتراء ، ولا يعمّ غيرهما .
ثمّ إنّه لا فرق فيما يتستّر به بين أن يكون ثوباً أو غيره من ورق الشجر وغيره وإن كان يمكن الفرق بينهما في الستر الذي يكون شرطاً للصلاة . إلاّ أنّه لا فرق في هذا الستر المتعلّق للوجوب النفسي ; هذا كلّه في حكم النساء .
وأمّا الرجال فيجب عليهم ستر العورة كما هو المتّفق عليه بين المسلمين(2) ، والمشهور بين العامّة أنّه يجب عليهم التستّر من السرّة إلى الركبتين(3) ، وبين الخاصة هو وجوب ستر العورة فقط لقوله تعالى :
{قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم}(4) والظاهر من حفظ الفرج وإن كان هو حفظه عن الزنا ، إلاّ أنّه بقرينة الأخبار الدالّة على أنّ المراد بحفظ الفرج في الآيات كلّها هو حفظه عن الزنا إلاّ هذه الآية(5) ، فإنّ المراد منه حفظه من أن ينظر إليه يدلّ على ذلك .
والمراد بالفرج هو ما يفهم منه عرفاً لا المعنى اللغوي ، ومقتضى إطلاق الآية وجوب حفظ الفرج عن كلّ ناظر رجلا كان أو امرأة ، صغيراً أو كبيراً ، مجنوناً أو غيره ، نعم الصغير الذي لا يميّز بين العورة وغيرها خارج عن هذا الحكم ، لأنّ
- (1) المقنعة : 520 ; المبسوط 4 : 160 ـ 161 ; شرائع الإسلام 4 : 212 ; جواهر الكلام 29 : 63 .
- (2) الخلاف 1 : 393 مسألة 144 ; المعتبر 2 : 99 ، تذكرة الفقهاء 2 : 444 مسألة 10 ; الذكرى 3 : 5 ; كشف اللثام 3 : 227 ; مفتاح الكرامة 2 : 162 .
- (3) الأمّ 1 : 89 ; المجموع 3 : 167 ; بداية المجتهد 1 : 166 ـ 167 ; الخلاف 1 : 393 مسألة 144 .
- (4) النور : 30 .
- (5) مجمع البيان 7 : 137 و 138 ; الميزان 15 : 116 ; نور الثقلين 3 : 587 و 588 ; التفسير الكبير 8 : 363 .
(الصفحة 265)
المتبادر من الإطلاق غيره ، وكذا المجنون الذي بلغ جنونه إلى حدّ عدم التمييز بينهما لا مطلق الجنون .
ثمّ إنّه لا إشكال في وجوب حفظ الفرج عليهم في صورة العلم أو الظنّ ، بأنّه مع كشف العورة يقع مورداً لنظر الغير ، أمّا مع الاحتمال فقال بعض : بعدم الوجوب فيما لو كان الاحتمال موهوماً ، بحيث لو كشف عورته مع هذا الاحتمال فوقع نظر الناظر إليه لم يكن معاقباً عليه .
هذا ، ولا يخفى أنّه لو كان الاحتمال إحتمالا عقلائيّاً فمقتضى إطلاق الآية هو الوجوب ، ومع عدم كونه كذلك فمقتضى الإطلاق وإن كان أيضاً ذلك إلاّ أنّ الحكم به لا يخلو عن إشكال .
وقال الشافعي بأنّه يجب على الرجال التستّرولومع العلم بعدم وجود الناظر(1)، وفيه ما لا يخفى من المخالفة للآية الشريفة المفسّرة بما رواه العامّة عن النّبي(صلى الله عليه وآله)(2) ، والخاصّة عن أبي عبدالله(عليه السلام)(3) ، من أنّ المراد حفظ الفرج من أن ينظر إليه .
ثمّ إنّ حفظ الفرج يتحقّق بجعل حائل بين المبصِر والمبصَر ولو لم يكن ثوباً ، والأحوط أن لا يكون شفّافاً بحيث يحكي ما تحته ، نعم لا دليل على وجوب كون الحائل على نحو لا يحكي حجم المبصر ، وإن كان الأحوط أيضاً ذلك .
ثمّ إنّ كلمة «من» في قوله تعالى :
{وقُل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم}يحتمل أن تكون زائدة وأن تكون للتبعيض ، وهو إمّا باعتبار الابصار أو باعتبار المبصر ، فعلى الأوّل والثاني لا دلالة له على ما يجب غضّ البصر عنه ، لأنّ متعلّقه محذوف ولا يمكن أن يكون حذف المتعلّق هنا دليلا على العموم كما في سائر الموارد
- (1) المجموع 3 : 166 ـ 167 ; المغني لابن قدامة 1 : 651 ; تذكرة الفقهاء 2 : 444 مسألة 106 .
- (2) التفسير الكبير 8 : 363 .
- (3) مجمع البيان 7 : 138 .