(الصفحة 266)
لعدم إرادته قطعاً فهي مجملة من هذه الحيثية .
كما أنّ الإجمال متحقّق في المعنى الثالث أيضاً كما لا يخفى ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد وجوب غضّ البصر عن فروج سائر الرجال لمقارنته مع قوله تعالى :
{ويحفظوا فروجهم} فيصير المعنى حينئذ أنّه يجب على المؤمنين حفظ فروجهم من أن ينظر إليها ، ويحرم عليهم النظر إلى فروج غيرهم من الرجال .
وأمّا الكلام في الجهة الثانية ، وهي الوجوب الشرطي المتعلّق بالستر ، فهو المقصود بالبحث . واعلم أنّ بين الوجوب النفسي المتعلّق بالستر مطلقاً والوجوب الشرطي الذي يتعلّق به في حال الصلاة فرق من جهات :
منها : أنّ الأوّل يتعلّق بالرجل بالنسبة إلى عورته وبالمرأة بالنسبة إلى جميع بدنها إذا كانا معرضين لنظر الغير كما عرفت ، والثاني يكون ثابتاً عليهما مطلقاً ولو لم يكونا معرضين للنظر أصلا .
ومنها : أنّ الأوّل أعمّ من حيث الساتر أي لا يجب أن يكون هو الثوب ، بل يكفي ورق الشجر أو الطين أو غيرها ، بخلاف الثاني ، فإنّه يجب أوّلا أن يكون الساتر هو الثوب ، ومع عدم التمكّن منه يكتفي بغيره ، وإن لم يكن متمكّناً من الساتر رأساً تسقط شرطية الستر كما سيجيء .
ومنها : أنّه لا يعتبر في الأوّل أن يكونا لابسين له ، بل يكفي أن يكون الساتر بحيث يكون حائلا بينه وبين الغير وإن كان منفصلا عنه بخلاف الثاني ، فإنّه يجب أن يكون المصلّي لابساً له .
ومنها : أنّه لا يعتبر في الأوّل صفة في الساتر ، أي لا يعتبر أن لا يكون حريراً للرجل أو غيره ، بخلاف الثاني فإنّه يجب أن لا يكون الساتر حريراً للرجل أو ميتة أو نجساً ومن أجزاء غير مأكول اللحم لمطلق المصلّي وإن كان امرأة .
نعم هذه الأوصاف لا تعتبر في الساتر بما هو ساتر ، بل تكون معتبرة فيه من
(الصفحة 267)
حيث كون المصلّي لابساً له ، وبعبارة أُخرى يشترط أن لا يكون ما يلبسه المصلّي وإن لم يكن ساتراً له واجداً لواحد من تلك الأوصاف ، ويكون وجود واحد منها مانعاً لصحّة الصلاة كما سيظهر إن شاء الله تعالى .
إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّه لا يجب على الرجال في الصّلاة إلاّ ستر ما يكون ستره متعلّقاً للوجوب النفسي ، فيجب عليهم ستر العورة فقط ، خلافاً لبعض العامّة(1) حيث أوجب عليهم أن يستروا ما بين السرّة والركبة ، ولكن لا دليل عليه كما عرفت ، ولكن يستحبّ نفسيّاً أن يستر ما بينهما(2) ، ويوجب ذلك أكملية الصلاة ، هذا في الرجال .
وأمّا النساء فيجب عليهنّ ستر جميع البدن ما عدى الوجه ، فإنّ ستره لا يكون شرطاً لصحّة الصلاة(3) ، كما هو مقتضى الأخبار الصحيحة الدالّة على ذلك(4) ، بل بعضها يدلّ على استحباب عدمه(5) ، غاية الأمر أنّها إذا كانت معرضاً لنظر الغير ولم يستر وجهها تكون عاصية للوجوب النفسي ، بناءً على وجوب ستره عليها ، وهذا لا يكون مضرّاً بصحّة الصلاة كما هو واضح .
والمراد بالوجه الذي لا يجب ستره في الصلاة ولا يكون شرطاً لها هل هو الوجه الذي يجب غسله في باب الوضوء ، وهو ما دارت عليه الابهام والوسطى من قصاص الشعر إلى الذقن ، كما رواه زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)(6) ، أو أنّ المراد به هو
- (1) كالشافعي ومالك وأبي حنيفة كما في بداية المجتهد 1 : 166 . المسألة الثانية .
- (2) قواعد الأحكام 1 : 256 ; وهو المشهور كما في كشف اللثام 3 : 231 .
- (3) المبسوط 1 : 87 ; الإقتصاد : 258 ; الكافي في الفقه : 139 ; السرائر 1 : 260 ; مختلف الشيعة 2 : 98 .
- (4) الفقيه 1 : 167 ح785 ; الوسائل 4 : 405 . أبواب لباس المصلّي ب28 ح1 .
- (5) التهذيب 2 : 230 ح904 ; الوسائل 4 : 421 . أبواب لباس المصلّي ب33 ح1 وص424 ب35 ح6 .
- (6) الفقيه 1 : 28 ح88 ; الكافي 3 : 27 ح1 ; التهذيب 1 : 54 ح154 ; الوسائل 1 : 403 . أبواب الوضوء ب17 ح1 .
(الصفحة 268)
الوجه العرفي الذي يكون أوسع من ذلك؟ وجهان :
من أنّ تفسير الإمام(عليه السلام) الوجه بذلك في باب الوضوء يدلّ على أنّ الوجه في نظر الشارع هو ذلك المقدار . ومن أنّ مراده(عليه السلام) هو عدم وجوب غسل ما هو خارج عن ذلك الحدّ في قبال العامّة ، حيث إنّهم يجعلون كلاًّ من أجزاء الوجه مورداً للبحث ويناظرون فيه ، حتى إنّ بعضهم أوجب غسل الأذنين ، فمراده(عليه السلام)إبطال قولهم بوجوب غسل ما هو زايد على ذلك المقدار ، وبيان ما يجب غسله من الوجه ، فلايدل على أنّ المراد بالوجه في غير ذلك المورد هو هذا المقدار . وهذا الوجه هو الظاهر .
ولا يخفى أنّ المراد ممّا ذكره الإمام(عليه السلام) إنّه يجب غسل المقدار الذي يكون مساوياً للمقدار الذي هو منتهى الفاصلة بين الابهام والوسطى ، بحيث لا يخرج عن حدّ الوجه ، فلا يرد أنّ وجوب غسل ذلك المقدار في الذقن لا يتحقق امتثاله إلاّ بإدخال جزء من العنق في الغسل ، وذلك لخروجه عن حدّ الوجه ، ولعلّه السبب في حمل بعض وتأويله الرواية على فرض دائرة في الوجه يكون قطرها ذلك المقدار الفاصل بين الابهام والوسطى .
وأنت خبير ببعد هذا المعنى والصواب ما ذكرناه . هذا ، ولكنّ التحقيق إنّه ليس في الأخبار الدالة على عدم وجوب ستر الوجه في الصلاة ما يدلّ على استثناء الوجه بعنوانه حتّى يبحث في المراد منه ، بل مدلول تلك الأخبار إنّما هو مجرّد ما يكفي من الثياب أن تصلّي المرأة فيها ، مثل قوله(عليه السلام) : «المرأة تصلّي في الدرع والمقنعة»(1) ، وقوله(عليه السلام) : «صلّت فاطمة(عليها السلام) في درع وخمارها على رأسها»(2)
- (1) الفقيه 1 : 343 ح1081 ; الكافي 3 : 394 ذ ح2 ; التهذيب 2 : 217 ذ ح855 ; الوسائل 4 : 405 . أبواب لباس المصلّي ب28 ح3 وص 406 ذ ح7 .
- (2) الفقيه 1: 167 ح785; الوسائل 4: 405. أبواب لباس المصلّي ب28 ح1.
(الصفحة 269)
والمعنى : إنّ أقل ما يكفي من الثياب هو الدرع والخمار ، والمراد بالأوّل هو قميص المرأة الذي يستر من الكتف إلى القدمين ، وبالثاني هو ما يستر رأس المرأة .
وحينئذ فلابد من الفحص والتتبع ليعرف المقدار الخارج عن الدرع والخمار حتّى يستدل بتلك الأخبار على عدم وجوب ستره ، وإن لم تدلّ على وجوب ستر كلّ ما هو داخل فيهما ومستور بهما ، لإمكان عدم وجوب ستر بعض ما يكون داخلا فيهما كما لا يخفى .
وانقدح ممّا ذكرنا أنّ ستر المرأة وجهها لا يكون شرطاً لصحّة صلاتها ، كما هو المشهور بين العامّة(1) والخاصّة(2) ، للأخبار الدالّة على أنّ المرأة تصلّي في درع وخمار ، ومن المعلوم أنّ الخمار لا يكون ساتراً للوجه . وحكي عن بعض العامّة(3)والخاصّة أنّ ستره يكون واجباً وشرطاً لها ، كالمحكي عن ابن حمزة من أنّه يجب عليها ستر جميع بدنها إلاّ موضع السجود(4) .
وما حكي عن الغنية والجمل والعقود ، من شرطية ستر جميع البدن من غير استثناء(5) ممّا لا وجه له ، وكذا ما حكي عن البعض الآخر من جواز كشف بعض الوجه(6) ويمكن أن يكون مراده وجوب ستر البعض من باب المقدّمة ، فلا ينافي ما ذكرنا ، وقد عرفت أنّ المراد بالوجه فيما نحن فيه هو الوجه العرفي الشامل للصدغين وما يحاذيهما من الوجه ، لا الوجه في باب الوضوء ، ويدلّ عليه ما رواه الصدوق
- (1) بداية المجتهد 1 : 167 المسألة الثالثة ; المغني لابن قدامة 1 : 672 ; المجموع 3 : 169 .
- (2) المبسوط 1 : 87 ; الإقتصاد : 258 ; الكافي في الفقه : 139 ; السرائر 1 : 260 ; مختلف الشيعة 2 : 98 .
- (3) وهو أبو بكر بن عبدالرحمن بن هشام كما في تذكرة الفقهاء 2: 446 مسألة 108; والخلاف 1: 394 مسألة 144 .
- (4) الوسيلة : 89 .
- (5) الغنية : 65 ; الجمل والعقود : 63 .
- (6) إشارة السبق : 83 .
(الصفحة 270)
عن الفضيل ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «صلّت فاطمة(عليها السلام) في درع وخمارها على رأسها ، ليس عليها أكثر ممّا دارت به شعرها وأذنيها»(1) .
والمراد أنّ خمارها كان على نحو لا تستر أزيد من الشعر والأذنين من الوجه ، وليس المراد أنّه لا يستر العنق والصدر كما لا يخفى .
إن قلت : إنّه لا يدلّ على ما ذكر ، لأنّ مضمونه إنّما هو حكاية فعلها(عليها السلام)والفعل لا إطلاق له ، فلعلّها كانت تصلّي فيهما لضرورة .
قلت : نعم ، يصحّ ذلك لو كان الحاكي غير الإمام(عليه السلام) ، وأمّا لو كان هو الحاكي مع كون المقصود من الحكاية بيان الحكم ، يعلم عدم كونه مقيّداً بحال الضرورة وغيره ، وإلاّ كان عليه البيان كما لا يخفى . هذا ، ولكن الفضيل مشترك وطريق الصدوق إليه ضعيف ، فالأحوط الاقتصار على القدر المتيقن ، وهو الوجه في باب الوضوء .
ثمّ إنّه هل يكون المراد بالوجه ظاهره فقط حتّى يكون ستر باطنه شرطاً لصحّة صلاتها ، أو أنّ المراد به أعمّ من باطنه؟ قولان ، حكى صاحب الجواهر عن كاشف الغطاء القول بوجوب ستر الباطن(2) ، لأنّ المتبادر من الوجه ظاهره ، فلا تشمل الأدلة غيره .
وفيه قد عرفت أنّه لا دليل على استثناء الوجه بعنوانه حتّى يقال إنّ المتبادر منه خصوص الظاهر ، بل الدليل هو مثل قوله(عليه السلام) : «المرأة تصلّي في الدرع والمقنعة»(3) وهو كما يدلّ على عدم وجوب ستر الظاهر لخروجه عنهما ، كذلك يدلّ على عدم وجوب ستر الباطن لعدم الفرق ، هذا كلّه في الوجه .
- (1) الفقيه 1 : 167 ح785 ; الوسائل 4 : 405 . أبواب لباس المصلّي ب28 ح1 .
- (2) كشف الغطاء : 197 ; جواهر الكلام 8 : 174 .
- (3) الوسائل 4 : 405 . أبواب لباس المصلّي ب28 ح3 و ص406 ذ ح7 .