(الصفحة 296)
الأوداج، وسائر الشرائط في بعض الحيوانات لخصوصية فيه كما يظهر من بعض(1) ، وذلك لعدم دلالة الأدلة على أزيد ممّا ذكرنا ، فإذا تحقّق جميع الشرائط المعتبرة تتحقق التذكية ، وليس مورد يشكّ في قابلية حيوان للتذكية وعدمها .
نعم يمكن الشك في أنّه إذا ذكّي هل يكون طاهراً أو لا؟ والمرجع حينئذ هو استصحاب الطهارة ، إذ الموضوع لها في حال الحياة هو الجسم فقط لا مع تعلّق الروح به ، فالموضوع باق في زمان الشك ، وعلى فرض عدم الجريان يكون المرجع قاعدة الطهارة ، وكذا إذا شكّ في أنّه بعد الذبح هل يكون حلالا أو حراماً؟ لأنّه يجب الرجوع إلى أصالة الاباحة . هذا في الشبهة الحكمية .
وأمّا فيما نحن فيه من الشبهة الموضوعية ، فقد عرفت أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هي الحرمة والنجاسة ، لجريان استصحاب عدم التذكية ، بناءً على ما هو الظاهر من أنّ الميتة في نظر العرف كل ما لم يذكّ سواء مات حتف أنفه أو بالحديد ، أو غيره مع عدم تحقّق شرائط التذكية ، خلافاً لبعضهم حيث خصّها بالأول ، وسيأتي الكلام فيه .
هذا، مضافاً إلى ما يظهر من بعض الأخبار من الحكم بالحرمة فيما إذا رمى صيداً وأصابه،ولكن شكّ في أنّ موته هل كان لإصابة الرمي أولتحقّق سبب آخرمن السقوط عن الجبل أو الوقوع في الماء ، إذ مع وجود سبب آخر مقتض للموت لا تنفع إصابة الرمي، فمع احتماله يكون مقتضى استصحاب عدم التذكية، الحرمة والنجاسة.
ثمّ إنّ صاحب المدارك وجمعاً ممّن تبعه ذهبوا إلى أنّ الحكم بالنجاسة في الجلد المطروح وترتيب آثارها عليه يتوقف على العلم بها أو الظنّ الحاصل من البيّنة لو سلم عموم دليلها(2) ، ويمكن أن يستدلّ على مذهبه بما يظهر من الأخبار الواردة في
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري (رحمه الله)
- : 50 .
- (2) مدارك الاحكام 2: 387 ، مفاتيح الشرائع 1 : 108 .
(الصفحة 297)
هذه المسألة .
مثل صحيحة الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال : «اشتر وصلِّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه»(1) .
ومضمرة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ قال : «نعم ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر(عليه السلام) كان يقول : إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، أنّ الدين أوسع من ذلك»(2) .
ورواية أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا(عليه السلام) قال : سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخفّ لا يدري أذكيّ هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهو لايدري أيصلّي فيه؟ قال : «نعم، أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي وأُصلّي فيه وليس عليكم المسألة»(3) .
ورواية الحسن بن الجهم قال : قلت لأبي الحسن(عليه السلام) : اعترض السوق فأشتري خفّاً لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال : صلِّ فيه. قلت : فالنعل؟ قال : مثل ذلك ، قلت : إنّي أضيق من هذا، قال(عليه السلام) : أترغب عمّا كان أبو الحسن يفعله؟!(4) .
والاستدلال بهذه الروايات المشتملة على ذكر السوق مبني على أن يكون ذكر السوق فيها لبيان منشأ الشك في أنّه منتزع من المذكّى أو الميتة ، لا لكونه أمارة على ثبوت التذكية .
ولو نوقش في الاستدلال بها من هذه الجهة ـ بتقريب أنّ سوق المسلمين
- (1) التهذيب 2 : 234 ، ح920; الكافي 3: 403 ح28; الوسائل 3 : 490 . أبواب النجاسات ب50 ح2 .
- (2) الفقيه 1: 167 ح787; التهذيب 2: 368 ح1529; الوسائل 3: 491. أبواب النجاسات ب50 ح3.
- (3) التهذيب 2: 371 ح1545; قرب الإسناد : 309 ح1374 ; الوسائل 3: 492. أبواب النجاسات ب50 ح6 .
- (4) الكافي 3 : 404 ح31; التهذيب 2 : 234 ح921 ; الوسائل 3 : 493 . أبواب النجاسات ب50 ح9 .
(الصفحة 298)
أمارة شرعية على ثبوت التذكية ، فيمكن أن يكون الحكم بالطهارة وجواز الصلاة فيه لأجل وجود هذه الأمارة ، لا لأجل كفاية مجرّد عدم العلم بالنجاسة ـ يمكن الاستدلال له ببعض الأخبار الواردة في هذا الحكم الدالة باطلاقها على ما إذا لم يكن في البين أمارة تدلّ على أنّه منتزع من المذكّى .
كرواية عليّ بن أبي حمزة أنّ رجلا سأل أبا عبدالله(عليه السلام) ـ وأنا عنده ـ عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه؟ قال : نعم، فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت، قال(عليه السلام) : وما الكيمخت؟ قال : جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّاً، ومنه ما يكون ميتة، فقال : «ما علمت أنّه ميتة فلا تصلِّ فيه»(1) .
ونحوها رواية سماعة أنّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن تقليد السيف في الصلاة وفيه الفراء والكيمخت؟ فقال : «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة»(2) .
ورواية جعفر بن محمّد بن يونس أنّ أباه كتب إلى أبي الحسن(عليه السلام) يسأله عن الفرو والخفّ، ألبسه وأُصلّي فيه ولا أعلم أنّه ذكيّ؟ فكتب(عليه السلام) : «لا بأس به»(3) ، والظاهر منها بمقتضى ترك الاستفصال عدم الفرق بين ما لو كان السيف أو الفرو والخفّ ، واصلا إليه من يد المشركين أو غيرهم .
وأظهر منها في الدلالة على العموم ما رواه السكوني عن أبي عبدالله ، عن آبائه(عليهم السلام)، أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة، يكثر لحمها وخبزها وجبنها وبيضها، وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين(عليه السلام) : «يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل لأنّه يفسد وليس له بقاء فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن» . قيل له : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسيّ؟! فقال : «هم في سعة حتّى
- (1) التهذيب 2: 368 ح1530; الوسائل 3: 491. أبواب النجاسات ب50 ح4.
- (2) الفقيه 1 : 172 ح811; التهذيب 2 : 205 ح800; الوسائل 3 : 493 . أبواب النجاسات ب50 ح12 .
- (3) الفقيه 1: 167 ح789; الوسائل 4: 456. أبواب لباس المصلّي ب55 ح4.
(الصفحة 299)
يعلموا»(1) .
ولا يخفى أنّه لا يجوز الاعتماد على إطلاقها للروايات الاُخرى الدالة على التقييد ، مثل ما رواه الكليني عن عمر بن أذينة، عن فضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر(عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون؟ فقال(عليه السلام) : «كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه»(2) فإنّ مقتضى مفهومها أنّه لو كان شرائها من غير أسواقهم لا يجوز أكلها من دون سؤال .
والظاهر أنّ المراد من سوق المسلمين هو السوق الذي كان أكثر أهله مسلماً ، لا السوق المنعقد في البلد الذي يكون تحت سلطنة الإسلام وحكومة المسلمين ، ولو كان جميع أهله أو أكثره مشركاً .
وأيضاً الظاهر أنّ اعتبار السوق إنّما هو بالنسبة إلى من كان مجهول الحال ولايعلم أنّه مسلم أو كافر ، فإنّه يبنى على إسلامه لمكان غلبة المسلمين فيه ، ويكون إسلامه أمارة على وقوع التذكية الشرعية على الحيوان ، وإلاّ فلو علم بكفر البائع والذابح أو بكفر الأوّل فقط مع الشك في كفر الثاني فلا يؤثِّر في حلية اللحم المشترى منه كون أكثر أهل السوق مسلماً كما هو واضح ، فيرجع اعتبار السوق إلى اعتبار يد المسلم .
غاية الأمر انّه لا فرق بين ما إذا أُحرز إسلامه بالقطع أو بني عليه للغلبة ونحوها ، ثمّ إنّ مقتضى الرواية جواز الأكل مع السؤال عند الاشتراء من غير المسلم ، والظاهر أنّ المراد به هو السؤال عن البائع دون غيره ، فيرجع إلى اعتبار
- (1) الكافي 6 : 297 ح2; المحاسن 2: 239 ح1737; الوسائل 3: 493. أبواب النجاسات ب50 ح11 وج24: 90. أبواب الذبائح ب38 ح2.
- (2) الكافي 6: 237 ح2; الفقيه 3: 211 ح976; التهذيب 9: 72 ح306 و307; الوسائل 24: 70. أبواب الذبائح ب29 ح1.
(الصفحة 300)
قوله عند الإخبار بوقوع التذكية أو بجريان يد المسلم عليه .
كما يدلّ عليه منطوق رواية إسماعيل بن عيسى القمّي قال : سألت أبا الحسن(عليه السلام)عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل(1) أيُسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال(عليه السلام) : «عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه»(2) . فإنّ ظاهرها جواز الانتفاع بالجلود واستعمالها فيما إذا كان البائع مشركاً مع السؤال عنه .
ثمّ إنّ الظاهر من هذه الرواية عدم الفرق في جواز الانتفاع بدون السؤال بين ما إذا كان البائع مسلماً عارفاً بالإمامة أو غير عارف ، وعليه فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لكونه أمارة شرعية على كون الحيوان مذكّى بالتذكية المعتبرة عند العارف ، وذلك لاختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية، كاجتزائهم في الصيد بارسال غير الكلب المعلّم ، وكذلك في بعض الفروع كحكمهم بطهارة جلد الميتة بالدباغ ، وإنّه تذكيته ، وبطهارة ذبائح أهل الكتاب ، وغير ذلك من الموارد ، فلا يكون مجرّد كونه في يده أو مع ترتيبه آثار المذكّى عليه كالصلاة فيه ـ كما هو محتمل الرواية ـ أمارة على وقوع التذكية المعتبرة عندنا عليه .
فالحكم حينئذ باعتبار يد المسلم ليس لأماريته ، بل لأجل أنّ الغالب في تلك الأزمنة هو كون المسلمين غير عارفين ، فيكون بائع الجلود وغيرها أيضاً غير عارف بحسب الغالب ، والحكم بعدم اعتبار يدهم مستلزم للعسر ، فلذا جعل الشارع الأصل في الحيوان التذكية تعبداً فيما إذا لم يكن بائعه مشركاً .
- (1) ذكر في بعض النسخ بالياء ، وعليه يكون المراد به هو بلد الجيلان كما أنّ المراد بالأوّل هو بلد الري وأطرافه ولعلّه الظاهر (منه) .
- (2) الفقيه 1: 167 ح788; التهذيب 2 : 371 ح1544; الوسائل 3 : 492 . أبواب النجاسات ب50 ح7 .