(الصفحة 303)
مضموناً هو تعهّد البائع وإخباره بانتزاعه من الحيوان المذكّى ، وعدم البأس معه يرجع إلى جواز الاعتماد على قوله كما لا يخفى .
ويؤيده أيضاً بعض الروايات المتقدّمة كمضمرة أحمد بن محمد بن أبي نصر ، وروايته الاُخرى عن الرضا(عليه السلام)(1) ، وبعض ما يأتي في المسألة الآتية ، هذا مضافاً إلى استقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على قول ذي اليد والأخذ به في الأمور المتعلّقة بما في يده من الاقرار به لغيره وغيره ، والظاهر أنّ الشارع لم يردع عنها بل جرى على طبقها وحكم بجواز الأخذ والاعتماد على قول ذي اليد عند الإخبار بالتذكية، أو بالطهارة والنجاسة أو بغيرها كما لا يخفى .
ثمّ إنّك عرفت فيما تقدّم أنّ مقتضى الأصل الأوّلي في الجلد أو اللحم المشكوك هي الحرمة والنجاسة ، لجريان استصحاب عدم التذكية ، لأنّ الحلية وكذا الطهارة معلقة في الدليل على التذكية ، فإذا أحرز بالاستصحاب عدمها فلا يترتب عليه الآثار المترتبة على وجودها ، بل يترتب عليه التحريم والنجاسة .
لأنّ ظاهر الأدلة والفتاوى عدم اختصاص موضوعهما بعنوان الميتة التي هي عبارة عن خصوص الحيوان الذي مات حتف أنفه ، كما أنّه ربما يساعده العرف ويؤيده قوله تعالى :
{حرّمت عليكم الميتة والدم . . .}(2) حيث جعلها مقابلة للمتردية والنطيحة وغيرهما .
وإن كان قد يترائى من بعض الأخبار المتقدمة ما يدل بظاهره على أنّ الحرمة موقوفة على العلم بكون الحيوان ميتة ، عدم الواسطة بين المذكى والميتة ، كما أنّه ربما يستشعر ذلك من بعض الأخبار الواردة في مسألة صيد المحرم ، حيث أطلق فيه الميتة على الصيد الذي ذكاه المحرم .
- (1) الوسائل 3: 491 ، 492. أبواب النجاسات ب50 ح3 و 6 .
- (2) المائدة : 3 .
(الصفحة 304)
وبالجملة : فالظاهر انّ الحيوان الذي مات بسبب خارجي غير التذكية الشرعية يلحق بالميتة حكماً ، وإن كان لحوقه بها موضوعاً محلّ تأمل بل منع ، فلا يجوز الرجوع معه إلى أصالتي الحلية والطهارة .
هذا ، ويظهر من الفاضل التوني صاحب الوافية أنّه لا يجرى استصحاب عدم التذكية(1) خلافاً للمشهور ، لأنّ عدم التذكية لازم أعم لموجب النجاسة ، لأنه لازم الأمرين الحياة والموت، والموجب للنجاسة هو ملزومه الثاني دون الأول، وهو ليس له حالة سابقة ، والمعلوم ثبوته في الزمان الأوّل هو الأمر الأوّل ، وهو لا يكون باقياً في الزمان الثاني قطعاً .
والظاهر من بعض كما ربّما يؤيده ذيل كلام هذا الفاضل أنّ هذا الاستصحاب من أفراد القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وهو محل نظر ، لأنّ عدم التذكية ليس أمراً متّحداً مع الحيوان في حالتي الحياة والموت ، كالكلي المتحد مع أفراده ، بل هو أمر عدميّ يقارن الحياة وقد يقارن الموت .
والقطع بانتفاء مقارنه في الزمان الثاني لا يوجب القطع بانتفاء عدم التذكية فيه ، لأنّه عدم أزليّ مستمرّ مع الحيوان في الحالتين ، وبعد الموت نشك في انقطاعه في حال زهوق الروح فيستصحب ، بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأولين من استصحاب الكلي ، كان هذا الاستصحاب في ذلك الأمر العدمي خالياً عن الإشكال .
ثمّ إنّ الشيخ(رحمه الله) في رسالة الاستصحاب بعد نقله كلام الفاضل المتقدم في ذيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي والجواب عنه والاشكال عليه بما ذكرنا ، من عدم كون المقام من مصاديق ذلك القسم ، وأنّه يجري الاستصحاب هنا ، ولو لم نقل بجريان الاستصحاب في الكلّي أصلا .
(الصفحة 305)
قال ما ملخّصه : إنّ الاستصحاب يجري في ذلك الأمر العدمي إذا لم يرد به إثبات الموجود المتأخّر المقارن له ، نظير إثبات الموت حتف الأنف بعدم التذكية ، وكذا إذا لم يرد به إثبات ارتباط الموجود المقارن له به ، نظير إثبات كون هذا الدم الموجود ليس بحيض باستصحاب عدم صيرورة المرأة حائضاً ، أو عدم رؤيتها دم الحيض حتّى يحكم عليه بالاستحاضة ، لورود الدليل مثلا على أنّ «كل ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن بحيض فهو استحاضة»(1) .
وذلك لأنّ اعتبار كون المرأة حائضاً يغاير اعتبار كون هذا الدم دم الحيض ، وإن كانا متحصّلين في الواقع ونفس الأمر بتحقّق واحد ، وكان منشأ اعتبارهما أمراً واحداً ، وهو كون هذا الدم ممّا اقتضت طبيعة المرأة خروجه في كل شهر مثلا لقذف جدران الرحم له ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بتغايرهما في عالم الاعتبار . وجريان الاستصحاب في الأوّل لوجود الحالة السابقة له لا يثبت به الاعتبار الثاني مع عدم وجود تلك الحالة له كما هو واضح .
ويظهر من حاشية بعض الأعاظم على هذا المقام من كلام الشيخ(قدس سره)، أنّ استصحاب عدم التذكية يكون من قبيل استصحاب عدم صيرورة المرأة حائضاً في عدم إثباته كون هذا اللحم غير مذكّى ، حيث إنّه بعد استظهار أنّ الميتة في نظر الشارع والمتشرعة هي ما كان فاقداً لشرائط التذكية ، وأنّ الموضوع للحرمة والنجاسة هو ما عدى المذكّى قال : وكونه كذلك ـ أي كون هذا اللحم غير مذكّى ـ لا يثبت بأصالة عدم التذكية ، كما أنّه لا يثبت بأصالة عدم صيرورة المرأة حائضاً، أو عدم رؤية دم الحيض كون الدم المرئي متّصفاً بكونه ليس بحيض حتّى يحكم بأنّه استحاضة، كما سيوضّحه المصنّف(قدس سره) .
ثم قال : فمقتضى القاعدة هو التفكيك بين الآثار ، فما كان منها مترتباً على عدم
(الصفحة 306)
كون اللحم مذكّى ـ كعدم حلّيته وعدم جواز الصلاة فيه ، وعدم طهارته ، وغير ذلك من الأحكام العدمية المنتزعة عن الوجوديات التي تكون التذكية شرطاً في ثبوتها ـ ترتب عليه فيقال: الأصل عدم تعلّق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه فلا يحلّ أكله، ولا الصلاة فيه، ولا استعماله فيما يشترط بالطهارة .
وأمّا الآثار المترتّبة على كونه غير مذكّى ، كالأحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات ، كحرمة أكله ، ونجاسته ، وتنجيس ملاقيه ، وحرمة الانتفاع به ، أو بيعه ، وغير ذلك من الأحكام المتعلّقة على عنوان الميتة أو غير المذكّى، فلا(1) . انتهى موضع الحاجة من كلامه(قدس سره) .
وحاصله الفرق بين عدم كون اللحم مذكّى وكونه غير مذكّى ، بأنّ ما يترتّب عليه الآثار الوجودية كحرمة الأكل والنجاسة وغيرهما ، هو الثاني دون الأول ، وما يجري فيه الأصل هو الأول دون الثاني ، ولا يثبت بجريانه فيه إلاّ على القول بالأصل المثبت الذي هو خلاف التحقيق .
وفيه ، إنّ المراد بالغير في الثاني إن كان هو الغير المأخوذ غالباً في السلب كقول القائل : زيد غير عالم ، فمن الواضح حينئذ أنّه لا يبقى فرق بينه وبين الأوّل ، وإن كان المراد به هو الغير الذي أخذ جزء للمحمول على نحو القضية المعدولة لا السالبة المحصّلة ، ففيه : مضافاً إلى أنّ الفرق بينهما إنّما هو بالاعتبارات العقلية التي تكون خارجة عن فهم العرف ، إنّ القول بكونه موضوعاً لتلك الآثار الوجودية ممنوع .
بل الظاهر إنّ ما ترتّبت عليه تلك الآثار هو الأول ، وهو عدم كون اللحم مذكّى ، وكذا لو كان المراد بغير المذكّى هو ما يغاير المذكّى ، بأن كان الموضوع لتلك الأحكام اللحم المتّصف بأنّه مغاير للمذكّى ، فإنّه يرد عليه المنع من ذلك، فظهر أنّ مجرى الاستصحاب هو ما كان موضوعاً لتلك الآثار الوجودية .
- (1) تعليقة المحقّق الهمداني على فرائد الاصول : 171 .
(الصفحة 307)
هذا ، وغاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا القول : إنّ في ناحية الموضوع اعتبارين :
أحدهما : اعتبار كون الحيوان قد زهق روحه لا بالتذكية ، وهذا يجري فيه الأصل بعد ثبوت جزئه الآخر بالوجدان .
ثانيهما : اعتبار كونه قد زهق روحه بسبب آخر غير التذكية ، وهذا لا يثبت بالأصل الجاري في الأوّل ، لأنّ كون انقطاع حياته بحدوث سبب غير القتل المخصوص ، أي التذكية من اللوازم غير الشرعية التي لا تترتب على ثبوت المستصحب في الزمان الثاني على ما هو التحقيق .
هذا ، ويرد عليه مضافاً إلى ما عرفت ، عدم الفرق بين الآثار الوجودية المترتبة على غير المذكى ، وبين الآثار العدمية المنتزعة عمّا يترتب على المذكى من الآثار الوجودية ، فإذا أحرز عدم التذكية بالاستصحاب ، فالآثار المعلّقة على عنوان المذكى منتفية ، وانتفائها عين ثبوت تلك الآثار الوجودية كما هو واضح .
ثمّ إنّه يظهر من بعض محققي المتأخرين عدم جريان استصحاب عدم التذكية في بعض الموارد ، بناءً على أن تكون التذكية عبارة عن نفس الأفعال المخصوصة ، وكذا بناءً على القول الآخر في بعض الموارد أيضاً حيث قال ما ملخّصه :
إنّه لو قلنا بكون التذكية هي نفس الأفعال المخصوصة يكون موضوعها هو الحيوان، وحينئذ يشكل جريان الاستصحاب في الجلد أو اللحم المشكوك فيما إذا لم يكن في البين حيوان شكّ في وقوع التذكية عليه ، كما فيما إذا علمنا بكون واحد معيّن من هذين الحيوانين مذكّى والآخر المعيّن ميتة ، ولكن شكّ في أنّ هذا الجلد هل كان منتزعاً من المذكّى أو الميتة؟
لأنّ الحيوان لم يكن مشكوك التذكية، والجلد لم يكن موضوعاً لها ، فلا يجري الاستصحاب ، ولا أصل في البين يعيّن كونه منتزعاً من الميتة ، لعدم وجود الحالة