(الصفحة 308)
السابقة له ، مضافاً إلى وجود المعارض ، وأمّا لو قلنا بأنّها عبارة عن حالة وكيفيّة تتحصل من الأفعال المخصوصة ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب مطلقاً حتّى في المثال المتقدّم .
لأنّه لا إشكال في أنّ هذه الحالة تسري في جميع أجزاء الحيوان ، فكلّ جزء منه يوصف بأنّه مذكّى بواسطة تلك الأفعال من اللحم والجلد وغيرهما .
ثمّ قال ما حاصله : إنّه يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب بناءً على القول الثاني أيضاً في بعض الموارد ، كما في المثال المتقدّم ، لأنّه بعد فرض كون الجلد ممّا يحتمل أن يكون مأخوذاً من المذكّى المعلوم تفصيلا ، يحتمل أن لا يكون رفع اليد عن عدم التذكية في السابق من أفراد نقض اليقين بالشكّ ، بل من أفراد نقض اليقين باليقين، لأنّ الجلد لوكان مأخوذاً من المذكّى انتقض الحالة السابقة باليقين بالتذكية.
وبالجملة : لا يمكن التمسّك في الفرض المذكور بعموم لا تنقض ، لأنّ المفروض الشك في تحقق موضوعه وعدم جواز التمسك فيه بالعام ، قد كان متفقاً عليه بينهم(1) . انتهى .
وتحقيق النظر فيه موقوف على بيان صور المسألة :
فاعلم أنّه قد يكون الحيوان مشكوك التذكية مع عدم كونه من أطراف العلم الإجمالي بثبوت التذكية ، وفي هذه الصورة لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه بناءً على ما عرفت ، ويترتّب عليه عدم جواز الانتفاع بشيء من أجزائه من اللحم والجلد وغيرهما .
وقد يكون الحيوان من أطراف العلم الاجمالي بالتذكية مع عدم العلم تفصيلا بعنوان المذكّى ، ولا بعنوان الميتة ، كما فيما إذا علم إجمالا بأنّ واحداً من هذين الحيوانين مذكّى والآخر ميتة ، وهو أيضاً لا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، ولا
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري (رحمه الله) : 49 ـ 50 .
(الصفحة 309)
يضرّ وجود العلم الاجمالي بكون واحد منهما مذكّى ، لأنّ عدم جريان الأصل في أطرافه إنّما هو فيما إذا كان العلم الاجمالي مثبتاً للتكليف ، وكان جريانه مستلزماً لرفع اليد عن التكليف المنجز .
وبالجملة : هذا فيما إذا لزم من جريانه تحقّق المخالفة العملية للمعلوم بالاجمال . وأمّا فيما نحن فيه وأمثاله ، ممّا إذا كان العلم الاجمالي نافياً للتكليف ، كما فيما إذا علم إجمالا بطهارة واحد من الإنائين المسبوقين بالنجاسة ، فالظاهر عدم المانع من جريان الأصل .
نعم من تمسّك لعدم الجواز بلزوم التنافي في مدلول لا تنقض وما يساوقه من أدلّة الاُصول ، فالظاهر عنده عدم الجواز مطلقاً ، ولكنّ الظاهر عدم تمامية الدليل كما قرّرنا في محلّه .
وقد يكون كذلك ، لكن مع العلم تفصيلا بعنوان المذكّى والميتة ، كما فيما إذا علم بأنّ الغنم الذي يكون متعلقاً بزيد مذكّى والآخر الذي يتعلق بعمرو ميتة ، ثمّ شكّ في أنّ هذا الغنم هل الذي وقعت التذكية عليه أو غيره؟ للشكّ في أنّه لزيد أو لعمرو ، والظاهر أيضاً أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في هذه الصورة ، طبقاً لما تقدّم في الصورة السابقة .
ولا يخفى عليك أنّ جريان الأصل في الصورتين الأخيرتين مع وجود العلم الاجمالي بكون أحدهما ميتة وهو يوجب عدم جواز الانتفاع بهما ، إنّما يثمر فيما إذا لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً في إثبات التنجز بالنسبة إلى أطرافه كما إذا خرج بعض أطرافه عن مورد ابتلاء المكلّف ، لأنّ مقتضى الأصل عدم جواز الانتفاع ولو في مثل هذا الفرض كما هو غير خفيّ .
وقد يكون كالصورة السابقة ، لكن مع تخلّل العلم التفصيلي بالغنم المتعلّق بزيد أو بعمرو ، ثمّ عروض الشك فيه ، قد يقال في هذه الصورة كما قيل: بعدم
(الصفحة 310)
جريان الاستصحاب فيه ، إمّا لأنّه لا يعلم كون النقض فيها نقضاً لليقين بالشكّ ، لاحتمال كون الحيوان هو ما يتعلّق بزيد ، وعليه فانتقض اليقين بعدم التذكية باليقين بوجودها ، فكون المورد من مصاديق النقض بالشكّ الذي هو مورد الاستصحاب غير معلوم . وإمّا لأنّه يعتبر في جريانه اتّصال زمان اليقين بالشكّ المفروض انتفائه .
ولكن الظاهر عدم المانع من جريانه فيها أيضاً ، لأنّه لا يعتبر في الاستصحاب إلاّ اليقين بالحدوث والشك في البقاء وهما ثابتان في المقام ، واعتبار اتصال زمان اليقين بالشكّ إن اُريد به اعتبار اتصال زمان نفس الوصفين ، فلا دليل عليه ، بل هو على خلافه ، لجريان الاستصحاب فيما إذا علم بنجاسة مايع ثمّ علم بطهارته ثمّ شكّ في بقاء النجاسة لأجل الشك في يقينه الثاني .
وإن اُريد به اعتبار اتصال زمان المتيقّن والمشكوك ، فهو عين اعتبار الشك في البقاء المتحقّق في المقام .
وبالجملة: لا مانع من جريان الأصل من هذه الحيثية أصلا .
وأنت إذا أمعنت النظر فيما ذكرنا من الحكم في تلك الصور ، تظهر لك ما في الكلام السابق من النظر الوارد على ما أفاده المحقق المتقدم بناءً على القول الثاني .
هذا ، ويرد على ما ذكره بناءً على القول الأول ـ وهو كون التذكية عبارة عن نفس الأفعال المخصوصة ـ انّ التذكية بناءً عليه هي تلك الأفعال بما أنّها مؤثِّرة في قتل الحيوان ، وموجبة لانقطاع حياته ، ضرورة أنّ ايقاع تلك الأفعال على الميتة لا يوجب اتّصافها بكونها مذكّاة .
ومن المعلوم حينئذ أنّ كل جزء من الحيوان يوصف بأنّه أثّر فيه تلك الأفعال بإيجابها ، سلب الآثار المترتّبة عليه بوصف الحياة عنه ، ولو في الأجزاء التي لا تحلّها الحياة ، فما أفاده من أنّ الجلد خارج عن موضوع التذكية بناءً على هذا القول ممّا لا يصح كما لا يخفى .
(الصفحة 311)الأمر الثاني : أن لا يكون لباس المصلّي من أجزاء الحيوان غير المأكول اللحم
من الاُمور المعتبرة في لباس المصلّي أن لا يكون من أجزاء الحيوان الذي يحرم أكل لحمه ، واعتباره في لباس المصلّي ممّا تفردّت به الإماميّة(1) ، خلافاً لسائر فرق المسلمين ، حيث لم يتعرّضوا لهذه المسألة في كتبهم مع كونها ممّا يعمّ به البلوى .
ولا يخفى أنّ الأخبار الواردة في هذا المقام من الأئمة(عليهم السلام) أكثرها لا يخلو من ضعف ، أو إرسال ، أو غيرهما كما يظهر لمن راجعها ، نعم واحد منها يكون موثّقاً ، وهو الخبر الآتي ، ولذلك استشكل صاحب المدارك في المسألة(2) ، بناءً على مذهبه
- (1) الخلاف 1 : 63 و511 ; مسألة 11 و256; الإستبصار: 135; الغنية: 66; الوسيلة: 88 ; الكافي في الفقه: 140; المهذّب 1: 75; المعتبر 2: 78 ; المنتهى 1: 226; تذكرة الفقهاء 2: 465 مسألة 118; نهاية الأحكام 1: 373; السرائر 1: 262; مدارك الاحكام 3: 161; روض الجنان: 213; جامع المقاصد 1: 86 .
- (2) بعد المراجعة إلى كلامه ظهر أنّ مختاره هو ما ذهب إليه الشهيدان(رحمهما الله) لا الإشكال في أصل المسألة فلا تغفل . «المقرّر» مدارك الاحكام 3 : 161 .
(الصفحة 312)
في الخبر الواحد من اختصاص الحجية بالصحيح الأعلائي منه ، وهو ما كان كل واحد من رواته مذكّى بتذكية عدلين . ولكن ذلك ـ أي عدم خلوّ الأخبار من ضعف أو إرسال ـ لا يوجب إشكالا في المسألة بعد ذهاب الأصحاب من السلف إلى الخلف إلى اعتبار ذلك فيه ، في قبال سائر المسلمين ، وبعد الاجماعات المنقولة المدعاة في كلام كثير منهم .
هذا، مضافاً إلى عدم انحصار الحجية بما ذكره صاحب المدارك كما قرّر في محلّه.
وبالجملة : لا يمكن رفع اليد عمّا يدلّ عليه الأخبار بعد كونها مؤيّدة بالشهرة العظيمة المحققة والاجماعات المنقولة الكثيرة ، فالإشكال في أصل المسألة ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه .
نعم يقع الكلام في أنّ ذلك هل يكون معتبراً في خصوص لباس المصلّي وهو ما يلبسه المصلّي ممّا هو محيط به كالقميص وغيره ، أو يشمل مثل التكّة والجورب والقلنسوة ونحوها ممّا يصدق عليه اللباس ولا يكون محيطاً بالشخص اللاّبس له ، أو يعمّ ما ذكر وما إذا لم يكن لباساً ولكن كان لباسه ملاصقاً وملابساً معه ، كما إذا لاقى ثوبه بول غير مأكول اللحم ، أو كانت خيوط ثوبه التي خيط بها من شعره وغيرهما من الصور ، أو يقال بشمول دليل الاعتبار لمثل ما إذا كان محمولا للمصلّي أيضاً؟ وجوه:
ذهب الشهيدان(قدس سرهما) إلى اختصاص المنع بما إذا كان لباس المصلّي من أجزائه(1) ، بل نقل عنهما أنّ عدم شمول دليل المنع لما إذا صلّى في الثوب الذي ألقى عليه شعراته ، وجواز الصلاة فيه من المقطوع به(2) ، ولكن حكي عن ظاهر المشهور القول بالمنع
- (1) الذكرى 3 : 32; روض الجنان : 214 ; مسالك الأفهام 1: 162 .
- (2) مدارك الاحكام 3 : 166 .