(الصفحة 312)
في الخبر الواحد من اختصاص الحجية بالصحيح الأعلائي منه ، وهو ما كان كل واحد من رواته مذكّى بتذكية عدلين . ولكن ذلك ـ أي عدم خلوّ الأخبار من ضعف أو إرسال ـ لا يوجب إشكالا في المسألة بعد ذهاب الأصحاب من السلف إلى الخلف إلى اعتبار ذلك فيه ، في قبال سائر المسلمين ، وبعد الاجماعات المنقولة المدعاة في كلام كثير منهم .
هذا، مضافاً إلى عدم انحصار الحجية بما ذكره صاحب المدارك كما قرّر في محلّه.
وبالجملة : لا يمكن رفع اليد عمّا يدلّ عليه الأخبار بعد كونها مؤيّدة بالشهرة العظيمة المحققة والاجماعات المنقولة الكثيرة ، فالإشكال في أصل المسألة ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه .
نعم يقع الكلام في أنّ ذلك هل يكون معتبراً في خصوص لباس المصلّي وهو ما يلبسه المصلّي ممّا هو محيط به كالقميص وغيره ، أو يشمل مثل التكّة والجورب والقلنسوة ونحوها ممّا يصدق عليه اللباس ولا يكون محيطاً بالشخص اللاّبس له ، أو يعمّ ما ذكر وما إذا لم يكن لباساً ولكن كان لباسه ملاصقاً وملابساً معه ، كما إذا لاقى ثوبه بول غير مأكول اللحم ، أو كانت خيوط ثوبه التي خيط بها من شعره وغيرهما من الصور ، أو يقال بشمول دليل الاعتبار لمثل ما إذا كان محمولا للمصلّي أيضاً؟ وجوه:
ذهب الشهيدان(قدس سرهما) إلى اختصاص المنع بما إذا كان لباس المصلّي من أجزائه(1) ، بل نقل عنهما أنّ عدم شمول دليل المنع لما إذا صلّى في الثوب الذي ألقى عليه شعراته ، وجواز الصلاة فيه من المقطوع به(2) ، ولكن حكي عن ظاهر المشهور القول بالمنع
- (1) الذكرى 3 : 32; روض الجنان : 214 ; مسالك الأفهام 1: 162 .
- (2) مدارك الاحكام 3 : 166 .
(الصفحة 313)
مطلقاً(1) ، ويدلّ عليه ما رواه في الكافي موثقاً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير ، قال : سأل زرارة أبا عبدالله(عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكل شيء منه فاسدة، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله، ثمّ قال : يازرارة هذا عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكّى قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسدة، ذكّاه الذبح أم لم يذكّه»(2) .
وقد استشكل على الاستدلال بالرواية للقول المشهور بأنّ ظاهر كلمة «في» ، في قوله : «فالصلاة في وبره . . .» ، هي الظرفية ، ومقتضاها كون أجزاء غير مأكول اللحم ، بحيث يكون ظرفاً للمصلّي ومحيطاً به ، وهو لا يصدق فيما إذا ألقي على ثوبه وبره أو شعره ، وكذا فيما إذا كان مستصحباً لهذه الاُمور من دون لبس هذا ، ونقل عن البهبهاني(قدس سره) أنّه أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله :
إنّ كلمة «في» ليست للظرفية ، لامتناع اعتبار كون البول والروث ظرفاً للمصلّي فلابدّ من أن يراد منها المصاحبة ، ومعه يتمّ الاستدلال ، ثمّ أورد على نفسه بأنّ اعتبار الظرفية في الروث والبول إنّما هو بملاحظة تلطّخ الثوب أو البدن بواحد منهما ، فكأنّه قيل: الصلاة في الثوب المتلطّخ بهما فاسدة .
وعليه فلا يشمل ما إذا كان شيء من أجزاء غير المأكول محمولا للمصلّي ولا يدلّ على المنع فيه .
- (1) راجع ص311 .
- (2) الكافي 3 : 397 ح1; التهذيب 2 : 209 ح818 ; الوسائل 4 : 345 . أبواب لباس المصلّي ب2 ح1 .
(الصفحة 314)
ثمّ أجاب بأنّ ذلك المعنى مستلزم للاضمار والحذف ، بخلاف ما ذكرنا في معناه فإنّه مستلزم للمجازية، وقد قرّر في الاُصول تقدّم الثاني على الأوّل ، فيما إذا دار الأمر بينهما(1) ، انتهى .
ولكن يمكن أن يقال بإمكان اعتبار الظرفية فيما إذا تلطّخ الثوب بهما بملاحظة ملابسة الثوب معهما ، فكأنّهما صارا جزئين للثوب ، فهو نظير ما إذا كان بعض الثوب من أجزاء غير المأكول دون البعض الآخر .
هذا ، ولا يخفى بعد هذا المعنى والظاهر بعد امتناع اعتبار الظرفية لما عرفت في كلام المجيب هو جعل كلمة «في» بمعنى المصاحبة ، ومعه يتمّ الاستدلال ويشمل الدليل جميع الصور حتّى ما إذا كان المصلّي مستصحباً لرطوبات غير المأكول التي لا تعدّ من أجزائه الفعلية .
ثمّ لا يخفى أنّ التكرار الواقع في قوله : «إنّ الصلاة . . .» ، والحزازة الواقعة في قوله : «لا تقبل تلك الصلاة . . .» ، وغير ذلك من الجهات المخالفة للفصاحة يشعر بأنّ الرواي نقل الرواية بالمعنى ، ولم يضبط الألفاظ الصادرة من الإمام(عليه السلام) ، ولكنّه لا يضرّ بالاستدلال بالرواية لمعلومية المضمون الصادر منه(عليه السلام) .
ويؤيّدها ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمّد بن أحمد، عن عمر بن عليّ بن عمر بن يزيد، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني قال : كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقية ولا ضرورة ، فكتب : «لا تجوز فيه الصلاة»(2) وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة عليه بالعموم أو بالخصوص(3) ، وإن كان كل واحد منها لا يصلح للحجّية ولا يجوز الاعتماد عليه منفرداً ، إلاّ أنّ
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 123 .
- (2) التهذيب 2 : 209 ح819 ; الاستبصار 1 : 384 ح1455; الوسائل 4 : 346 . أبواب لباس المصلّي ب2 ح4 .
- (3) راجع الوسائل 4 : 345 . أبواب لباس المصلّي ب 2 .
(الصفحة 315)
المجموع قابل للاستناد إليه ، خصوصاً بعد ملاحظة الشهرة والاجماعات المنقولة .
ثمّ إنّ مقتضى اطلاق موثقة ابن بكير المتقدّمة وغيرها عدم الفرق في المنع عن الصلاة في أجزاء غير المأكول بين كون ما يصلّى فيه ممّا تتمّ فيه الصلاة منفرداً ، وبين غيره كالقلنسوة والجورب وغيرهما ممّا لا تتمّ فيه الصلاة وحده ، خلافاً لما حكي عن الشيخ في المبسوط حيث خصّ فيه المنع بالأوّل بعد اختياره في النهاية التعميم(1) على ما هو ظاهر كلامه بل صريحه .
ونقل العلامة في محكيّ المختلف عن الشيخ إنّه استدل على الجواز في الثاني بأنه قد ثبت للتكّة والقلنسوة حكم مغاير لحكم الثوب من جواز الصلاة فيهما ، وإن كانا نجسين أو من حرير محض ، فكذا يجوز لو كانا من وبر الأرانب وغيره(2) . انتهى .
وظاهر كلامه وإن كان هو الاستدلال بالقياس الذي أجمعت الإمامية على عدم حجيته ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون مراده الاستدلال بما ورد في الحرير الفارق بينهما في الحكم الشامل بعمومه للمقام ، وهو ما رواه في التهذيب عن كتاب سعد بن عبدالله الأشعري، عن موسى بن الحسن ـ الذي هو من أكابر الطبقة الثامنة ـ عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد ، عن الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكّة الأبريسم والقلنسوة والخفّ والزنار يكون في السراويل ويصلّى فيه»(3) .
بناءً على أن يكون قوله : «مثل التكّة الأبريسم . . .» ، بياناً لما هو المانع من صحة الصلاة فيما تتمّ فيه الصلاة وحده ومثالا له ، ولم يكن مراده الاختصاص بالابريسم بل كان ذكره كذكر التكّة والقلنسوة من باب المثال ، ففي الحقيقة يكون
- (1) المبسوط 1 : 82 ـ 83 ; النهاية : 96 .
- (2) مختلف الشيعة 2 : 80 .
- (3) التهذيب 2 : 357 ح1478; الوسائل 4 : 376 . أبواب لباس المصلّي ب14 ح2 .
(الصفحة 316)
المراد أنّ كل ما يكون مانعاً من الصلاة فيما تتمّ الصلاة فيه من كونه نجساً أو حريراً محضاً أو من أجزاء غير المأكول فهو لا يكون مانعاً بالنسبة إلى ما لا تتمّ الصلاة فيه وحده ، فتجوز الصلاة فيه وإن كان واجداً لشيء من الموانع أو لجميعها .
فالرواية بعمومها تدلّ على ما ذكره الشيخ(رحمه الله) من الفرق بينهما في المقام أيضاً ، ويمكن أن يكون مراده الاستدلال بالاستقراء ، بتقريب أنّ مراجعة الأدلة المانعة عن الصلاة في النجس وفي الحرير المحض الشاملة باطلاقها لجميع الموارد بعد قيام القرينة المنفصلة على التقييد بالصورة الاُولى ، تقتضي الحكم بأنّ مراد الشارع من المطلقات الواردة في غير النجس والحرير هو المقيّد ، فلا دلالة لها على المنع في غير تلك الصورة .
هذا ، وفي كل منهما نظر :
أمّا الأوّل : فلضعف سند الرواية لتضعيف كثير من علماء الرجال لأحمد بن هلال ، مضافاً إلى ما نقل من التوقيع عن الناحية المقدّسة الوارد في مذمته بقوله(عليه السلام) : «إحذروا الصوفي المتصنع . . .»(1) .
ويؤيّده عدم نقل هذه الرواية من تلامذة ابن أبي عمير غيره، فهي ساقطة عن درجة الاعتبار ولا يجوز الاعتماد عليها ، مضافاً إلى أنّ الموثقة المتقدمة تدلّ بالصراحة على المنع عن الصلاة فيما إذا كان مع المصلّي بول غير المأكول أو روثه .
والقول بالمنع فيه والجواز فيما إذا كان ما يصلّى فيه ممّا لا تتمّ الصلاة فيه وحده من أجزائه ممّا لا يحتمله أحد .
فالاستناد إلى الرواية في مقابل الموثقة ممّا لا يصح ، وكذا الاستناد إلى ما رواه الشيخ عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمّد بن عبدالجبار قال : كتبت إلى أبي محمّد(عليه السلام)أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه ، أو تكّة حرير
- (1) الإحتجاج للطبرسي 2 : 290 .