(الصفحة 322)
وفي كلامه وجوه من النظر :
أحدها : أنّه جعل الشرط هو الستر بما يؤكل لحمه مع أنّ الشرط هو عدم كون الصلاة في أجزاء غير المأكول ، سواء وقعت في أجزاء الحيوان المأكول أو في غير أجزاء الحيوان ، كأن صلّى في الثوب المعمول من القطن مثلا ، أو كان الساتر بعض أجزاء البدن على ما هو الحقّ كما عرفت سابقاً .
وما ربما يتوهّم من أنّ ظاهر قوله(عليه السلام) في موثقة ابن بكير المتقدمة في المسألة السابقة «لاتقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله»(1) هو اعتبار أن تكون الصلاة في أجزاء المأكول .
ففيه: مضافاً إلى عدم الدلالة كما لا يخفى أنّ اللاّزم طرحها بعدما كان المقطوع به بين الأصحاب صحة الصلاة في غير أجزاء الحيوان ، فهذه الجهة أيضاً توجب الاضطراب في الرواية كسائر الجهات المتقدمة .
ثانيها : إنّ الظاهر من كلامه أنّ اعتبار كونه من أجزاء غير المأكول إنّما هو في الساتر مع أنّه معتبر في لباس المصلّي ، سواء كان هو الساتر أو كان الساتر غيره ممّا لا يكون من أجزائه .
ثالثها : إنّه جعل اعتبار كون اللباس من غير أجزاء ما يحرم أكله من قبيل الشرطية، مع أنّ دخالته بنحو المانعية التي مرجعها إلى كون وجوده مانعاً عن انطباق عنوان الصلاة على الأفعال والأقوال المأتيّ بها ، لأنّ الاعدام لا تكون مؤثّرة في شيء كما هو واضح .
ولا يخفى أنّ الخلل من الوجوه المذكورة لا يقدح فيما هو بصدده من التمسك بقاعدة الاشتغال ، لأنّه يمكن تقريرها بوجه لا يرد عليه شيء من الوجوه
- (1) تقدّم في أوّل الأمر الثاني : ص311 .
(الصفحة 323)
المذكورة ، بأن يقال : إنّ الشك في وجود المانع يقتضي الشك في انطباق عنوان الصلاة على المأتيّ به ، فلا يعلم حصول الامتثال والفراغ عن التكليف المعلوم ، مع أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية .
ثمّ إنّ جماعة من أجلاء تلامذة المحقق السيد الشيرازي(قدس سره) ، ذهبوا إلى الصحة تبعاً له، واستدلّوا عليه بالبراءة العقلية ، وحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان والمؤاخذة بلا برهان(1) ، وحيث إنّ جريان البراءة في المسألة متفرّع أولا على جريانها في الشبهة الموضوعية في التكاليف المستقلة ، فلابدّ من بيان ما هو المرجع فيها وأنّ العقل هل يحكم فيها بالبراءة وقبح العقاب أو أنّه يوجب الاحتياط؟
ولا يخفى أنّه لا يبقى مجال للقول بالصحة في هذه المسألة ، لو قلنا بوجوب الاحتياط في تلك المسألة وعدم جريان البراءة فيها ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بجريان البراءة فيها ، فإنه لا ملازمة بينه وبين القول بالصحة كما سيظهر إن شاء الله تعالى ، فنقول :
إنّ صريح الشيخ(رحمه الله) في رسالة البراءة هو جريانها في الشبهة الموضوعية عقلا ، كجريانها في الشبهة الحكمية ، فإنه(قدس سره) بعد استناده إلى الأخبار الكثيرة التي تدل على جريان البراءة الشرعية في الشبهة الموضوعية قال :
ولكن في الأخبار المتقدّمة بل في جميع الأدلة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية ، ثمّ دفع توهّم عدم جريان حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، نظراً إلى تمامية البيان من قِبل الشارع ، فيجب الاجتناب عن الأفراد المحتملة ، بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا المتردّدة بين محصورين .
والأوّل لا يحتاج إلى مقدمة علمية ، والثاني يتوقف على الاجتناب من
- (1) منهم السيّد الفشاركي (رحمه الله) في الرسائل الفشاركية: 393.
(الصفحة 324)
أطراف الشبهة لا غير ، وأمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجمالي فلم يعلم من النهي تحريمه ، وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرم معلوم ، فلا فرق بينها وبين الموضوع الكلي المشتبه حكمه .
وما ذكر من التوهم جار فيه أيضاً ، لأنّ العمومات الدالة على حرمة
{الخبائث}(1)
{والفواحش}(2) ،
{وما نهاكم عنه فانتهوا}(3) ، تدلّ على حرمة اُمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها(4) . انتهى محلّ الحاجة من كلامه(قدس سره) .
أقول : لا يخفى أنّ الحكم بعدم الفرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية في جريان البراءة العقلية في غير محلّه ، لأنّ العقل يحكم بأنّ المخالفة في الاُولى مع العلم بالحكم موجبة لخروج العبد عن رسوم العبودية ، وكونه طاغياً على مولاه ، دون المخالفة في الثانية .
والحكم بأنّ النهي عن الخمر لا يدلّ إلاّ على حرمة الأفراد المعلومة ، كما هو ظاهر كلام الشيخ بل صريحه ، مندفع بأنّ المفروض مع قطع النظر عن الأخبار الدالة على حلية المشتبه ، أنّ الحكم بالتحريم ثابت للخمر الواقعي من دون دخالة العلم في موضوعه ، كيف ومعه لا مجال لاحتمال التكليف في الفرد المشتبه، لفرض عدم وجود العلم المأخوذ في موضوعه ، وهو ممّا يقطع بخلافه ، فالنهي عام والمخالفة مع احتمال ثبوته غير جائزة عند العقل .
وغاية ما يمكن أن يقال في وجه جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية ، ما أفاده بعض الأعلام من المعاصرين في الرسالة التي صنّفها في حكم
- (1) الأعراف : 157 .
- (2) الأنعام : 151 .
- (3) الحشر : 7 .
- (4) فرائد الاُصول : 221 .
(الصفحة 325)
الصلاة في الألبسة المشكوكة حيث قال ما ملخّصه :
لا خفاء في أنّه لابدّ أن يكون متعلق التكليف عنواناً اختيارياً للمكلّف قابلا لأن يتعلّق به الإرادة ، إمّا بنفسه أو بالتوسيط ، وذلك العنوان يكون على أربعة أقسام :
الأوّل : العنوان الذي يكون متعلقاً للتكليف ، بلا تعلّق له بموضوع خارجي خارج عن تحت القدرة والاختيار ، كالتكلّم والضحك والبكاء ونحوها .
الثاني : العنوان الذي يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي ، وكان ذلك الموضوع أمراً جزئياً متحققاً في الخارج ، كاستقبال القبلة واستدبارها .
الثالث : أن يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي الذي أخذ وجوده ولو ببعض أفراده موضوعاً للحكم ، وبعبارة اُخرى موضوع الحكم هو صرف وجوده المساوق للايجاب الجزئي كما في الوضوء والتيمّم بالنسبة إلى الماء والتراب .
الرابع : أن يتعلّق بالموضوع الخارجيّ الذي يكون عنواناً كلياً ذا أفراد محقّقة الوجود ومقدرته ، ولحظ ذلك العنوان في مقام تعلّق الحكم مرآتاً للأفراد الموجودة والمقدرة ، كالشرب المتعلّق بالخمر وغيره ممّا يكون موضوعاً للحكم على نحو القضايا الحقيقية .
وينحلّ الحكم في هذا القسم إلى أحكام كثيرة حسب تعدّد الموضوع وكثرته ، فيختصّ كل واحد من أفراد الموضوع بحكم خاصّ كما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، فإنّ كل واحد من أشخاص موضوعاتها له حكم خاصّ ، ففي الحقيقة يصير معنى لا تشرب الخمر إنّه يحرم شرب كل خمر موجود في الخارج أو يوجد بعد .
وبملاحظة ما ذكره المنطقيون من انحلال القضايا الحقيقية إلى شرطية متصلة مقدمها عقد الوضع فيها وتاليها عقد الحمل; يصير معنى «لا تشرب الخمر» هكذا :
(الصفحة 326)
كل خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه ، وهذه القضية كما ترى تكون الحرمة فيها مرتّبة على وجود الخمر ، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحققه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائياً ، وفعليتها وكونها زاجرةً للمكلّف يتوقف على وجوده في الخارج .
ومن المعلوم أنّ المنجز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي لا العلم بالحكم الإنشائي ، وقد عرفت أنّ فعليته متوقفة على وجود موضوعه ، فتنجّز الحرمة يتوقف على العلم بالتكليف الفعلي، وهو يتوقف على وجود موضوعه ، فتنجّزها يتوقف على العلم بوجود الموضوع ، ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف .
ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ(قدس سره) في الرسالة ، حيث إنّ الظاهر منه أنّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعية إنّما هو لعدم كونها مقدّمة علميّة حتى تجب بوجوب ذيها ، وذلك لما عرفت من أنّ جواز الاقتحام وعدم وجوب الاجتناب فيها إنّما هو لعدم العلم بتحقّق شرط التكليف .
فهو نظير ما إذا شكّ في تحقّق الاستطاعة التي يكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجودها ، وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام الثلاثة المتقدّمة ، حيث إنّ الحكم فيها منجّز بنفس العلم به واجتماع شرائط التكليف من القدرة وغيرها كما هو واضح(1) ، انتهى ملخّص كلامه زيد في علوّ مقامه، ويرد عليه:
أولا : المنع من انحلال التكليف التحريمي المتعلق بشرب الخمر مثلا إلى أحكام كثيرة حسب كثرة الموضوع وهو الخمر ، بل الحق كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة وامتثالات متكثّرة .
- (1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني (رحمه الله): 188 ـ 193 .