(الصفحة 329)
يتوهّم أحد وجوبه، وحينئذ فلا نرى بعد المراجعة إلى العقل قبح العقاب عليه مع المصادقة .
وما يقال: من أنّ الاحتمال لا يمكن أن يكون منجّزاً .
فمندفع بعد النقض بالشبهة الحكمية قبل الفحص ، وبحكم العقل باستحقاق العقوبة فيما إذا احتمل صدق مدعي النبوّة مع عدم النظر في آياته ومعجزاته وغيرهما ، من الموارد التي يكون الحكم فيها منجّزاً على تقدير ثبوته بمجرّد الاحتمال ، بأنّه لا مانع من أن يكون منجّزاً كالعلم ، غاية الأمر لا يكون كاشفاً وطريقاً كالعلم والظنّ ، ولا يخفى أنّه لا فرق فيما ذكرنا من عدم قبح العقاب في الشبهة الموضوعية بين أن يكون الارتكاب قبل الفحص أو بعده .
ثمّ إنّك عرفت سابقاً أنّه لو قلنا بوجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة كشرب الخمر ، فلازمه الحكم بالبطلان في مثل المقام ممّا يكون الشك فيه في التكاليف الضمنية بطريق أولى ، وأمّا لو قلنا بجريان البراءة في الاُولى فلا يستلزم ذلك جريانها في الثاني، بل يجري فيه الوجهان .
ولذا ترى الخلاف في المسألة مع أنّ جريان البراءة في التكاليف المستقلة كأنّه كان مفروغاً عنه عندهم ، على ما يظهر من الشيخ(رحمه الله) وتلامذته ، حيث إنّه لم يخدش أحد منهم في هذا الحكم ، فقد ظهر لك أنّ القول بالصحة في المسألة مستنداً إلى جريان البراءة العقلية متوقف أولا على القول به في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة .
وقد عرفت أنّ الحقّ عدم الجريان فيها فضلا عن المقام ، وعلى تقديره فيتوقف القول بالصحة أيضاً على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، فينبغي التعرّض لذلك المبحث على سبيل الاجمال ليظهر لك الصحيح عن سقيم المقال فنقول وعلى الله الاتكال :
(الصفحة 330)
إنّه ذهب جماعة من محققي الاُصوليين إلى وجوب الاحتياط فيما إذا دار الأمر بينهما(1) ، واستدلوا عليه بقاعدة الاشتغال ، فإنّ قضية العلم باشتغال الذمة بوجوب الأقلّ هو وجوب العلم بسقوطه المتوقف على إتيان الأكثر ، لتوقف العلم بحصول الغرض عليه ، ومن المعلوم بقاء الأمر ما دام لم يحصل الغرض .
توضيحه ، إنّ الأوامر والنواهي تابعة للمصالح الموجودة في المأمور بها والمفاسد المتحققة في المنهيّ عنها على ما ذهب إليه العدلية ، فداعي الأمر بشيء هي المصلحة الملزمة الموجودة في ذلك الشيء ، كما أنّ الباعث على النهي عنه هي المفسدة الملزمة المتحققة فيه .
وعليه فالأمر والنهي تابعان حدوثاً لثبوت المفسدة والمصلحة ، ويبقيان ما دام بقائهما ، إذ كل ما هو علّة للحدوث فهو علّة للبقاء ، ففي المقام إذا علم بكون الأقل متعلّقاً للتكليف للعلم بتوجّه الأمر الواحد المنبسط على الأجزاء إلى المكلّف على أيّ تقدير ، سواء كان الجزء المشكوك أيضاً متعلّقاً لبعض ذلك الأمر أم لم يكن ، فقد علم بوجوب تحصيل الغرض عليه .
ومن المعلوم أنّه لا يحصل العلم بحصوله مع الإتيان بالأقلّ فقط ، لاحتمال كون التكليف متعلّقاً بالأكثر ، وعليه فلا يحصل الغرض بإتيان الأقل أصلا ، لأنّ المفروض كونهما ارتباطيين ، فيجب إتيان الأكثر ليحصل العلم بحصول الغرض .
وفيه: إنّ توقّف العلم بسقوط الأمر على العلم بحصول الغرض المتوقف على إتيان الأكثر مسلّم ، ولكن ليس محلّ الكلام ومورد النقض والابرام هو العلم بسقوط الأمر وحصول الغرض ، بل الكلام إنّما هو في أنّه هل توجه الأمر الواحد إلى المكلّف على نحو منبسط على الجزء المشكوك أيضاً أو يختصّ بسائر الأجزاء
- (1) فرائد الاُصول : 272; كفاية الاصول 2 : 227 ـ 228 .
(الصفحة 331)
المعلومة ؟ ومقتضى حكم العقل تنجّزه بالنسبة إلى الأجزاء المعلومة فقط كما يأتي تحقيقه .
تمسّك الاُصوليين بالبراءة العقلية
ظاهر جماعة من الاُصوليين جريان البراءة في المسألة(1) ، ويمكن تقريبه بوجهين :
أحدهما : ما يترائى من الشيخ(قدس سره) في الرسائل(2) ، من أنّ العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في وجوب الأكثر ، وذلك لأنّ الأقل واجب على التقديرين ، لأنّه إن كان الأكثر واجباً واقعاً يكون الأقل أيضاً واجباً .
غاية الأمر أنّ وجوبه وجوب تبعيّ، وإن لم يكن كذلك يكون الأقل واجباً بالوجوب النفسي ، فوجوبه الأعم من النفسي والغيري معلوم تفصيلا ، وهذا بخلاف الأكثر ، فإنّ وجوبه مشكوك فيجري فيه البراءة .
ويرد على هذا التقريب ، أنّه يلزم بناءً عليه أن لا يكون المكلّف مستحقّاً للعقوبة فيما إذا خالف ، ولم يأت بشيء لا بالأكثر ولا بالأقلّ ، وكان الأمر في الواقع متعلقاً بالأكثر ، لأنّ المفروض أنّ الأمر الواقعي المتعلّق بالأكثر لم يصل إلى مرتبة التنجز ، لكونه مشكوكاً مورداً لجريان البراءة حسب الفرض ، فلا يصح العقاب عليه ، لأنّه يصير من قبيل العقاب من دون بيان وهو قبيح بحكم العقل ، والأمر المحتمل المتعلّق بالأقل قد انكشف خلافه ، وأنّه لم يكن ثابتاً فلا يصح العقاب عليه
- (1) فرائد الاُصول : 272 ـ 273 .
- (2) فرائد الاصول : 274 .
(الصفحة 332)
بل لا يعقل ، نعم لا بأس بالقول بكونه مستحقّاً لعقاب التجري بناءً على صحة عقاب المتجرّي واستحقاقه له .
ثانيهما : ما يظهر من بعض الأعلام(1) وهو الموافق للتحقيق ، من أنّ الأمر مع كونه واحداً حقيقةً له أبعاض كثيرة يتعلّق كل واحد منها بأجزاء متعلّقه ، وذلك لأنّ المركبات الشرعية مركبات اعتبارية ، والمراد بها هي الأشياء المتغايرة في الحقيقة المتكثرة في الوجود مع اعتبار الوحدة فيها باعتبار ترتب حكم واحد عليها ، وكونها معنونة بعنوان حسن بخلاف المركّبات الحقيقية .
وحينئذ فإذا تعلّق أمر واحد بتلك الأشياء المتغايرة من حيث الوجود فقد تعلّق بكلّ واحد منها بعض ذلك الأمر الواحد ، وحينئذ فإذا شكّ في متعلّقه من حيث القلّة والكثرة فقد شكّ بعد العلم بتعلق أبعاضه المعلومة إلى الأجزاء المعلومة في تعلق بعضه بالجزء المشكوك ، فيحكم العقل بالبراءة وعدم تنجّز ذلك الأمر بالنسبة إلى البعض المشكوك على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعاً ، ولا ينافي ذلك تنجّزه بالنسبة إلى أبعاضه المعلومة .
والحاصل إنّ لذلك الأمر مخالفتين :
أحدهما : مخالفته بالنسبة إلى الأبعاض المعلومة وتتحقق بترك الأقل المعلوم جزئيته .
ثانيهما : مخالفته بالنسبة إلى بعضه المشكوك على تقدير كونه متعلّقاً بالأكثر في الواقع ، وتتحقق بترك الجزء المشكوك فقط ، وصحة العقوبة واستحقاقها إنّما يترتب على الاُولى دون الثانية ، لعدم تنجّزه بالنسبة إلى البعض المشكوك على ذلك
- (1) لم نعثر على العبارة المحكية بعين ألفاظها ، ولعلّه منقول بالمعنى ، ولكن أصل المطلب ذكر في فوائد الاصول 4 : 226 ، ونهاية الأفكار للمحقّق العراقي 3: 430; ونهاية الدراية للمحقّق الاصفهاني 2 : (الأقلّ والأكثر : الوظيفة عند الشك في الأقلّ والأكثر) : 627.
(الصفحة 333)
التقدير كما عرفت .
ولا يخفى أنّه لا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقةً وكونه ذا أبعاض كثيرة، إذ هو نظير بعض الاُمور الخارجية الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة كالماء الواقع في الحوض مثلا ، فإنّه مع كونه واحداً لمساوقة الاتصال مع الوحدة على ما قرّر في محله يعد له أبعاض ، بل قد يكون بعضه معروضاً لعرض كالحمرة ، والبعض الآخر معروضاً لضدّ ذلك العرض كالصفرة مثلا ، فلا منافاة بينهما أصلا .
هذا كلّه فيما إذا كان منشأ الشك في وجوب الأكثر عدم النصّ ، أو اجماله ، أو تعارض النصين ، وأمّا إذا كان منشأه اشتباه الاُمور الخارجية كما في مثل المقام ، فالحكم كما مرّ في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة .
هذا ، ولا يخفى أنّه لو قلنا بجريان البراءة في الشبهة الموضوعية مطلقاً في التكاليف المستقلة والضمنية كلتيهما ، فلا يستلزم ذلك أيضاً القول بالصحة في مثل المسألة مما يرجع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، كما توهّمه بعض من تلامذة المحقّق الشيرازي(قدس سره) حيث اعترض على الشيخ(قدس سره) بأنّه لا وجه للحكم بالبطلان في المقام كما في الرسالة التي صنّفها في هذا الباب ، بعد القول بجريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة ـ كما تقدّم نقل كلامه ـ وبجريانها فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين كما تقدّم نقل مرامه(1) .
وذلك ـ أي وجه عدم الاستلزام وبطلان التوهم وعدم ورود الاعتراض عليه ـ أنّ ظاهر الأدلة المانعة عن الصلاة في أجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكل لحمه ولا شرب لبنه أنّ المعتبر في انطباق عنوان الصلاة على الأفعال والأقوال المأتيّ بها بترقّب أنّها صلاة أن لا تكون الصلاة واقعة في شيء من أجزاء كل فرد من أفراد ما
- (1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني (رحمه الله) : 188 ـ 193 .