(الصفحة 335)
من تقييد المأمور به بوجود الشرائط المانعية من تقييده بعدم الموانع، والتقيّد بوجود الشرائط وبعدم الموانع يكون من أجزاء المأمور به كسائر الأجزاء ، فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّه بناءً عليه أيضاً يكون القيد مبيناً مفهوماً يجب العلم بتحققه، ويتوقف ذلك على العلم بوجود الشرائط وفقدان الموانع .
وبالجملة: لا فرق بعد كون القيد أمراً واحداً مبيّناً في وجوب العلم بتحققه بين المذهبين كما عرفت .
وممّا ذكرنا من وحدة القيد ينقدح فساد ما يظهر من كلام بعض الأعلام(1) ، حيث إنّه(قدس سره) بعد ذهابه إلى جريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة بنحو عرفت منه ، صار بصدد بيان عدم الفرق بينها وبين المقام ، حيث إنّه بعد بيان أنّ قيدية العدم فيما نحن فيه تتصوّر على وجوه ثلاثة :
أحدها : أن يكون القيد نعتاً عدميّاً مساوقاً لمحمول المعدولة .
ثانيها : أن يكون من باب السلب المحصّل ، وعلى هذا التقدير يمكن أن يكون نفس السلب الكلّي قيداً واحداً ، ويمكن أن يكون منحلاًّ إلى عدم وجود كل فرد ، وكان القيد آحاد ذلك العدم .
قال بعد القول بظهور الأدلة في الوجه الثالث ما ملخّصه : إنّه أيّ فرق يعقل بين موضوعية الخمر لحرمة شربه ، وموضوعية المانع لتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه ، فكما تجري البراءة في الأوّل على ما عرفت، لا ينبغي الإشكال في جريانها في الثاني.
وجه الفساد ما عرفت من أنّ ظاهر الأدلة المانعة أنّ الصلاة في كل جزء من أجزاء كل ما لا يؤكل لحمه فاسدة ، وينتزع منه أنّ المطلوب للشارع هو عدم
- (1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني : 268 ـ 271 .
(الصفحة 336)
وقوع الصلاة فيها ، ومن المعلوم أنّ العدم أمر واحد عند اعتبار العقل ليس له أفراد ، بخلاف وجود الطبيعة ، إذ هي توجد بوجود فرد مّا، ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد ، فمعنى كون وجود الطبيعة مانعاً هو مانعية كل فرد يوجد منها في الخارج ، وهو لا ينافي مع كون القيد أمراً واحداً .
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا من وحدة القيد لا يستلزم القول بعدم مانعية شيء من الوجودات ، إذا اضطر المصلّي إلى واحد منها ، لأنك عرفت أن كل وجود مانع من صحة الصلاة، فإذا اضطر إلى أحد الوجودات كان اضطر إلى الصلاة في اللباس المتّخذ من وبر الأرانب مثلا ، فلا يجوز له أن يلبس زائداً على ما اضطر إليه ، ولا ينافي ذلك وحدة القيد كما عرفت .
ثمّ لا يخفى أنّ عبارته(قدس سره) في مقام بيان الوجه الثاني من الوجوه المتصوّرة ثبوتاً في قيدية العدم في المقام ، لا يخلو عن اضطراب بحيث ربّما يوهم الخلاف، حيث قال : ويمكن أن يكون نفس السلب الكلّي بوحدته الشاملة لمجموع وجودات الموضوع قيداً واحداً . . .(1) ، حيث إنّ ظاهره أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كل فرد منها ، فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلا، وكذا صحة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده كما لا يخفى .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لو سلّم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة وفي التكاليف الضمنية ، فلا نسلّم جريانها في مثل المقام ممّا لا يكون الشك في قيدية أمر زائد ، بل في حصول القيد الذي كان مفهومه مبيناً على ما عرفت تحقيقه ، والمرجع فيه وجوب الاحتياط من غير خلاف . هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالتمسّك بالبراءة العقلية لصحة الصلاة في الألبسة المشكوكة وقد عرفت عدم تماميتها .
- (1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني : 269 .
(الصفحة 337)
الاستدلال بالأخبار الدالة على الأصول الشرعية
منها : حديث الرفع(1) وتقريب الاستدلال به من وجوه :
أحدها : ما احتمله الشيخ في الرسالة(2) من أنّ قرينة السياق تقتضي أن يكون الموصول في قوله(صلى الله عليه وآله) : «رفع ما لا يعلمون» إشارة إلى الموضوعات الخارجية المجهولة بعناوينها التي تكون بها موضوعات للأحكام ومتعلّقات لها .
وحينئذ فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعية ، ولا يعمّ الشبهات الحكمية ، فكلّ موضوع كان عنوان المتعلّق للحكم مجهولا ، فهو مرفوع وإسناد الرفع إليه مع ظهور قوله : «رفع عن اُمّتي» ، في الرفع التشريعي وعدم معقولية إسناده إلى الموضوعات الخارجية ، إنّما هو باعتبار الأثر المترتب عليه المرفوع في صورة الجهل .
وفي المقام نقول : مانعية هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء غير المأكول ، مرفوعة بلسان رفع موضوعها وهو اللباس ، فتصحّ الصلاة فيه لعدم كونه مانعاً ومبطلا لها .
ثانيها : تعميم الموصول للشبهات الحكمية كما اخترناه وحقّقناه في الاُصول ، لأنّ الموصولات موضوعة للإشارة إلى جميع ما تثبت له الصلة ، كأسماء الإشارة والضمائر ، فكلّ شيء كان مجهولا بنفسه ، أو بعنوانه الموضوع للحكم فهو مرفوع برفع نفسه أو رفع آثاره وأحكامه ، فباعتبار شمول الموصول للشبهات الموضوعية يصح الاستدلال بالحديث ، لرفع المانعية في المسألة بالتقريب المتقدّم في
- (1) الخصال : 417 ب9 .
- (2) فرائد الاصول : 195 .
(الصفحة 338)
الوجه الأوّل .
ثالثها : القول باختصاص الموصول بما إذا كان الحكم مجهولا ، وتعميم الحكم للأحكام الكلّية المجهولة في الشبهات الحكمية ، وللأحكام الجزئية المجهولة في الشبهات الموضوعية ، فيصح الاستدلال به لرفع الحكم الجزئي المجهول في المقام; وهي مانعية هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، أو من غيره من الموانع .
هذا ، ويمكن أن يقال بأنّ الظاهر من الحديث عرفاً هو رفع التكاليف المجهولة التي توجب تضييقاً على المكلّف إذا علم بها ، لا رفع الأحكام الجزئية أو الموضوعات التي يرجع رفعها إلى رفع أحكامها بعد العلم بأصل الحكم الكلّي الذي صدر من الشارع .
وبعبارة اُخرى ، إنّ المكلّف بعدما علم بحرمة الخمر الواقعي المقتضي لوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة وكذا المشكوكة ، بناءً على ما بيناه سابقاً من عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية ، فقد علم بما يوجب التضييق عليه .
فإذا فرض أنّ الشارع جوّز له الاقتحام في الأفراد المشكوكة ، فلابدّ أن يبيّن ذلك بدليل يكون كالحاكم على دليل حرمة شرب الخمر الواقعي ، نظير الأدلة الدالة على حلية كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(1) ، وما يدلّ على طهارة المياه(2) أو جميع الأشياء(3) إلى أن يعلم أنّها قذر أو نجس ، وغيرهما ممّا يكون دالاًّ على جواز الاقتحام في
- (1) الكافي: 5 / 313 ح39; الفقيه: 3 / 216 ح1002; التهذيب: 9/ 79 ح337 وج7: 226 ح988; السرائر 3: 594.; الوسائل: 17 / 87 . أبواب ما يكتسب به ب4 ح1.
- (2) الكافي 3: 1 ح2 و 3، التهذيب 1 : 215، 216 ح619 و 621; الوسائل 1 : 134 أبواب الماء المطلق ب1 ح5 .
- (3) التهذيب 1 : 284 ح832 ، الوسائل 3 : 467. أبواب النجاسات ب37 ح4 .
(الصفحة 339)
الشبهات الموضوعية .
وحيث لم يبين ذلك بمثل ما ذكر ، فلا يمكن رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل على التحريم الظاهر في حرمة الفعل بعنوانه الواقعي ، وبالجملة فلم يثبت ظهور حديث الرفع في رفع الأحكام الجزئية المشكوكة في الشبهات الموضوعية، فلا يجوز الاستدلال به .
ومنها : الاستصحاب ، فإنّ استصحاب عدم كون المصلّي لابساً لما يكون وجوده مانعاً وعدمه قيداً في صحة الصلاة يقتضي الحكم بصحّتها ، لأنّه لا يشترط في الاستصحاب أزيد من أن يكون المستصحب حكماً شرعياً ، أو ذا أثر شرعي ، ولا فرق بين أن يكون موضوعاً لذلك الأثر مستقلاً أو جزءً لموضوعه أو دخيلا فيه وجوداً أو عدماً ، فاستصحاب عدم كونه لابساً لما يكون وجوده مانعاً يثبت عدم كونه لابساً لأجزاء غير المأكول ، فتتم الصلاة فيه بعد إحراز سائر الأجزاء وفقد الموانع بالوجدان ، أو بقيام البينة ، أو بجريان الأصل .
هذا ، ولا يخفى أنّ التمسّك بالاستصحاب إنّما يتمّ بناءً على أن يكون ما اعتبر شرعاً عدمه في الصلاة هو كون المصلّي لابساً لأجزاء غير المأكول ، وبعبارة اُخرى كان المانع هو الذي اعتبر وصفاً وحالة للمصلّي وهو خلاف ظاهر الأدلة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول .
لأنّها تدلّ على أنّ الصلاة فيها فاسدة ، كما في موثقة ابن بكير المتقدّمة(1) ، أو على النهي عن الصلاة فيها ، فالمانع هو وقوعها في أجزاء غير المأكول ، وهو لا يكون لعدمه حالة سابقة ، وكذا لا يتم أيضاً بناءً على اعتبار المانع وصفاً وحالة للباس المصلّي لعدم وجود الحالة السابقة له أيضاً .