(الصفحة 340)
نعم يجري الاستصحاب بناءً عليه أي على الوجه الأخير في بعض فروض المسألة ، كما إذا شكّ في تلطّخ لباسه غير المشكوك بأجزاء غير المأكول ومصاحبته معها ، بناءً على بطلان الصلاة في صورة التلطخ بها ، كما قوّيناه سابقاً ، فإنّه يجري حينئذ استصحاب عدم التلطخ وعدم المصاحبة كما لا يخفى .
إن قلت : لا مانع من جريان الاستصحاب بناءً على الوجه الثاني ، وهو اعتبار المانع وصفاً للصلاة ، لوجود الحالة السابقة للمستصحب ، بتقريب أن يقال: إنّ الصلاة حين ما لم توجد لم تكن في أجزاء غير المأكول ، فهذه القضية السالبة بانتفاء الموضوع المستلزم لانتفاء المحمول كانت متيقنة ، قد شك في بقائها بعد تحقق الموضوع فتستصحب .
قلت : الظاهر عدم شمول دليل اعتبار الاستصحاب لمثل هذه الصورة كما بيّن في محله .
إن قلت : سلّمنا ذلك ولكن لا نسلّم عدم وجود الحالة السابقة المتيقنة في جميع صور المسألة ، بناءً على الوجه الثاني من الوجوه المتقدّمة ، لوجود هذه الحالة فيما إذا شرع في الصلاة في اللباس الذي علم عدم كونه مانعاً ، لعدم كونه من أجزاء غير المأكول ، وشكّ في أثنائها في أنّ ما ألقى عليه بعد الشروع هل يكون مانعاً أم لا ، فلا إشكال حينئذ في جريان الاستصحاب كما هو واضح .
قلت : لا يخفى أنّ مدلول الأدلة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول إنّما هو بطلانها فيما إذا وقعت بتمام أجزائها أو ببعضها فيها ، فلا يكفي مجرّد وقوع بعض أجزائها في غيرها ، ومن المعلوم أنّ إحراز عدم هذا المانع لا يتحقّق إلاّ بعد العلم بعدم وقوع شيء من أجزائها فيها ، فمجرّد الشروع في الألبسة المحللة لا يوجب العلم بعدم المانع إلاّ بعد حصول جميع أجزائها وشرائطها مع فقده كما هو واضح ، وإن كانت الصلاه عبارة عن حضور العبد في مقابل مولاه والتوجّه نحوه والالتفات
(الصفحة 341)
إليه بنحو الخضوع والخشوع .
ومقتضاه حينئذ تحقّقها بمجرّد الشروع فيها وبقائها إلى حصول الفراغ ، غاية الأمر إنه يجب أن يشتغل معه ببعض الأذكار المخصوصة والأفعال المأثورة ، كما لا يبعد أن تكون كذلك ، فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّها وإن كانت متحققة بمجرّد الشروع ، والمفروض العلم بعدم وقوعها في اللباس المشكوك ، إلاّ أنّ المعتبر أن لا تكون من أوّل حدوثها إلى آخر بقائها واقعة في شيء من الألبسة المحرمة ، والمفروض الشك في ذلك ، فاليقين بوجود الحالة السابقة منتف كما عرفت .
ثمّ إنّ بعض المعاصرين بعد أن جعل اعتبار وقوع الصلاة في الألبسة غير المحرمة من قبيل الموانع دون الشرائط ، نفى الإشكال حينئذ عن جواز الرجوع إلى أصالة عدم المانع لإثبات الصحة في المسألة(1) .
ونحن نقول: ليس المراد من المانع المأخوذ عدمه في مجرى الأصل هو عنوان المانع ومفهومه قطعاً ، بل المراد منه ما يحمل عليه ذلك المفهوم بالحمل الشائع ويتّحد معه وجوداً .
وحينئذ فإن كان المراد أنّ هذا الأصل معتبر من باب الاستصحاب لكونه مسبوقاً بالحالة السابقة ، ففيه ما عرفت من عدم جريانه أصلا .
وإن كان المراد أنّ هذا الأصل معتبر بنفسه من دون لحاظ الحالة السابقة فيه إمّا لتنزيل أدلّة الاستصحاب على هذا المعنى لا عليه ، بتقريب أن يقال: إنّ المراد من الشك في قوله(عليه السلام) : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت»(2) ليس الشك الذي تعلّق بما تعلّق به اليقين وهي الطهارة ، بل المراد هو الشك في وجود الحدث
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 57 .
- (2) التهذيب 1 : 421 ح1335; الاستبصار 1 : 183 ح641; علل الشرائع: 361 ب80 ح1; الوسائل 3 : 466. أبواب النجاسات ب37 ح1 .
(الصفحة 342)
الناقض لها .
فالمعنى حينئذ إنه لا يضر الشك في وجود الحدث، لأنه يبنى على عدمه فيؤخذ بمقتضى اليقين السابق، فهو أي اليقين السابق ليس له دخل في جريانه ، بل الرجوع إليه من باب أنّه إذا وجب البناء على عدم حدوث الحادث فالواجب الرجوع إلى الحالة السابقة .
وإمّا لكون العدم أولى بالماهية من الوجود ، حيث إنّه يكفي في استمراره وعدم انقطاعه عدم حدوث علّة الوجود .
ففيه: أيضاً عدم تماميته لأنه لم يثبت ظهور أدلة الاستصحاب في ذلك المعنى لو لم نقل بظهورها في خلافه كما هو المشهور ، وبطلان الوجه الثاني واضح ، فلم يثبت دليل على اعتبار ذلك الأصل ، اللّهم إلاّ أن يتمسّك لاعتباره باستمرار سيرة العقلاء عليه ، ولكنّها مع ثبوتها تحتاج إلى دليل يدلّ على الامضاء من جانب الشرع ، ولم يثبت وجوده كما لا يخفى .
ومنها : أي من جملة الأصول الشرعية التي اعتمد عليها في إثبات الصحة في المقام ، أصالة الحلية التي يدل على اعتبارها رواية ابن سنان المتقدمة(1) ورواية مسعدة بن صدقة(2) وغيرهما من الروايات العامة والخاصة الواردة في الموارد الخاصة ، وكذا يدلّ على اعتبارها السيرة القطعية المستمرة من زمان النبي(صلى الله عليه وآله)والأئمة(عليهم السلام) إلى يومنا هذا .
ولا إشكال في شمولها بل في اختصاصها بالشبهات الموضوعية، كما لا يخفى على من راجع تلك الروايات ، وتقريب الاستدلال بها يمكن بوجهين :
الوجه الأوّل : أن يكون المراد من الحلية والحرمة ، الحلية والحرمة التكليفية كما
- (1) الوسائل 17 : 87 . أبواب ما يكتسب به ب4 ح1 ; وج24: 236. أبواب الأطعمة المحرمة ب64 ح2.
- (2) الكافي 5: 313 ح40; الوسائل 17: 89 . أبواب ما يكتسب به ب4 ح4 .
(الصفحة 343)
هو الظاهر من اطلاقهما وجريانه في المقام ، مع أنّ الشك فيه إنّما هو في الحلية ، والحرمة الوضعية، بأن يقال: إنّ الشك في صحة الصلاة فيما لم يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مسبّب عن الشك في حلية لحم الحيوان المأخوذ منه ذلك اللباس وحرمته ، فإذا حكمنا بحليته لأصالتها تترتّب عليها صحة الصلاة في الثوب المأخوذ منه .
ويرد عليه:
أولا : إنّ ما ذكر من جريان الأصل في لحم الحيوان وترتب صحة الصلاة عليه إنّما هو فيما إذا كان الحيوان المأخوذ منه هذا اللّباس مشتبه الحكم بالشبهة الحكمية ، بأن كان الشك في صحة الصلاة مسبباً عن اشتباه حكمه الشرعي ، وهذا الفرض مع أنّه من الفروض النادرة لم يثبت اعتبار هذا الأصل فيه ، لما عرفت من أنّ جريانه في الشبهة الحكمية غير مسلّم .
وأمّا فيما إذا كان الشك في صحة الصلاة مسبباً عن أنّه هل يكون الحيوان المأخوذ منه هذا اللباس من أفراد ما يحلّ أكل لحمه شرعاً ، أو من مصاديق ما يحرم؟ فجريانه محل نظر بل منع ، لأنّه ربّما لا يكون اللحم الذي هو مورد الأصل مشكوك الحكم ، بل يعلم بكونه من الحيوان المحلل أو المحرم .
فالشكّ في الحلية إنّما هو لعدم الابتلاء بلحم ذلك الحيوان ، بل مورد الابتلاء هي الصلاة في الثوب المأخوذ منه ، وبعبارة اُخرى ليس في البين حيوان شكّ في حلية لحمه لتردّده بين كونه من أفراد ما يحلّ أكله أو يحرم ، فلا مجال لجريان أصالة الحلية كما هو واضح .
وثانياً : إنّ ظاهر الأدلة أنّ بطلان الصلاة وفسادها في أجزاء غير المأكول مترتب على الحيوان المحرم بعنوان الأولي كالأسد والأرنب والثعلب وغيرها ، لا على الحيوان بوصف كونه محرّم الأكل ، والتعبير عن ذلك العنوان بهذا الوصف في
(الصفحة 344)
بعض الأخبار إنّما هو للإشارة إلى ذات الموصوف مع قطع النظر عن وصفه .
ويؤيّده ما في بعض الأخبار من أنّ الصلاة في الثعالب والأرانب فاسدة(1)فعبّر عن موضوع الحكم بنفس ذلك العنوان الأوّلي من دون أخذ قيد التحريم أصلا .
وبالجملة : فبطلان الصلاة في أجزاء الحيوانات المحرمة ليس حكماً مترتباً على تحريمها بحيث لو لم يجعل التحريم لكان جعل هذا الحكم لغواً ، بل إنّما هو حكم في عرض الحكم بالتحريم من دون ترتب وطوليّة بينهما أصلا .
وحينئذ فلا مجال لإثبات أحد الآثار المشكوكة بالأصل الجاري في الأثر الآخر ، فلا تثبت صحة الصلاة في الثوب المشكوك بجريان الأصل في اللحم ، وإثبات حلّيته ظاهراً ، إلاّ على القول بالأصول المثبتة وهو خلاف التحقيق .
وثالثاً : سلمنا ذلك أي كون الحلية أو الحرمة واسطة في ثبوت البطلان أو الصحة للصلاة في أجزاء الحيوان ، فيترتّب على إثبات الحلية صحة الصلاة ، وعلى إثبات الحرمة بطلانها ، لكن نقول إنّ المراد من الحلية والحرمة المأخوذتين في موضوعهما ليس الحرمة والحلية الفعليتين ، وإلاّ لزم جواز الصلاة في أجزاء ما يحل أكله فعلا للاضطرار أو غيره ، ولو كان محرّماً ذاتاً، وهو ممّا لا يلتزم به أحد .
بل المراد منهما هي الحرمة والحلية المتعلقتان بذوات الحيوانات مع قطع النظر عن حدوث ما يوجب تغيير الحكم المتعلّق به أولاً، كالاضطرار أو غيره ، ومن المعلوم أنّ جريان الأصل في المقام لا يجدي في إثبات الحلية الواقعية كما هو الشأن في غيره من الاُصول الشرعية .
ودعوى إنّه لم يثبت ظهور الأدلة فيما ذكر ، مندفعة بأنّه يكفي عدم ثبوت
- (1) الوسائل 4: 355. أبواب لباس المصلّي ب7 .