(الصفحة 356)
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه يدلّ على صحة الصلاة في جلد الخزّ الروايات الواردة في حكم الخزّ من حيث جواز الصلاة في وبره ، أو مع جلده ، ومن حيث جواز لبسه التي جمعها في الوسائل في الباب الثامن والتاسع والعاشر من أبواب لباس المصلّي ، والخبر الخامس من الباب الثامن ، وهو ما رواه الشيخ عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن معاوية بن حكيم، عن معمّر بن خلاّد قال : سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن الصلاة في الخزّ؟ فقال : «صلِّ فيه»(1) ، فإنّ الحكم بجواز الصلاة في الخزّ على نحو الاطلاق وترك الاستفصال يدلّ على جواز الصلاة في جلد الخزّ ، كما يدلّ على جوازها في وبره .
ويدلّ على ذلك أيضاً الخبر الرابع من ذلك الباب ، وهو ما رواه الكليني عن عليّ بن محمد، عن عبدالله بن إسحاق العلوي، عن الحسن بن علي، عن محمّد بن سليمان الديلمي عن قريب، عن ابن أبي يعفور قال : كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من الخزّازين فقال له : جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخزّ؟ قال : «لا بأس بالصلاة فيه» فقال له الرجل : جعلت فداك إنّه ميّت وهو علاجي وأنا أعرفه، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام) : «أنا أعرف به منك» فقال له الرجل : إنّه علاجي وليس أحد أعرف به منّي، فتبسّم أبو عبدالله (عليه السلام) ثم قال له : «أتقول: إنّه دابّة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقد الماء مات؟» فقال الرجل : صدقت جعلت فداك هكذا هو . فقال له أبو عبدالله(عليه السلام) : «فإنّك تقول: إنّه دابّة تمشي على أربع وليس هو في حدّ الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء»، فقال الرجل : أي والله هكذا أقول، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام) : «فإنّ الله تعالى أحلّه وجعل ذكاته موته، كما أحلّ الحيتان وجعل ذكاتها موتها»(2) .
- (1) التهذيب 2 : 212 ح829 ; الوسائل 4 : 360 . أبواب لباس المصلّي ب8 ح5 .
- (2) الكافي 3: 399 ح11; التهذيب 2: 211 ح828 ; الوسائل 4: 359. أبواب لباس المصلّي ب8 ح4 .
(الصفحة 357)
فإنّ الحكم بجواز الصلاة في الخزّ على نحو الإطلاق كما ورد في الجواب الأوّل وإن كان دالاًّ على جوازها في جلد الخزّ أيضاً ، إلاّ أنّ اعتراض السائل على الإمام(عليه السلام)حيث نفى البأس عن الصلاة فيه بأنّه لا وجه للحكم بذلك مع كونه ميتة ، ربّما يؤكّد أنّ المقصود في السؤال الأوّل إنّما هو الاستفتاء عن الصلاة في جلده ، إذ لو كان المراد الصلاة في وبره لم يكن وجه للإشكال بذلك مع كون الوبر من الأجزاء التي لا تحلّها الحياة ، فشمول الإطلاق للصلاة في جلده بل اختصاصه بذلك ممّا لا إشكال فيه كما عرفت .
ثمّ لا يخفى أنّ المراد بقوله(عليه السلام) في ذيل الرواية «فإنّ الله تعالى أحلّه . . .» ، ليس حلية الأكل لأجل التشبيه بالحيتان كما توهّم ، بل المراد هو حلية استعمال جلده ولبسه كما هو واضح ، ولكن لا يخفى أنّ سند الرواية في غاية الضعف لمجهولية بعض رواتها وعدم وثاقة بعضها الآخر ، وكون الثالث منهم مرمياً بالغلوّ والضعف .
مضافاً إلى عدم وجود رواية اُخرى في روايات العامة والخاصة بهذا السند ، لأنّ النقل عن قريب منحصر بهذه الرواية ، فلا يجوز الاعتماد عليها .
ولكنّه لا يخفى أنّ هذا الكلام الصادر من الإمام(عليه السلام) في مقام الجواب عن السؤال عن الصلاة في جلد الخزّ منقول بسند صحيح موثوق به ، وهو ما رواه الكليني عن أبي علي الأشعري، عن محمّد بن عبدالجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن عبدالرحمن بن الحجاج قال : سأل أبا عبدالله(عليه السلام) رجل وأنا عنده عن جلود الخزّ؟ فقال : «ليس به بأس» فقال الرجل : جعلت فداك إنّها علاجي وإنّما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : «إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟» فقال الرجل : لا ، قال : «ليس به بأس»(1) .
فإنّ الظاهر اتحاد الروايتين، بمعنى صدور هذا الكلام من الإمام(عليه السلام) في جواب
- (1) الكافي 6 : 451 ح3; علل الشرائع: 357 ب71 ح1 ; الوسائل 4 : 362 . أبواب لباس المصلّي ب10 ح1 .
(الصفحة 358)
الخزاز دفعة واحدة ، غاية الأمر حضور جماعة، منهم: ابن أبي يعفور وابن الحجّاج في ذلك المجلس، واختلاف ألفاظ الروايتين ككون السؤال في الرواية الاُولى عن الصلاة في الخزّ من دون ذكر الجلد ، وفي الثانية عن جلود الخزّ من دون ذكر الصلاة فيه ، وغيره من موارد الاختلاف لا يوجب أن تكونا روايتين .
لأنّ المعلوم أنّ الاختلاف إنّما نشأ من عدم تحفّظ الراوي أو من اختلاف أغراضهم في نقل الرواية . هذا ، ولا يخفى أنّه لو قيل بالمنع من كونهما رواية واحدة ـ والمفروض أنّ سند الاُولى مظلم لا يجوز الاعتماد عليه ، فالاعتبار إنّما هو بالثانية ، وقد عرفت أنّ السؤال فيها إنّما هو عن جلود الخزّ لا عن الصلاة فيها ، ومن المعلوم انصرافه إلى السؤال عن جواز استعمالها في اللبس، وهو لا يلازم جواز الصلاة فيها ـ لكان له وجه، لعدم دليل معتبر على الاتحاد .
ومن هنا يظهر أنّه لا دلالة للخبر الرابع عشر من الباب العاشر على جواز الصلاة في جلود الخزّ ، كما يظهر من صاحب الجواهر والمحقّق الهمداني(1) وهو ما رواه الشيخ عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن سعد بن سعد، عن الرضا(عليه السلام) قال : سألته عن جلود الخزّ؟ فقال : «هو ذا نحن نلبس»، فقلت : ذاك الوبر جعلت فداك؟ قال : «إذا حلّ وبره حلّ جلده»(2) .
حيث إنّ الظاهر أنّ السؤال إنّما هو عن لبس جلود الخزّ لا عن جواز الصلاة فيها ، واعتراض الراوي عليه يشعر بأنّ الشبهة في جواز لبس جلوده إنّما يكون منشؤها احتمال كونه ميتة نجسة غير مذكّى ، فالجواب بالملازمة بين حلية الوبر وحلية الجلد إنّما ينفي هذا الاحتمال .
وبالجملة : فالملازمة بين حلية استعمال الوبر في اللبس ، والانتفاع بالجلد
- (1) جواهر الكلام 8 : 87 ; مصباح الفقيه ، كتاب الصلاة، لباس المصلى ص129 .
- (2) الكافي 6 : 452 ح7; التهذيب 2 : 372 ح1547; الوسائل 4 : 366 . أبواب لباس المصلّي ب10 ح14 .
(الصفحة 359)
كذلك ، لا تدلّ على الملازمة بين جواز الصلاة في الوبر وجوازها في الجلد كما هو واضح ، ويدلّ على أنّ السؤال إنّما هو عن جواز اللبس مضافاً إلى ما ذكرنا ، أنّ مورد الشبهة في أذهان الناس إنّما هو جواز لبسه ، خصوصاً مع علمهم بما روي عن النبي(صلى الله عليه وآله)من النهي عن ركوب الخزّ والجلوس عليه ، كما تقدّم في محكيّ كلام ابن المنظور(1) ، وخصوصاً مع كون ثوب الخزّ كثير القيمة شائع الاستعمال بين المترفين والمتنعّمين .
ويدلّ على ذلك ما روي من أنّ علي بن الحسين(عليهما السلام) كان بعدما اشترى جبّة الخزّ بخمسمائة درهم ومطرفه أيضاً بخمسين ديناراً يقول :
{قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده . . .}(2)،(3) ، فإنّ استشهاده بهذه الآية يشعر بعدم كون جواز لبس الخزّ ممّا يعرفه الناس ، بل كان مورداً لشكّهم ، وبالجملة فالرواية أجنبيّة عن المقام .
نعم قد يتوهّم دلالة الخبر الأوّل من الباب الثامن وأمثاله على جواز الصلاة في جلده أيضاً ، وهو ما رواه الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري أنّه قال : «رأيت الرضا(عليه السلام) يصلّي في جبّة خز»(4) ، وأنت خبير بأنّ هذه الرواية وأمثالها إنّما تكون حاكية للفعل ، ومن الواضح أنّ الفعل لا اطلاق له ، فلعلّ ذلك الخزّ كان منسوجاً من الوبر، فلا دلالة لها على جواز الصلاة في جلده كما لا يخفى .
ثمّ إنّ ظاهر عبارة القدماء من الأصحاب استثناء الخزّ الخالص دون
- (1) تقدّم في ص352.
- (2) الأعراف : 32 .
- (3) الكافي 6: 451 ح4; قرب الإسناد: 286 ح1296; الوسائل 4: 364 و 365. أبواب لباس المصلّي ب10 ح6 و 10.
- (4) الفقيه 1 : 170 ح802 ; التهذيب 2: 212 ح832 ; الوسائل 4 : 359. أبواب لباس المصلّي ب8 ح1 .
(الصفحة 360)
المغشوش بوبر الأرانب والثعالب(1) ، ولا يخفى أنّ ما يتصوّر فيه الخالصيّة والمغشوشية إنّما هو وبر الخزّ دون جلده ، فيعلم أنّ المراد من المستثنى إنّما هو الوبر دون لجلد ، فلا يستفاد من كلماتهم جواز الصلاة في جلد الخزّ، واحتمال أن يكون المستثنى شاملا للجلد أيضاً .
غاية الأمر أنّ التقييد بالخلوص إنّما يكون في الوبر فقط خلاف الظاهر . هذا ، وعبارة المحقّق في الشرائع إنّما تكون كعبارة القدماء في عدم استفادة الجواز منها(2) ، وأمّا في المعتبر فقد استقرب الجواز بعد أن تردّد في المسألة(3) ، وأمّا العلاّمة فالمحكيّ عن كلامه في التحرير والمنتهى هو المنع والتفصيل بين الوبر والجلد(4) ، خلافاً لما يظهر من سائر كتبه من تعميم الجواز(5) كما هو المعروف بين المتأخرين(6) .
وتحقيق المسألة وتقريب القول بالجواز أو العدم فيها مبني على اُمور :
أحدها : إنّه هل يكون الخزّ من الحيوانات التي يحلّ أكل لحمها أو ممّا يحرم؟ الظاهر هو الثاني لقيام الاجماع على حرمة الحيوانات المائية عدى السمك الذي له فلس(7) ، ومخالفة صاحب الحدائق(8) وأمثاله لا يضرّ بتحققه .
- (1) المقنعة: 150; المبسوط 1: 82; النهاية: 97; الإستبصار1: 135; الكافي في الفقه: 140; المهذّب 1: 74; الغنية: 66; السرائر 1: 262; مستند الشيعة 4 : 320 ـ 322; تذكرة الفقهاء 2 : 468; كشف اللثام 3 : 190 ـ 193 .
- (2) شرائع الإسلام 1 : 59 .
- (3) المعتبر 2 : 85 .
- (4) تحرير الاحكام 1 : 30; ; المنتهى 1 : 231 .
- (5) نهاية الأحكام 1: 374 ـ 375; تذكرة الفقهاء 3: 468 ـ 469 مسألة: 122; قواعد الأحكام 1: 255.
- (6) المعتبر 2: 84 ـ 85 ; جامع المقاصد 2: 78 ; الذكرى 3: 35 ـ 36; مسالك الأفهام 1: 163; مجمع الفائدة والبرهان 2: 82 ; مدارك الأحكام 3: 168 ـ 169; رياض المسائل 3: 163 ـ 164; جواهر الكلام 8 : 86 ـ 87 .
- (7) المقنعة: 576; الخلاف 6: 29 مسألة 31; الغنية: 394; السرائر 3: 90; المعتبر 1: 102; وج2: 84 ; الذكرى 3: 36; جواهر الكلام 36: 241.
- (8) الحدائق الناضرة 5 : 71 .