(الصفحة 407)
بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي ، لأنّ الظاهر أنّ الاُصول العمليّة مثلا ناظرة إلى أنّ الصلاة فيما يشكّ طهارته من الثوب والبدن مثلا هي الصلاة المأمور بها .
وبالجملة: تدلّ على توسعة المأمور به المقيد بإحراز الطهارة ، وإنّ مجرّد الشك في حصول القيد يكفي في تحقّق الامتثال المسقط للأمر ، فيرجع إلى عدم كون الطهارة الواقعيّة معتبرة في حقّ الشاكّ فيها ، وأنّ صلاته هي الصلاة الفاقدة للطهارة ، وبها يكون مطيعاً للمولى ممتثلا لأمره ، ومن المعلوم أنّ الشك المأخوذ في مجراها ليس الشك الباقي إلى الأبد ، حتى لو انكشف أحد الطرفين كشف ذلك عن عدم تحقّق موضوعها .
إذ بناءً عليه لا يكون الشاك الفعلي عالماً بتحقّق موضوعها حتى تجري في حقّه قاعدة الطهارة أو أصالتها ، والضرورة قاضية بخلاف ذلك ، فإذا كان موضوعها مطلق الشك ولو تبدّل إلى اليقين بأحد الطرفين ، وقد عرفت أنّ ظاهرها هو كون دائرة المأمور به غير مضيقة بالعلم بوجود القيد مثلا ، يظهر وجه اقتضائها للإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ الأمر الظاهري لا يكون أمراً في قبال الأمر الواقعي ، بل مدلوله هو توسعة المأمور به ، ولذا اعترضنا في الأصول عليهم ، حيث إنّهم بعد تقسيم الأمر إلى الواقعي الأوّلي ، والواقعي الثانوي والظاهري ، يقولون إنّ اقتضاء المأمور به بكلّ أمر بالنسبة إلى أمره ممّا لا مجال للإشكال فيه .
ومحصّل الاعتراض أنّ الأمر الواقعي الثانوي ، وكذا الأمر الظاهري لا يكون أمراً في قبال الأمر الواقعي الأوّلي ، لأنّ من المعلوم أنّه إذا دخل وقت الظهر مثلا لا يتوجّه إلى المكلّف إلاّ الأمر المتعلّق بصلاة الظهر ، غاية الأمر أنّه قد علم من الدليل أنّه لو كان المصلّي واجداً للماء ، يتوقف انطباق عنوان الصلاة على المأتيّ به من الأفعال والأقوال على الطهارة المائيّة ، ولو لم يكن واجداً له يتوقف ذلك على
(الصفحة 408)
الطهارة الترابيّة .
وكذلك يتوقف صدق عنوانها بالنسبة إلى غير الشاكّ في طهارة ثوبه أو بدنه على إحراز الطهارة ، وبالنسبة إلى الشاك يكفي الاعتماد على استصحاب الطهارة أو قاعدتها ، فالأدلّة الدالة على الأوامر الإضطراريّة ، أو الأمارات الظنّية ، أو الأصول العمليّة إنّما هي ناظرة إلى توسعة المأمور به ، وإنّ تحققه لا يتوقف على إحراز ما جعل شرطاً أو جزءً في غير حال الاضطرار أو الشك ، لا أن يكون مدلولها معذوريّة المكلّف في ترك أصل الصلاة ، إذ الظاهر أنّ ادعاء احتمال كون المكلّف الذي اعتمد على الاُصول ممّن لم يصلّ أصلا فيما إذا لم ينكشف الخلاف ممّا لا يصدر من أحد ، وقد عرفت أنّ الشك المعتبر في جريان الأصول والأمارات ليس الشك الباقي للتالي ، بل مطلق الشك ولو انكشف الخلاف .
ومن الواضح عدم الفرق بينهما أصلا ، فإذا كان فعل من لم ينكشف له الخلاف منطبقاً لعنوان الصلاة ، فغيره أيضاً لا يكون تاركاً لها معذوراً في تركها ، بل الصلاة في حقّه هي ما أتى به من الأفعال مطابقاً لما تقتضيه الأمارة أو الأصل الجاري في حقّه ، فظهر من جميع ذلك أنّه لا يجب الإعادة على من صلّى في النجاسة شاكّاً فيها اعتماداً على الأصل ، ولو انكشف الأمر بعد الفراغ عنها .
ويدلّ على ذلك أيضاً ما وردت من الروايات الواردة في هذا الباب :
منها : ما رواه الكليني عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به، قال : «عليه أن يبتدئ الصلاة». قال : وسألته عن رجل صلّى وفي ثوبه جنابة أو دم حتّى فرغ من صلاته ثم علم؟ قال : «مضت صلاته ولا شيء عليه»(1) .
- (1) الكافي 3 : 405 ح6 ; التهذيب 2 : 360 ح1489 ; الإستبصار 1 : 181 ح634; الوسائل 3 : 474. أبواب النجاسات ب40 ح2 .
(الصفحة 409)
ومنها : ما رواه أيضاً عن عبدالله بن سنان قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : «إن كان قد علم أنّه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه ولم يغسله فعليه أن يعيد ما صلّى، وإن كان لم يعلم به فليس عليه إعادة، وإن كان يرى أنّه أصابه شيء فنظر فلم يرَ شيئاً أجزأه أن ينضحه بالماء»(1) .
ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال(عليه السلام) : «إن كان لم يعلم فلا يعيد»(2) . وفيه دلالة على عدم البأس ولو كانت النجاسة عذرة ما لا يؤكل لحمه، بل وإن كان نجس العين .
ومنها : رواية عيص بن القاسم قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل صلّى في ثوب رجل أيّاماً، ثم إنّ صاحب الثوب أخبره أنّه لا يصلّى فيه؟ قال : «لا يعيد شيئاً من صلاته»(3) .
ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلّى فيه وهو لا يعلم فلا إعادة عليه، وإن هو علم قبل أن يصلّي فنسي وصلّى فيه فعليه الإعادة»(4) .
ومنها : ما رواه في قرب الاسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن
- (1) الكافي 3: 406 ح9، التهذيب 2: 359 ح1488; الإستبصار 1: 182 ح636; الوسائل 3: 475. أبواب النجاسات ب40 ح3.
- (2) الكافي 3: 404 ح2 وص406 ح11، التهذيب 2: 359 ح1487; الإستبصار 1: 180 ح630; الوسائل 3: 475. أبواب النجاسات ب40 ح5.
- (3) الكافي 3: 404 ح1، التهذيب 2: 360 ح1490; الإستبصار 1: 180 ح631; الوسائل 3: 475. أبواب النجاسات ب40 ح6.
- (4) التهذيب 1 : 254 ح737; الإستبصار 1 : 182 ح637; الوسائل 3 : 476 . أبواب النجاسات ب40 ح7.
(الصفحة 410)
جعفر(عليهما السلام)قال : سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ فقال : إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلّي ولا ينقص منه شيء، وإن كان رآه وقد صلّى فليعتدّ بتلك الصلاة ثم ليغسله»(1) .
ومنها : صحيحة زرارة المتقدّمة المشتملة على قوله : «قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أرَ فيه شيئاً، ثم صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة . قلت : لِمَ ذاك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً . . .»(2) .
ولا يخفى أنّ الجواب عن سؤال الوجه لعدم وجوب الإعادة في مفروض السائل بجريان استصحاب الطهارة قبل الشروع في الصلاة ممّا يدلّ على أنّ اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء كان أمراً مسلّماً مفروغاً عنه ، ولا ينبغي الارتياب فيه .
ومنها : رواية محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً وهو يصلّي؟ قال : لا يؤذنه حتّى ينصرف . . .»(3) . فإنّه لو كانت الصلاة الواقعة في النجاسة واقعاً مع عدم العلم بها فاسدة لما كان إخباره بنجاسة ثوب أخيه إيذاء له كما لا يخفى .
ومع وجود هذه الروايات الكثيرة الدالة على عدم وجوب الإعادة مع الجهل بوقوع الصلاة في النجاسة لا اعتبار بما يدلّ بظاهره على خلاف ذلك ، خصوصاً مع اعتضاد الطائفة الاُولى بعمل الأصحاب عليها ، واستنادهم إليها ، وبالشهرة المحقّقة
- (1) قرب الإسناد: 177 ح796، الوسائل 3: 477. أبواب النجاسات ب40 ح10.
- (2) الوسائل 3 : 477 . أبواب النجاسات ب41 ح1 .
- (3) الكافي 3 : 406 ح8 ; التهذيب 2 : 361 ح1493; الوسائل 3 : 474 . أبواب النجاسات ب40 ح1.
(الصفحة 411)
على وفاقها(1) .
ومن تلك الروايات رواية وهب بن عبد ربّه عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الجنابة تصيب الثوب ولا يعلم به صاحبه فيصلّي فيه ثم يعلم بعد ذلك؟ قال : «يعيد إذا لم يكن علم»(2) .
ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن رجل صلّى وفي ثوبه بول أو جنابة؟ فقال : «علم به أو لم يعلم، فعليه إعادة الصلاة إذا علم»(3) .
هذا مضافاً إلى أن تقييد الإعادة بما إذا لم يكن علم كما في الرواية الاُولى الظاهر في عدم وجوبها مع عدمه ، وهي صورة العلم بالنجاسة ، ربّما يدلّ على كون الصادر من الإمام(عليه السلام) كلمة «لا يعيد» ، فسقطت كلمة «لا» سهواً من الراوي أو الناسخ ، ويحتمل بعيداً الحمل على الاستفهام الانكاري كما احتمله صاحب الوسائل .
وكيف كان ، فهذان الخبران يدلاّن على وجوب الإعادة بالظهور ، والأخبار السابقة تدلّ على عدم الوجوب بالصراحة ، فهي مقدّمة عليهما ، ودعوى أنّ ثاني الخبرين صريح في الوجوب ، باعتبار ذكر العالم أيضاً ، مدفوعة بما حقّقناه في محلّه ، من أنّ ظهور الأمر في الوجوب إنّما هو من قبيل ظهور الفعل ، وإلاّ فصيغته لا تدلّ إلاّ على إنشاء الطلب المشترك بين الوجوب والاستحباب .
ثمّ إنّه لا فرق في الحكم المذكور ـ وهو عدم وجوب الإعادة ـ بين من علم بعد الفراغ من الصلاة بوقوعها في النجاسة ، وبين من علم بالنجاسة واحتمل حدوثها بعد الصلاة ، كما أنّه لا فرق في الأول بين من كان غافلا حين الشروع فيها عن
- (1) النهاية: 52 و94; المقنعة: 149; السرائر 1: 183; المعتبر 1: 442; المنتهى 1: 183; شرائع الإسلام 1: 54; مدارك الأحكام 2: 348.
- (2) التهذيب 2: 360 ح1491; الإستبصار 1: 181 ح635; الوسائل 3: 476. أبواب النجاسات ب40 ح8 .
- (3) التهذيب 2: 202 ح792; الإستبصار 1: 182 ح639; الوسائل 3: 476. أبواب النجاسات ب40 ح9.