(الصفحة 412)
نجاسة ثوبه أو بدنه ، وبين من كان ملتفتاً متردّداً فيها ، لأنّه مضافاً إلى دلالة بعض الروايات المتقدّمة عليه يجري في حقّه أيضاً قاعدة الطهارة ، إذ مدلولها وجوب ترتيب آثار النجاسة في صورة العلم بها ، وأمّا مع عدمه سواء كان متردّداً أو غافلا ، لا تجري أحكام النجاسة .
وقد عرفت أنّها تقتضي الإجزاء ، وكذا لا فرق في الثاني المتردّد بين صورتي الفحص وعدمه ، لاطلاق الأخبار المتقدّمة المعتضدة بالشهرة المحقّقة .
هذا ، ويظهر من بعض الروايات التفصيل في الحكم المذكور بين الناظر وغيره ، مثل ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : ذكر المنيّ فشدّده فجعله أشدّ من البول، ثمّ قال : «إن رأيت المنيّ قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك، وكذلك البول»(1) . فإنّ مفهومها يدلّ على أنّه لو لم يتفحّص ولم ينظر في ثوبه فيجب عليه الإعادة .
وما رواه الكليني عن محمّد بن يحيى، عن الحسن بن عليّ بن عبدالله، عن عبدالله بن جبلة، عن سيف عن ميمون الصيقل، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلمّا أصبح نظر فإذاً في ثوبه جنابة؟ فقال(عليه السلام) : «الحمد لله الذي لم يدع شيئاً إلاّ وله حدّ، إن كان حين قام نظر فلم يرَ شيئاً فلا إعادة عليه، وإن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة»(2) .
هذا ، ومن هنا قد يفصل بين صورتي الفحص وعدمه ، ويجعل هذان الخبران
- (1) التهذيب 1 : 252 ح730 وج2: 223 ح880 ; الفقيه 1 : 161 ح758; الوسائل 3 : 478 . أبواب النجاسات ب41 ح2 .
- (2) الكافي 3 : 406 ح7; التهذيب 2 : 202 ح791 وج1: 424 ح1346; الإستبصار 1 : 182 ح640 ; الوسائل 3 : 478 . أبواب النجاسات ب41 ح3 .
(الصفحة 413)
شاهدين للجمع بين الأخبار الكثيرة المتقدّمة الدالة على الإجزاء وعدم وجوب الإعادة مطلقاً ، وبين الروايتين المتقدّمتين الدالّتين على عدم الإجزاء ، وعدم الفرق في وجوب الإعادة بين العالم بالنجاسة قبل الصلاة والجاهل بها ، بحمل الطائفة الاُولى على صورة الفحص ، واطلاق الأخيرين على صورة عدمه .
ولكن لا يخفى أنّ دلالة الخبرين على التفصيل إنّما هي بالظهور ، ودلالة الأخبار المطلقة المتقدّمة على الإجزاء إنّما هي بالصراحة والنصوصيّة .
ودعوى أنّ تلك الأخبار وإن كانت دلالتها على وجوب الإعادة دلالة صريحة ، إلاّ أنّ دلالتها على اطلاق الحكم المذكور فيها وشموله لصورة عدم الفحص إنّما هي بالظهور ، كما أنّ دلالة الخبرين على التفصيل إنّما هي بالصراحة سيّما الأخير منهما ، وإن كان شمولهما لصورة عدم الفحص إنّما هو بالظهور .
مدفوعة بما عرفت من اعتضاد اطلاق تلك الأخبار بالشهرة المحقّقة ، فلا مجال للأخذ بهما معها ، مضافاً إلى أنّ في مورد الأخير منهما ـ وهي رواية ميمون الصيقل ـ يكون الثوب ملوّثاً بالجنابة عادة ، فرؤيتها فيه تكشف عن عدم المبالات في غسله فتأمّل .
وقد يفصل في أصل المسألة أيضاً بين الوقت وخارجه بوجوب الإعادة ، فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت والإجزاء ، فيما إذا انكشف في خارجه ، وهو محكيّ عن بعض القدماء من الأصحاب(1) ، كما أنّ التفصيل المذكور أولا محكيّ عن بعض المتأخّرين(2) ، وبه جمع بين الأخبار المتعارضة ، بحمل اطلاقات ما يدلّ على الإجزاء على خارج الوقت ، واطلاق غيره على الوقت .
- (1) الفقيه 1 : 42; المبسوط 1: 13 و38 و90; المراسم : 89 ; السرائر 1 : 88 .
- (2) مختلف الشيعة 1 : 244; مسالك الافهام 1 : 127; القواعد 1 : 8 ; رسائل المحقّق الكركي 1 : 115 .
(الصفحة 414)
هذا ولكن لا يخفى أنّه وإن كان يمكن أن يقال بكشف هذا عن وجود نصّ في الجوامع الأوّلية شاهد على الجمع بينها بهذا الوجه لكونه محكيّاً عن بعض القدماء ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال مرجوح ، لما عرفت من أنّ الشهرة على خلافه .
ثمّ إنّه يظهر من السيّد(قدس سره) في العروة جريان الحكم المذكور فيما إذا علم قبل الدخول في الصلاة بطهارة ثوبه وصلّى فيه ، ثم ظهر بعد الفراغ بقاء نجاسته ، حيث قال فيها : إنّه لو غسل ثوبه النجس وعلم بطهارته ثمّ صلّى فيه ، وبعد ذلك تبيّن له بقاء نجاسته ، فالظاهر إنّه من باب الجهل بالموضوع ، فلا تجب عليه الإعادة أو القضاء(1) انتهى .
أقول : لو كان مستنده في الحكم المذكور هو شمول الأخبار المتقدّمة الدالة على عدم وجوب الإعادة ، فيما إذا صلّى في النجاسة مع الجهل بها لهذا المورد ، فمن الواضح أنّ موردها إنّما هي صورة الجهل بالنجاسة ، بأن كان متردّداً فيها ، أو غافلا عنها ، ولا تشمل صورة العلم بالطهارة أصلا ، ولو كان جهلا مركّباً .
وإن كان مستنده فيه ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن ميسر قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله فأصلّي فيه فإذا هو يابس، قال(عليه السلام) : «أعد صلاتك، أمّا أنّك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء»(2) ، وتقريب الاستناد إليه أنّ ظاهره عدم وجوب الإعادة لو غسل ثوبه نفسه ، ولو تبيّن بقاء المني بعد الفراغ من الصلاة .
ومن المعلوم أنّ المكلّف المريد لامتثال أمر المولى مع العلم بكونه متوقّفاً على طهارة ثوبه ، لا يصلّي فيه إلاّ مع العلم بطهارته ، أو إحرازها بالأصول الشرعية
- (1) العروة الوثقى 1: 75. أحكام النجاسات مسألة 2 .
- (2) الكافي 3 : 53 ح2; التهذيب 1 : 252 ح726; الوسائل 3 : 428 . أبواب النجاسات ب18 ح1 .
(الصفحة 415)
العملية ، فالرواية تدلّ على عدم وجوب الإعادة في الفرض المذكور .
ففيه : انّه يلزم بناءً عليه القول بالتفصيل بين ما إذا غسل المصلّي ثوبه وبين ما إذا وكّل الغير في غسله ـ كما هو مفاد هذه الرواية ـ وحينئذ فلا موقع لما ذكره بعد تلك العبارة من عدم وجوب الإعادة أيضاً فيما لو علم بنجاسة الثوب فأخبره الوكيل في تطهيره بطهارته .
هذا ، والأقوى وجوب الإعادة أو القضاء في الفرض المذكور ، والظاهر أنّ المراد من قوله(عليه السلام) في الرواية : «أمّا إنّك لو كنت غسلت . . .» ، هو أنّه لو كنت غسلت ثوبك لبالغت في غسله بحيث لا يبقى فيه أثر المني أصلا لا أنّه لا يضرّ العلم بوقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها إذا علم بالطهارة قبلها كما لا يخفى . هذا كلّه فيما لو رأى النجاسة بعد الفراغ من الصلاة .
لو رأى النجاسة في أثناء الصلاة
أمّا الثاني : لو رآها في أثنائها فإن احتمل حدوثها في الأثناء وأمكن له غسله صحّت الصلاة مع غسله لاستصحاب الطهارة إلى حين الرؤية ، ولا يضر وقوع بعض الأكوان المتخلّلة بين الأفعال في النجاسة ، لما يستفاد من الروايات الكثيرة المستفيضة الواردة فيما لو حصل للمصلّي رعاف في أثناء الصلاة ، وأمكن له الغسل من وجوب الغسل والاتمام وعدم وجوب الإعادة أو القضاء .
ومن المعلوم أنّه لا خصوصيّة للرعاف ، فلو أصابه في أثناء الصلاة دم من نفسه أو من غيره ثم أزاله وأتمّ صلاته صحّت الصلاة ، كما أنّه يحكم العرف بعدم اختصاص ذلك الحكم بالدم ، بل يجري في كل قذارة ونجاسة ، كما أنّه لا خصوصيّة للغسل ، بل المناط هو رفع النجاسة وإزالتها ، لئلاّ تقع الصلاة فيها ولو بقلع الثوب وإلقائه ، فيستفاد من تلك الروايات قاعدة كلية ، وهي عدم بطلان الصلاة لو وقع
(الصفحة 416)
بعض أكوانها المتخلّلة بين أفعالها في النجاسة ، إذا لم يأت بفعل أو قول معها .
هذا إذا احتمل حدوثها في الأثناء وإن لم يحتمل حدوثها فيه بل تبيّن له أنّها كانت من قبل ، بحيث وقع بعض أفعال الصلاة معها ، فمقتضى قاعدة الإجزاء وجوب الاتمام مع إمكان غسله ، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء ، كما أنّ مقتضى الروايات المتقدّمة ـ الواردة فيما لو تبيّن وقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها ـ ذلك ، لأنّه إذا كانت الصلاة الواقعة بتمامها فيها صحيحة مجزية ، فوقوع بعض أفعالها في النجاسة مع الجهل بها ، فصحّتها وإجزائها بطريق أولى .
وقد عرفت أنّه لا يضرّ وقوع بعض الأكون المتخلّلة بين الأفعال في النجاسة ، فمقتضى القاعدة عدم وجوب الإعادة ، إلاّ أنّه يظهر من بعض الروايات الفرق بين ما إذاتبيّن الخلاف في الأثناء، وبين ماإذا تبيّن بعد الفراغ، وأنّه تجب الإعادة في الصورة الاُولى دون الثانية ، مثل رواية أبي بصير المتقدّمة عن أبي عبدالله(عليه السلام)حيث قال(عليه السلام) في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به ، قال: «عليه أن يبتدئ الصلاة» وقال في مقام الجواب عن السؤال عمّا إذا علم بوقوعها في النجاسة بعد الفراغ: «مضت صلاته ولا شيء عليه»(1). ومثل صحيحة زرارة المتقدّمة(2).
وحيث إنّ الرواية متضمّنة لأحكاموفروع كثيرة، فلابأس بنقلها بتمامها فنقول:
روى الشيخ في التهذيب عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة قال(3) : قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً
- (1) الوسائل 3 : 474 . أبواب النجاسات ب40 ح2 .
- (2) الوسائل 3 : 477 . أبواب النجاسات ب41 ح1 .
- (3) رواه الصدوق في العلل عن أبيه، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر
(عليه السلام)
- ، وعليه لا تكون الرواية مضمرة «منه» .