(الصفحة 436)
وبعبارة اُخرى هي معتبرة فيما يلبسه المصلّي سواء كان ساتراً أم لا ، وقد عرفت أيضاً أنّ الطهارة أمر عدمي ، لا معنى لأن تكون شرطاً للصلاة ، بل النجاسة التي هي أمر وجوديّ تكون مانعة عن صحّتها ، فالأمر دائر بين رعاية شرطيّة الستر وبين رعاية مانعية النجاسة ، بترك الصلاة في الثوب النجس .
ومن المعلوم إنّه ليس للعقل سبيل إلى ترجيح أحد الطرفين والحكم بتعيّنه ، فلابدّ من التوقف حتى يعلم ما هو المقدّم في نظر الشارع ، وقد عرفت أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار الواردة عن الأئمة(عليهم السلام) هو الحكم بوجوب الصلاة عارياً ، إلاّ فيما إذا اضطر إلى لبس الثوب .
ثمّ إنّه قد يقال بعدم إمكان حمل رواية عليّ بن جعفر(عليه السلام) المتقدّمة ـ الدالة على وجوب الصلاة في الثوب الذي نصفه أو كلّه دم والنهي عن الصلاة عرياناً ـ على صورة الاضطرار إلى لبس ذلك الثوب ، لبرد أو وجود ناظر ، كما حملها الشيخ على ذلك ، ووجهه أنّ موردها ما كان الرجل عرياناً فوجد ثوباً بذلك الوصف ، وظاهرها عدم كونه مضطرّاً إلى لبسه ، والمفروض إنّه قد حكم فيه بوجوب الصلاة في الثوب النجس ، فلا مجال للحمل على صورة الاضطرار .
ولكن فيه مضافاً إلى أنّ هذا الاشكال كما ينافي الحمل على صورة الاضطرار ، والتفصيل بينها وبين غيرها كما اختاره الشيخ(1) ، كذلك ينافي ما استحسنه المحقّق في المعتبر من الحمل على التخيير(2) ، لما عرفت من اشتمالها على النهي عن الصلاة عرياناً .
نعم يناسب القول المستحدث في القرون الأخيرة الذي اختاره كاشف اللّثام ،
- (1) المبسوط 1: 90 و 91; الخلاف 1: 474; النهاية: 55 .
- (2) المعتبر 1 : 445 .
(الصفحة 437)
وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه(1) ، وهو وجوب الصلاة في الثوب النجس مطلقاً ، فيصير مضمون الرواية معرضاً عنه غير معمول به ظاهراً ، بأنّ هذا المعنى لا يوجب صراحة الرواية ونصوصيّتها في غير صورة الاضطرار ، فلا تكون آبية عن حمل الشيخ ، وإن كان حملها على ذلك أبعد من حمل سائر الروايات الدالة على وجوب الصلاة في الثوب النجس كما لا يخفى .
هذا ، ولو فرضنا عدم إمكان الجمع بين تلك الأخبار المتعارضة ، بنحو يخرجها عن التعارض ، فاللازم الرجوع إلى المرجّحات المذكورة في أخبار الترجيح(2) ، وقد قرّرنا في محلّه أنّ أوّلها هي الشهرة في الفتوى ، ولا ريب في أنّها موافقة للروايات الدالة على وجوب الصلاة عرياناً ، كما يدلّ عليه فتوى الشيخ ومن بعده إلى زمان المحقّق .
فالواجب بناءً عليه الأخذ بها أيضاً ، والحكم بوجوب الصلاة عارياً ، وكيفيّة صلاة العاري من حيث القيام أو القعود ، ومن حيث الإيماء أو الركوع والسجود ما عرفت سابقاً فراجع .
لو كان له ثوبان يعلم بنجاسة أحدهما لا على التعيين
لو كان له ثوبان يعلم بنجاسة أحدهما لا على التعيين ، ولم يتمكّن من غسل أحدهما ، فمقتضى القاعدة وجوب الصلاة في كليهما ، لأنّه يتمكّن من مراعاة الستر والطهارة المعتبرة في الثوب بالصلاة في كل منهما مرّة .
غاية الأمر إنّه لا يتمكّن من الامتثال التفصيلي فيسقط ، ولا يجب عليه حينئذ أزيد من الامتثال العلمي الاجمالي ، كما هو الشأن في جميع موارد العلم الاجمالي ،
- (1) كشف اللثام 1 : 455; الحدائق 5: 352; مفتاح الكرامة 1: 182; العروة الوثقى 1: 76 مسألة4.
- (2) الكافي 1: 67 ح10; وج7: 412 ح7 .
(الصفحة 438)
ويدلّ على ذلك مضافاً إلى أنّه مقتضى القاعدة ، كما عرفت ما رواه الصدوق في الصحيح عن صفوان بن يحيى إنّه كتب إلى أبي الحسن(عليه السلام) يسأله عن الرجل معه ثوبان، فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو، وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال : «يصلّي فيهما جميعاً»(1) .
هذا ، وصرّح الحلّي في محكيّ السرائر بوجوب الصلاة عارياً على طريقة صلاة العاري ، وزعم أنّه مقتضى الاحتياط ، وسيجيء نقل عبارته ، ويظهر من الشيخ في الخلاف وجود القائل بهذا القول في عصره وقبله(2); كما أنّه يظهر من مسبوطه وجود رواية على هذا المضمون(3)، ولكنّه(قدس سره) أفتى فيهما بوجوب الصلاة فيهما جميعاً .
قال الحلّي في السرائر : وإذا حصل معه ثوبان أحدهما نجس والآخر طاهر ، ولم يتميّز له الطاهر، ولا يتمكّن من غسل أحدهما ، قال بعض أصحابنا : يصلّي في كل واحد منهما على الانفراد وجوباً ، وقال بعض منهم: ينزعهما ويصلّي عرياناً ، وهذا الذي يقوى في نفسي وبه أفتي ، لأنّ المسألة بين أصحابنا فيها خلاف ، ودليل الاجماع منفي، فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلناه .
فإن قال قائل : بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد ، لأنّه إذا صلّى فيهما جميعاً تبيّن وتيقّن بعد فراغه من الصلاتين معاً أنّه قد صلّى في ثوب طاهر .
قلنا : المؤثّرات في وجوه الأفعال تجب أن تكون مقارنة لها لا متأخّرة عنها ، والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة ، وهذا يجوز عند افتتاح كل صلاة من الصلاتين إنّه نجس ، ولا يعلم إنّه طاهر عند افتتاح كل صلاة ،
- (1) الفقيه 1 : 161 ح757; التهذيب 2 : 225 ح887 ; الوسائل 3 : 505 . أبواب النجاسات ب64 ح1 .
- (2) الخلاف 1 : 481 .
- (3) المبسوط 1 : 91 .
(الصفحة 439)
فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلاّ بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ، لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة، وهو شاكّ في طهارة ثوبه ، ولا يجز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد ، وأيضاً كون الصلاة واجبة على وجه تقع عليه الصلاة ، فكيف يؤثّر في هذا الوجه ما يأتي بعده ، ومن شأن المؤثّر في وجوه الأفعال أن يكون مقارناً لها لا يتأخّر عنها على ما بيّناه انتهى موضع الحاجة من نقل كلامه(قدس سره)(1) ، ولا يخفى ما فيه :
أمّا أولا : فلأنّ الظاهر من قوله : ودليل الاجماع منفي ، أنّ الدليل المتصوّر منحصر بالاجماع ، وهو غير موجود في المسألة ، مع أنّ الواضح عدم اختصاص الدليل بالاجماع المفقود فيها ، لما عرفت من دلالة الرواية الصحيحة المتقدّمة على حكم المسألة .
وأمّا ثانياً : فلأنّه لو سلّمنا انحصار الدليل بالاجماع المفقود لعدم حجّية خبر الواحد كما هو مرامه ، فلا نسلّم أنّه بعد فقد الاجماع يجب الرجوع إلى الاحتياط ، فمن المحتمل أن يكون الواجب هو الرجوع إلى أصالة البراءة .
وأمّا ثالثاً : فلأنّه لو سلّمنا أنّ الواجب بعد فقد الاجماع هو الرجوع إلى أصالة الاحتياط ، لكن لا نسلّم أنّ مقتضاها وجوب الصلاة عارياً ، بل الظاهر أنّ الاحتياط يقتضي وجوب الصلاة فيهما جميعاً ، لأنّ ما أجاب به عن قول القائل بأنّ الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد ، من أنّ المؤثّرات في وجوه الأفعال . . . ، لايخلو من الإشكال .
لأنّه إن أراد بذلك أنّ المؤثّر في صيرورة الصلاة واجدة للمصلحة الموجبة لتعلّق الأمر هي طهارة المصلّي بما يلابسه ، فهو وإن كان مسلّماً ، إلاّ أنّ من الواضح
- (1) السرائر 1 : 184 ـ 185 .
(الصفحة 440)
عدم كونها متأخّرة عنها بل مقارنة لها ، غاية الأمر أنّ العلم بوقوعها مع الطهارة متأخّر عنها كما لا يخفى .
وإن أراد بذلك أنّ المؤثّر في ذلك هو العلم بوقوع الصلاة مع الطهارة المعتبرة فيها كما يدلّ عليه قوله : والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة ، فهو وإن كان تحققه موقوفاً على الصلاة في كليهما فيتأخّر تحققه عنها ، إلاّ أنّ الظاهر عدم الدليل على اعتبار العلم بالطهارة ، بل المعتبر نفسها ، وبعبارة اُخرى هي شرط واقعيّ لا علميّ .
وإن أراد بذلك أنّ المؤثّر هو قصد امتثال الأمر المتعلّق بالصلاة مع الطهارة ، لأنّها من الاُمور العباديّة التي يشترط في صحّتها قصد الأمر المتعلّق بها ، وبدونه تكون بلا حسن ومصلحة ، وحينئذ فمع الشك في طهارة الثوب عند الشروع لا يتمشّى منه قصد الامتثال ، لعدم العلم بتعلّق الأمر بالصلاة في هذا الثوب .
ففيه: أنّ الواضح أنّ الداعي له إلى الإتيان بهما جميعاً ليس إلاّ الأمر المتعلّق بالصلاة ، إذ المفروض عدم كونه مرائياً في فعلهما، غاية الأمر إنّه لا يعلم بأنّ الامتثال هل تحقّق بالصلاة التي فعلها أولا أو أنّ المحصل له هو ما أتى به ثانياً ، ولا دليل على اعتبار هذا العلم في تحققه ، بل الظاهر انّه لا فرق في تحقّق الإطاعة بين الامتثال العلمي التفصيلي وبين الامتثال العلمي الاجمالي ، فيما إذا كان متمكّناً من الأوّل أيضاً، لولا أنّ العبادات محتاجة في كيفيّتها إلى ثبوت الإذن من الشارع ، ولم يرد في صورة التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي الإذن ، والتخيير بينه وبين الآخر .
وبالجملة: فقصد الأمر المعتبر في صحة العبادة لا ينحصر تحققه بماإذا علم بالمأمور به تفصيلا كما عرفت ، هذا كلّه فيما إذا تمكّن المكلّف من الصلاة في الثوبين جميعاً ، وقد عرفت أنّ الأقوى وجوبها فيهما .