(الصفحة 455)
المانعة ، لأنّها مفروضة فيما إذا لم يكن بينهما حاجز ، أو ستر ، أو جدار ، فمدلولها من حيث إطلاق المنع واحد، وحينئذ فيدور الأمر بين حمل النهي في الطائفة الاُولى على الكراهة ، لصراحة الطائفة الثانية في الحكم بالجواز وعدم التحريم مقيداً بالقيود المذكورة فيها ، وظهور الاُولى في الحكم بالتحريم على الاطلاق ، فتحمل على الكراهة ، ويقال: بكراهة الصلاة فيما إذا كان بينهما شبر ، أو ذراع ، أو موضع رحل ، أو أكثر من عشرة أذرع .
ويحمل اختلاف القيود على اختلاف مراتب الكراهة ، ففيما إذا كان بينهما أكثر من عشرة أذرع، تكون الصلاة واجدة لمنقصة ضعيفة، وحزازة قليلة بخلاف ما إذا كان بينهما موضع رحل ، أو ذراع ، فالكراهة فيها أشدّ ، والمنقصة والحزازة أزيد ، وتشتدّ وتزيد إلى أن تبلغ إلى مقدار شبر ، وبين إبقائها على حالها من اطلاق النهي .
والحكم بأنّ المراد ممّا ورد من التفاصيل في الطائفة الثانية هو أن يكون الرجل متقدّماً على المرأة بذلك المقدار المذكور فيها ، لا أن يكون الفاصل بينهما فيما إذا كانا متحاذيين ، هو ذلك المقدار ، إمّا بحمل السؤال عن صلاة الرجل بحذاء المرأة ، أو يمينها ، أو يسارها على الحذاء العرفي ، واليمين واليسار العرفيين ، وإمّا بحمل الاستثناء في الجواب على الاستثناء المنقطع .
وبالجملة: الأمر دائر بين ترجيح أحد الظهورين على الآخر ، إمّا ترجيح ظهور الطائفة الثانية في أنّ المراد من التفاصيل هو أن يكون الفاصل بينهما فيما إذا كانا متحاذيين ذلك المقدار ، وإمّا ترجيح ظهور الطائفة الاُولى في اطلاق النهي ، ومع عدم الدليل على الترجيح بنحو الجمع العرفي ، بحيث يخرج عن كونهما متعارضين .
فالظاهر وجوب الأخذ بالاطلاقات المانعة ، والقول بتقدمها على أدلة الجواز ، لتأييدها بالشهرة الفتوائية المحققة بين قدماء الأصحاب ، كالمفيد ، والشيخ ،
(الصفحة 456)
ومن تبعهما(1) ، مضافاً إلى كونها أشهر من حيث الرواية أيضاً ، وإلى كونها مخالفة للعامة ، حيث إنّ ظاهرهم الجواز كما يشهد به عدم تعرضهم للمسألة ، وإن تعرضوا لحكم ما إذا خالف سنة الموقف في الجماعة .
هذا ويؤيّد ترجيح ظهور الطائفة الاُولى في إطلاق المنع روايتا محمّد بن مسلم(2) وأبي بصير(3) الواردتان في حكم صلاة الرجل والمرأة المتزاملين ، وأنّه يجب أن يصلّي الرجل أولا فإذا فرغ صلّت المرأة ، فإنّ هذا لا يناسب القول بالكراهة ، مع أنّ في السفر يرخص ما لا يرخص في غيره ، كقصر الصلاة وترك الأذان والإقامة ، بناءً على القول بوجوبهما في غير السفر .
كما أنّه ربما يؤيّد ترجيح ظهور الطائفة الثانية والحكم بالكراهة ، بعض الروايات المتقدمة الذي يدل بالصراحة على الجواز ، وعدم البأس فيما إذا كان بينهما شبر أو ذراع(4) ، كما هو المتحقّق غالباً بين الرجل والمرأة المتزاملين ، فإنّ الظاهر ثبوت هذا المقدار بين طرفي المحمل ، خصوصاً في الأزمنة السابقة .
وبعبارة اُخرى ، مدلول بعض الروايات المتقدمة هو الجواز في مورد الروايتين الواردتين في حكم تزامل الرجل والمرأة ، فيجب حمل النهي فيهما على الكراهة ، لصراحته في الجواز .
وربما يؤيّد الأوّل أيضاً ما تقدم من إحدى روايات زرارة ، المشتملة على استثناء ما إذا كان الرجل متقدّماً على المرأة ولو بصدره(5) ، فإنّ الظاهر أنّ
- (1) راجع ص444.
- (2) التهذيب 2 : 231 ح907; الاستبصار 1 : 399 ح1522; الوسائل 5 : 124 . أبواب مكان المصلّي ب5 ح2 .
- (3) التهذيب 5 : 403 ح1404; الوسائل 5 : 132 . أبواب مكان المصلّي ب10 ح2 .
- (4) الوسائل 5: 124. أبواب مكان المصلّي ب5 ح3 و 4 .
- (5) الوسائل 5: 127. أبواب مكان المصلّي ب6 ح2.
(الصفحة 457)
الاستثناء متصل ، وعليه فيصدق على المستثنى عنوان المستثنى منه ، وهي صلاة المرأة بحيال الرجال ، فيدلّ ذلك على أنّ المراد بالمحاذاة الواردة في سائر الأخبار هي المحاذاة العرفية الشاملة لما إذا تأخرت المرأة عن الرجل .
وحينئذ فيرتفع البعد عن تفسير قوله(عليه السلام) : «لا إلاّ أن يكون بينهما شبر أو ذراع» بما إذا كانت المرأة متأخرة عن الرجل بهذا المقدار ، كما تقدّم هذا التفسير في ذيل بعض الروايات المتقدمة(1) ، إذ لا ينافي ذلك مع صدق المحاذاة .
ثمّ لا يخفى أنّ رواية فضيل المتقدمة المروية في كتاب العلل ، الدالة على التفصيل بين مكّة وسائر البلدان ساقطة عن درجة الاعتبار ، لعدم كونها واجدة لشرائط الحجية ، لإعراض الأصحاب عنها .
ثمّ إنّه لو قلنا بالتحريم الوضعي الراجع إلى البطلان ، دون الكراهة الوضعية ، فلا إشكال في بطلان صلاتهما مع الاقتران ، لأنّه إمّا أن تكون صلاة كل واحد منهما صحيحة فهو خلاف مقتضى الأدلة المتقدمة الدالة على اعتبار عدم المحاذاة ، أو تقدّم المرأة على الرجل كما هو المفروض ، وإمّا أن تكون باطلة فهو المطلوب ، وإمّا أن تكون إحداهما صحيحة دون الاُخرى .
فالصحيحة وكذا الفاسدة إن كانت إحداهما لا على التعيين فهو غير معقول ، وإن كانت إحداهما معينة ، فالمفروض عدم ما يدل على التعيين ، فيلزم القول ببطلان صلاة كل منهما في مقام الاثبات ، ويكشف ذلك عن تزاحم العلتين في مقام الثبوت ، لأنّ الظاهر أنّ مورد تلك الأخبار المتقدمة هي الصلاة الصحيحة من غير جهة المحاذاة ، فلا يكون هنا وجه لبطلان صلاة كل منهما إلاّ محاذاته مع الآخر في حال الصلاة ، وهما متزاحمان بلا ترجيح لأحدهما على الآخر .
- (1) الوسائل 5: 124. أبواب مكان المصلّي ب5 ح3 .
(الصفحة 458)
وأمّا مع عدم الاقتران وتقدّم أحدهما على الآخر في الشروع في الصلاة ، كما إذا شرع الرجل مثلا في الصلاة ، ثم صلّت المرأة بحذاه ، أو إلى أحد جانبيه ، فلا إشكال أيضاً في بطلان صلاة المتأخر منهما ، لعدم كونها واجدة لشرطها من حين الشروع فيها .
وهل تبطل صلاة المتقدم بذلك أيضاً؟ الظاهر العدم ، لأنّ المفروض انعقادها صحيحة ، والمانع الطارئ في بعض أجزائها لا يصلح للمانعية ، بعد فرض عدم كونها مانعة مع البطلان ، ألا ترى أنّه لو صلّت المرأة بدون الطهارة عن الحدث مثلا بحذاء الرجل المصلّي لا يوجب ذلك بطلان صلاته.
هذا ، مضافاً إلى أنّ الالتزام ببطلان صلاة المتقدّم خصوصاً مع عدم علمه حين الشروع بوقوع التحاذي بعده بعيد جدّاً ، بحيث يعدّ من المنكر عند العرف ، ويؤيد ذلك رواية عليّ بن جعفر المتقدمة الواردة في إمام يصلّي صلاة العصر فقامت امرأة بحياله تصلّي، المشتملة على بطلان صلاة المرأة دون الإمام والقوم(1) .
وممّا ذكرنا ينقدح فساد ما استند إليه في الجواهر ، لبطلان صلاة المتقدّم أيضاً ، من معلومية قاعدة : مانع صحة الجميع مانع للبعض .
ثمّ إنّه استظهر ذلك أيضاً من ذيل صحيحتي ابن مسلم وابن أبي يعفور وخبر أبي بصير ، بل بالغ في ذلك فقال : لعلّه يظهر من باقي النصوص أيضاً(2) .
أقول : أمّا صحيحة محمد بن مسلم ، فالظاهر أنّ السؤال فيها عن صحة صلاة الرجل في زاوية الحجرة ، والحال أنّ امرأته تصلّي في زاويتها الاُخرى ، وظاهر الجواب بطلان صلاته فيما إذا لم يكن بينهما شبر ، أو ستر ، كما يدل عليه قوله : «لا ينبغي له ذلك» وكذلك قوله : «فإن كان بينهما شبر أجزأه» .
- (1) الوسائل 5 : 130 . أبواب مكان المصلّي ب9 ح1 .
- (2) جواهر الكلام 8 : 318 .
(الصفحة 459)
فهذه الرواية ربما تؤكد ما ذكرنا ، لا أنّها تنافيه ، لأنّ المراد خبره الآخر الوارد في حكم صلاة الرجل والمرأة المتزاملين الذي جعله في الكافي(1) ذيلا للخبر الأوّل ، فكذلك أيضاً لا ينافي ما ذكرنا ، لأنّ السؤال فيه عن صحة صلاتهما معاً وأنّه هل يتحقق الفراغ عن التكليف إذا صلّيا معاً مقارناً ، أو مع التقدّم والتأخر؟
وظاهر الجواب عدم إمكان صحة صلاتهما ، فلا ينافي ذلك صحة صلاة المتقدّم فقط ، لأنّك عرفت أنّ بطلان صلاة المتأخر ممّا لا إشكال فيه . ومن هنا يظهر ما في استظهار ذلك من خبر أبي بصير المماثل مع هذا الخبر سؤالا وجواباً من الضعف كما عرفت ، وأمّا خبر ابن أبي يعفور فلا دلالة فيه أصلا بل ولا إشعار كما لايخفى .
ثمّ إنّه حكى في الجواهر عن جامع المقاصد(2) أنّه احتمل أن لا يكون المدار في الكراهة أو المنع هي صحة الصلاتين لولا المحاذاة ، بل كان المدار على صدق اسم الصلاة عليهما ، سواء كانتا فاسدتين من غير جهة المحاذاة أيضاً أو صحيحتين من غير تلك الجهة .
لأنّ الصلاة تطلق على الصور غالباً ، ولامتناع تحقّق الشرط على ما هو المفروض ، ولا ينفع التخصيص بقيد لولاه ، إذ المراد بالصلاة الواردة في تلك الأخبار إمّا الصلاة الصحيحة ، وإمّا الفاسدة ، والأوّل قد عرفت امتناع تحققها لفقد شرطها ، والثاني لا فرق فيه بين أن تكون فاسدة من جهة المحاذاة ، أو من غيرها .
وعليه فلو صلّى الرجل والمرأة بحذاء الآخر ، وكانت صلاة أحدهما فاسدة لفقد الطهارة مثلا ، تبطل صلاة الآخر ، بناءً على القول بالمنع ، وقد أيّد ذلك بأنّ المأخوذ في الأخبار هو عنوان الصلاة فقط من دون أخذ قيد الصحة حتّى يقال
- (1) الكافي 3 : 298 ح4 ; التهذيب 2: 230 ح905; الوسائل 5: 123. أبواب مكان المصلّي ب5 ح1 .
- (2) جامع المقاصد 2 : 123 .