(الصفحة 70)
وهل المراد بالزوال وصول أوّل جزء من الشمس إلى دائرة نصف النهار ، أو وصول وسطها إليها ، أو وصول آخرها؟ الظاهر هو الثاني ، لأنّ الاعتبار إنّما هو بانتصاف النهار والانتصاف الحقيقيّ لا يحصل إلاّ بوصول وسطها إليها كما لا يخفى .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ هنا أخباراً تدلّ بظاهرها على أنّ وقت صلاة الظهر صيرورة الفي قدماً(1) ، وأوّل وقت العصر صيرورته قدمين(2) ; وأخباراً أُخر تدلّ على أنّ أوّل وقت الظهر صيرورة الفي قدمين أو ذراعاً ، وأوّل وقت العصر صيرورته أربعة أقدام أو ذراعين(3) ، والمراد بالقدم سبع الشاخص ، وبالذارع قدمان . ولكنّها لا تصلح أن تعارض مع الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال ، لأنّها لا تدلّ على أنّ وقت الظهر لا يدخل إلاّ بعد تحقّق تلك المقادير ، حتّى يجب له انتظار مضيّها ، بحيث لو أتى بها قبلها لكانت باطلة ; بل ظاهرها أنّ اعتبار القدم أو القدمين أونحوهما ، إنّما هو لأجل الإتيان بالنافلة ، واختلافها في المقدار الموضوع للنافلة إنّما هو من جهة اختلاف المتنفّلين في الخفة والبطء والتطويل والتقصير .
وبالجملة : يستفاد من هذه الروايات أنّ وقت فريضة الظهر بالأصل إنّما هو بعد الزوال ، لكن مزاحمة النوافل لها اقتضت ثبوت وقت عرضيّ لها ، وهو بعد صيرورة الفي قدماً أو قدمين أو ذراعاً ، فلا تنافي الروايات المتقدّمة أصلا . ويشهد لما ذكرنا روايات :
- (1) التهذيب 2 : 21 ح59 وص244 ح970 وج3 : 13 ح45 ; الإستبصار 1 : 412 ح1577 وص247 ح884 ، 885 ; الوسائل 4 : 144 ، 145 . أبواب المواقيت ب8 ح11 و 17 .
- (2) الفقيه 1 : 140 ح649 ; التهذيب 2 : 255 ح1012 ; الإستبصار 1 : 248 ح892 ; الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 ح1 و 2 .
- (3) التهذيب 2 : 249 ـ 250 ح989 ـ 993 ; الإستبصار 1 : 254 ـ 255 ح912 ـ 916 ; الوسائل 4 : 147 ـ 148 . أبواب المواقيت ب8 ح28 ، 30 .
(الصفحة 71)
منها : صحيحة الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم جميعاً قالوا : كنّا نقيس الشمس بالمدينة بالذراع ، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : «ألا أُنبّئكم بأبين من هذا؟ إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر ، إلاّ أنّ بين يديها سبحة ، وذلك إليك إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت»(1) .
ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث قال: «أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟» قلت : لِمَ جعل ذلك؟ قال : «لمكان النافلة ، لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن يمضي ذراع فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت بالفريضة وتركت النافلة»(2) الحديث .
ومنها : صحيحة زرارة أيضاً عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟» قلت : لِمَ؟ قال : «لمكان الفريضة ، لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن تبلغ ذراعاً، فإذا بلغت ذراعاً بدأت بالفريضة وتركت النافلة»(3). فإنّ معنى اختصاص البدأة بالفريضة وترك النافلة بما إذا بلغت الذراع أن قبل بلوغها إليه لا يختصّ البدأة بها، بل هما مشتركتان، لاأنّه لا يجوز البدأة بالفريضة أصلا كما لا يخفى.
ومنها : رواية محمّد بن أحمد بن يحيى قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن(عليه السلام) : روي عن آبائك القدم والقدمين والأربع ، والقامة والقامتين ، وظلّ مثلك ، والذراع والذراعين؟ فكتب(عليه السلام) : «لا القدم ولا القدمين ، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين ، وبين يديها سبحة وهي ثمان ركعات ، فإن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت ، ثم صلِّ الظهر ، فإذا فرغت كان بين الظهر والعصر سبحة ، وهي
- (1) الكافي 3 : 276 ح4 ; الوسائل 4 : 131 . أبواب المواقيت ب5 ح1 .
- (2) الفقيه 1 : 140 ح653 ; التهذيب 2 : 19 ح55 ; الاستبصار 1 : 258 ح899 ; علل الشرائع 349 ح2 ; الوسائل 4 : 141 . أبواب المواقيت ب8 ح3 ، 4 .
- (3) الكافي 3 : 288 ح1 ; التهذيب 2 : 245 ح974 ; الاستبصار 1 : 249 ح893 ; الوسائل 4 : 146 . أبواب المواقيت ب8 ح20 .
(الصفحة 72)
ثمان ركعات ، إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت ، ثمّ صلِّ العصر»(1) . . . إلى غير ذلك من الأخبار ; والمستفاد من مجموعها أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال إلاّ انّ التقدير بتلك المقادير إنّما هو بملاحظة إتيان النافلة قبلها ، لا أنّ وقتها لا يدخل إلاّ بعد قدم أو نحوه كما هو واضح .
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لحمل الأخبار ـ الدالّة على أنّ الوقت إنّما يدخل بمجرّد الزوال ـ على التقيّة ، بعد كون ذلك مجمعاً عليه ومورداً لاتّفاق المسلمين ، عدى مالك(2) القائل بعدم جواز الإتيان بصلاة الظهر ما لم يصر الفي بقدر شراك النعل . وسيجيء نقل دليله ، كما أنّه لا إشكال فيها من حيث السند بعد كونها متواترةً إجمالا . فالمتعيّن ما ذكرنا في مقام الجمع .
ثمّ إنّه هل يستفاد من الأخبار ـ الدالّة على أنّ وقت الظهر إنّما هو بعد صيرورة الفي قدماً أو قدمين أو ذراعاً ، بعد حملها على ما ذكرنا ـ استحباب تأخير الظهر إلى تلك المقادير أم لا؟ بل كان محطّ النظر فيها هو بيان وقت يشترك فيه الفريضة والنافلة ، ويجوز فيه مزاحمة الثانية للاُولى ، من دون أن يكون لتأخير الفريضة فضل أصلا؟ وعلى التقدير الأوّل فهل يستفاد منها استحباب تأخير الظهر مطلقاً ، ولو لم يكن قاصداً للنافلة ، أو لم تشرع في حقّه لكونه مسافراً ، أو يكون ذلك مختصّاً بمن كان قاصداً للنافلة ومشروعة في حقّه؟ الظاهر أنّ تلك الأخبار مسوقة لمجرّد بيان وقت يمكن أن يزاحم فيه النافلة للفريضة ، من غير دلالة على استحباب تأخير الفريضة مطلقاً ، أو مع الإتيان بالنافلة قبلها ، ولذا صرّح في كثير منها بأنّه إذا مضى هذا المقدار بدأ بالفريضة وترك النافلة(3) ، وحينئذ فما ورد من أنّ «أوّل
- (1) التهذيب 2 : 249 ح990 ; الاستبصار 1 : 254 ح913 ; الوسائل 4 : 134 . أبواب المواقيت ب6 ح13 .
- (2) المدوّنة الكبرى 1 : 55 ; المجموع 3 : 24 ; الخلاف 1 : 256 مسألة 3 .
- (3) راجع الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 .
(الصفحة 73)
الوقت رضوان الله وآخره عفو الله»(1) ، وغيره من الروايات التي تدلّ على استحباب الإتيان بها في أوّل وقتها باق على إطلاقه كما لا يخفى .
ثمّ إنّه حكي عن الفيض في الوافي ، وصاحب المنتقى ، القول بأفضليّة التأخير(2) مطلقاً نظراً إلى أنّ الجمع بين ما دلّ على دخول وقت الظهر بمجرّد الزوال ، وما دل على دخوله بعد ذراع مثلا يقتضي حمل الطائفة الثانية على أفضليّة تأخيرها إلى ذلك المقدار مطلقاً ، سواء أراد الإتيان بالنافلة أم لا ، ويمكن أن يستشهد على هذا الجمع بروايات :
منها : الأخبار الدالّة على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي الظهر بعد صيرورة الفي ذراعاً ، والعصر بعد صيرورته ذراعين(3) .
ومنها : ما في نهج البلاغة من كتاب عليّ(عليه السلام) إلى اُمرائه المشتمل على قوله : «فصلّوا بالناس الظهر حين تفي الشمس مثل مربض العنز»(4) .
ومنها : رواية زرارة قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أصوم فلا أُقيل حتّى تزول الشمس ، فإذا زالت الشمس صلّيت نوافلي ثم صلّيت الظهر ، ثمّ صلّيت نوافلي ثم صلّيت العصر ، ثم نمت ، وذلك قبل أن يصلّي الناس ، فقال : «يا زرارة إذا زالت الشمس فقد دخل الوقت ، ولكنّي أُكره لك أن تتّخذه وقتاً دائماً»(5) ، فإنّ زرارة مع فرضه الإتيان بالنوافل ، كره له الإمام(عليه السلام)تعجيل الفريضة .
ومنها : موثقة عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن أفضل وقت
- (1) الفقيه 1 : 140 ح651 ; الوسائل 4 : 123 . أبواب المواقيت ب3 ح16 ; سنن الدارقطني 1 : 201 ح972 ـ 974.
- (2) الوافي 7 : 222 ; منتقى الجمان 1 : 401 ـ 411 ; جواهر الكلام 7 : 80 .
- (3) الوسائل 4 : 141 . أبواب المواقيت ب8 .
- (4) نهج البلاغة . كتاب 52 : 986 ; الوسائل 4 : 162 . أبواب المواقيت ب10 ح13 .
- (5) التهذيب 2 : 247 ح981 ; الاستبصار 1 : 252 ح905 ; الوسائل 4 : 134 . أبواب المواقيت ب5 ح10 .
(الصفحة 74)
الظهر؟ قال : «ذراع بعد الزوال» ، قال : قلت : في الشتاء والصيف سواء؟ قال : «نعم»(1) .
ومنها : رواية محمّد بن فرج قال : كتبت أسأله عن أوقات الصلاة؟ فأجاب : «إذا زالت الشمس فصلِّ سبحتك ، وأُحبّ أن يكون فراغك من الفريضة والشمس على قدمين»(2) .
لكن بإزاء هذه الروايات أخبار كثيرة تدلّ على استحباب التعجيل ، وأفضلية أوّل الوقت وحملها على كون المراد بالأوّل أوّل الذراع والذراعين بعيد في الغاية ، لأنّ بعضها بل كثيرها يمنع هذا الحمل ، ولا بأس بنقل بعضها فنقول :
منها : رواية أبي بصير قال : ذكر أبو عبدالله(عليه السلام) أوّل الوقت وفضله ، فقلت : كيف أصنع بالثماني ركعات؟ فقال : «خفّف ما استطعت»(3) .
وأنت خبير بعدم إمكان حمل هذه الرواية على أوّل الذراع مثلا كما هو واضح .
ومنها : رواية زرارة قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : أصلحك الله وقت كلّ صلاة أوّل الوقت أفضل أو وسطه أو آخره؟ قال : «أوّله ، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : إنّ الله عزّوجلّ يحبّ من الخير ما يعجّل»(4) .
ومنها : رواية ذريح المحاربي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «سأل أبا عبدالله(عليه السلام)أُناس وأنا حاضر ـ إلى أن قال : ـ فقال بعض القوم : إنّا نصلّي الاُولى إذا كانت على قدمين ، والعصر على أربعة أقدام؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : «النصف من ذلك
- (1) التهذيب 2 : 249 ح988 ; الاستبصار 1 : 254 ح911 ; الوسائل 4 : 147 أبواب المواقيت ب8 ح25 .
- (2) التهذيب 2 : 250 ح991 ; الاستبصار 1 : 255 ح914 ; الوسائل 4 : 148 أبواب المواقيت ب8 ح31 .
- (3) التهذيب 2 : 257 ح1019 ; الوسائل 4 : 121 . أبواب المواقيت ب3 ح9 .
- (4) الكافي 3 : 274 ح5 ; التهذيب 2 : 40 ح127 ; الإستبصار 1 : 244 ح871 ; الوسائل 4 : 122 . أبواب المواقيت ب3 ح12 .