(الصفحة 75)
أحبّ إليّ»(1) .
ومنها : صحيحة الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم جميعاً المتقدّمة(2) . ويؤيّد ذلك أنّ المشهور بين الاماميّة عدم استحباب التأخير لذاته ، وما ورد من فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3) وأمر علي(عليه السلام)(4) فمحمول على أنّ التأخير انّما كان لملاحظة المأمومين الذين كانوا لا يتركون النوافل ، مع اختلافهم في الخفة والبطء والتطويل والتقصير ، مضافاً إلى موافقة هذه الأخبار للكتاب العزيز في قوله تعالى :
{وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم}(5) وقوله تعالى :
{واستبقوا الخيرات}(6) إذ لا ريب أنّ الصلاة سيّما الفريضة منها من أهمّ الخيرات وأسباب المغفرة .
ثمّ إنّ بعض الأخبار المتقدّمة يدل على أن أوّل الوقت هو القدمان ، لا كونه هو وقت الفضيلة ، مع أنّه خلاف الضرورة . وبالجملة لا إشكال في أنّ أوّل الوقت أفضل من غيره . ولكن لا يلزم التعرّض لهذه المسألة ، وذكر الأخبار الواردة فيها ، وبيان الجمع بينها بنحو التفصيل ، لأنّه يوجب التطويل .
تتمّة : قد عرفت اتفاق المسلمين على أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال(7) ، نعم قال مالك : أحبّ تأخيرها حتّى يصير الفي بقدر شراك النعل(8) . ومستنده في ذلك رواية جبرئيل التي رواها العامّة والخاصّة مع اختلاف يسير ، فروى الشافعي
- (1) التهذيب 2 : 246 ح978 ; الاستبصار 1 : 249 ح897 ; الوسائل 4 : 146 أبواب المواقيت ب8 ح22 .
- (2) الوسائل 4 : 131 . أبواب المواقيت ب5 ح1 .
- (3) الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 ح3 ، 4 ، 7 ، 10 ، 24 ، 28 .
- (4) نهج البلاغة : 986 ، كتاب 52 ; الوسائل 4 : 162 . أبواب المواقيت ب10 ح13 .
- (5) آل عمران : 133 .
- (6) المائدة : 48 .
- (7) الخلاف 1 : 256 مسألة 3 ; بداية المجتهد 1 : 138 ـ 139; المعتبر 2 : 27 ; تذكرة الفقهاء 2 : 300 مسألة 24 .
- (8) المجموع 3 : 24 ; المدوّنة الكبرى 1 : 55 ; الخلاف 1 : 256 مسألة 3 .
(الصفحة 76)
في كتاب الاُم عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) انّه قال : أمّني جبرئيل عند باب البيت في يوم وقد زالت الشمس ، وكان ظلّه بقدر شراك ، وقد أتاني ثانياً حين كان ظلّه بقدر شاخص للعصر ، وأتاني عند غروب الشمس وأمّني للمغرب ، وأتاني عند سقوط الشفق وأمّني صلاة العشاء ، وقد أتاني الصبح وأمّني للصبح ، وأتاني في يوم الثاني وأمّني صلاة الظهر حين كان الظلّ بقدر الشاخص والعصر حين كان مثلين ، والمغرب ما دام الغروب ، والعشاء عند سقوط الشمس أو عند قرب الشفق(1) . ورواها غيره من محدّثي العامّة كأبي داود في سننه(2) مع اختلاف وقد ورد في رواياتنا موضع أمني كلمة أمرني وحكاها في الوسائل في الباب العاشر بطرق أربعة(3) ، لكن فيها بدل المثل والمثلين ، القامة والقامتين ، أو الذراع والذراعين ، أو القدمين وأربعة أقدام . هذا ، ولكن دلالتها على أنّ أوّل الوقت هو ما بعد الزوال إلى المثل مثلا ممنوعة ، فالحقّ هو ما ذهب إليه جميع الإمامية وجمهور العامة ، من أنّ أول الوقت هو بعد الزوال لما عرفت .
المسألة الثانية : آخر وقت الظهر
فنقول : اختلفت الاُمّة في آخر وقت يجوز تأخير الظهر إليه ، فيظهر من العامّة أقوال أربعة ، أحدها : إنّ آخر وقت الظهر هي صيرورة ظلّ كلّ شيء مثله ، حكي ذلك عن الشافعي والأوزاعي والليث بن سعد ، والثوري ، وأحمد ، وغيرهم .
- (1) الامّ 1 : 72 .
- (2) سنن أبي داود 1 : 107 ح393 ; سنن الترمذي 1 : 200 ح149 .
- (3) تهذيب 2 : 252 ـ 253 ح1001 ـ 1004 ; الاستبصار 1 : 257 ـ 258 ح922 ـ 925 ; الوسائل 4 : 157 ـ 158 . أبواب المواقيت ب10 ح5 ـ 7 .
(الصفحة 77)
ثانيها : ما حكي عن ابن جرير ، وأبي ثور ، والمزني ، من أن آخر وقت الظهر صيرورة الظلّ مثل الشاخص مع مضيّ مقدار أربع ركعات بعده . ثالثها : ما ذهب إليه أبو حنيفة في الرواية المشهورة ، وهو إنّ آخر وقت الظهر إذا صار ظلّ كلّ شيء مثليه . رابعها : ما حكي عن عطا ، وطاووس ، ومالك ، من امتداد وقت الظهر من حين الزوال إلى غروب الشمس(1) .
ومستند القول الأول رواية جبرئيل المتقدّمة . وكذا القول الثاني ، فإنّ الرواية تدلّ على اشتراك الظهر والعصر في مقدار أربع ركعات ، من أوّل المثل كما لا يخفى . ومستند القول الثالث ، الرواية النبوية التي تدلّ على أنّ مثل المسلمين ومثل أهل الكتابين من قبلهم ، كمثل رجل استأجر أجيراً ، فقال : من يعمل لي من الغداة إلى نصف النهار بقيراط؟ فعملت اليهود ، ثمّ قال : من يعمل لي من الظهر إلى صلاة العصر بقيراط؟ فعملت النصارى ، ثمّ قال : من يعمل لي إلى آخر النهار بقيراطين؟ فعملتم أنتم ، فغضب اليهود والنصارى ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقلّ أجراً . فقال : هل نقصكم من حقّكم شيئاً؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء(2) . هذا ولكن لا يخفى قصور الرواية عن الدلالة على مقصود هذا القائل . وأمّا القول الرابع الذي ذهب إليه مالك وغيره فلم يذكر له مستند ، ولعلّه أخذه من الصادق(عليه السلام) لكثرة تشرّفه إليه وارتباطه معه ، ولكنّه أخفاه تقية أو لغيرها .
وأمّا الإمامية ـ رضوان الله عليهم ـ فالمسألة محلّ خلاف بينهم أيضاً ، وأقوالهم ربّما ترتقي إلى عشرة ، كما حكاها في مفتاح الكرامة(3) ، ولكن لا حاجة
- (1) الامّ 1 : 72 ; المغني لابن قدامة 1 : 374 ; المجموع 3 : 21 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 269 ; بداية المجتهد 1 : 138 ـ 139 ; الخلاف 1 : 257 مسألة 4 ; المعتبر 2 : 30 ; تذكرة الفقهاء 2 : 302 مسألة 26 .
- (2) صحيح البخاري 4 : 174 ح3459 .
- (3) مفتاح الكرامة 2 : 18 .
(الصفحة 78)
إلى التطويل بنقل الجميع ، والمهمّ منها أربعة أقوال : أحدها : ما ذهب إليه الشيخ(رحمه الله)في بعض كتبه ، من أنّ آخر وقت المختار إذا صار ظلّ كلّ شيء مثله(1) . ثانيها ، ما ذهب إليه أيضاً في بعض كتبه ، من أن آخره قدمان ، وفي موضع آخر منه أربعة أقدام(2) . ثالثها ، صيرورة الفي بقدر الذراع أو سبعي الشاخص ، حكي هذا القول عن المفيد ، وابن أبي عقيل(3) . رابعها ، بقاء وقته إلى أن يبقى إلى الغروب مقدار العصر ، وهو اختيار المرتضى ، وابن الجنيد ، وسلاّر ، وابن إدريس ، والعلاّمة(4) وغيرهم . هذا ، ولو قلنا بعدم اختصاص العصر بمقدار الأربع يمتدّ الوقتان إلى الغروب .
ثمّ إنّ كلّ من قال بامتداد وقت الظهر إلى قدر معيّن من المثل أو الذراع أو أربعة أقدام ، قال بأنّ لكلّ صلاة وقتين : فالأوّل للمختار من المكلّفين ، والثاني للمضطر ; هذا ، ولكنّ الظاهر هو القول الأخير ، والأخبار الظاهرة في غيره تحمل على بيان مراتب الفضل ، فوقت الظهر يمتدّ اختياراً إلى أن يبقى إلى الغروب مقدار أداء العصر ، ولكن ذلك إنّما هو وقت الإجزاء ، دون وقت الفضيلة .
فرعان:
وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، فينبغي التعرّض لمسألتين مهمّتين جاريتين في غير الظهرين أيضاً فنقول :
- (1) المبسوط 1 : 72 .
- (2) النهاية : 59 ، 60 .
- (3) المقنعة : 92 ; مختلف الشيعة 2 : 11 .
- (4) مسائل الناصريّات : 189 مسألة 72 ; المراسم : 62 ; السرائر 1 : 195 ، الغنية : 69 ; الوسيلة : 82 ; الجامع للشرائع : 60 ; ونقله ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2 : 9 ; الذكرى 2 : 330 ; جواهر الكلام 7 : 80 ـ 81 ; كشف اللثام 3 : 30 .
(الصفحة 79)
الفرع الأوّل : لكلّ صلاة وقتان
إنّه قد اشتهر بينهم أنّ لكلّ صلاة وقتين ، ويشهد بصدقه لسان الأخبار ، ولكنّهم اختلفوا في المراد من ذلك على قولين : أحدهما ، انّ الوقت الأوّل اختياريّ ، والثاني اضطراريّ ، بمعنى عدم جواز التأخير إليه إلاّ لذوي الأعذار . ثانيهما ، إنّ الوقت الأوّل وقت الإجزاء ، والثاني وقت الفضيلة ، وأكثر القدماء كالشيخين وابن أبي عقيل وغيرهم على الأوّل(1) ; وذهب السيّد ، وابن الجنيد ، وجماعة إلى الثاني ، وتبعهم المتأخّرون(2) وهو الأقوى ، ومنشأ الاختلاف بينهم هو اختلاف الأخبار الواردة في الباب ، وأمّا ما يدلّ منها على المذهب المختار فكثيرة :
منها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : «أحبّ الوقت إلى الله عزّوجلّ أوّله ، حين يدخل وقت الصلاة فصلِّ الفريضة ، فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما حتّى تغيب الشمس»(3) .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام)في قوله تعالى :
{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}(4) قال : «إنّ الله افترض أربع صلوات ، أوّل وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل ، منها : صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ومنها : صلاتان أوّل وقتهما من
- (1) المقنعة : 94 ; النهاية : 58 ; المبسوط 1 : 72 ; الكافي في الفقه : 138 ; المهذب 1 : 69 ; ونقله عن ابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 2 : 4 .
- (2) مسائل الناصريات : 195 ; السرائر 1 : 196 ; المعتبر 2 : 26 ; مختلف الشيعة 2 : 4 ; تذكرة الفقهاء 2 : 30 ; كشف اللثام 3 : 19 ـ 20 ; مدارك الأحكام 3 : 32 ; جامع المقاصد 2 : 11 .
- (3) التهذيب 2 : 24 ح69 ; الاستبصار 1 : 260 ح935 ; الوسائل 4 : 119 . أبواب المواقيت ب3 ح5 .
- (4) الاسراء : 80 .