(الصفحة 85)
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه لا مجال للإشكال في أخبار الاشتراك والاعتراض عليها من حيث السند ، فإنّها مع كثرتها لا يمكن انكار صدورها ، مضافاً إلى ذلك انّك عرفت أنّ القائلين بالاختصاص لم يطرحوا أخبار الاشتراك أيضاً .
ثمّ إنّ عبارة السيّد في هذا المقام تدلّ على صدور أخبار الاشتراك أيضاً ، قال في الناصريّات : والذي نذهب إليه أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر بلا خلاف ، ثمّ يختصّ أصحابنا بأنّهم يقولون : إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر معاً ، إلاّ أنّ الظهر قبل العصر ، وتحقيق هذا الموضوع ، انّه إذا زالت فقد دخل وقت الظهر بمقدار ما يؤدِّي أربع ركعات فإذا خرج هذا المقدار من الوقت اشترك الوقتان(1) . انتهى موضع الحاجة .
وصرّح المحقّق أيضاً بصدور أخبار الاشتراك عنهم(عليهم السلام) حيث قال في المعتبر ما لفظه : واعترض بعض المتأخّرين على قول أصحابنا : «إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين» . وزعم أنّ الحذاق وأصحاب البحث ينكرون هذا اللفظ ، من حيث أنّ الظهر يختصّ بمقدار أربع ركعات فلا يشترك الوقتان إلاّ بعد قدر إيقاع الظهر ، لأنّه ما درى أنّه نصّ من الأئمّة(عليهم السلام) ، أو درى وأقدم ، وقد رواه زرارة وعبيد والصباح بن سيّابة ومالك الجهني ، ويونس من العبد الصالح عن أبي عبدالله(عليه السلام)ومع تحقّق كلامهم يجب الاعشاء بالتأويل لا الإقدام بالطعن(2) . انتهى موضع الحاجة .
وبالجملة : فالإشكال في صدور أخبار الاشتراك ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، فالواجب الجمع بينها وبين ما يدلّ على الاختصاص بالجمع الدلالي . ولكن يمكن أن يقال بأنّ رواية داود بن فرقد أظهر في الدلالة على الاختصاص من دلالة أخبار
- (1) المسائل الناصريّات : 189 .
- (2) المعتبر 2 : 34 .
(الصفحة 86)
الاشتراك على الاشتراك المطلق ، بل ليس لها في ذلك إلاّ ظهور بدويّ يرفع اليد عنه بسببها ، لأنّ قوله(عليه السلام) :ـ «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر جميعاً ، إلاّ أنّ هذه قبل هذه» إنّما يدلّ على دخول وقت مجموع الصلاتين من حيث المجموع ، لا وقت كل واحد منهما ، ولو سلم ظهوره في ذلك فالاستثناء يوجب رفع اليد عن ظهور الصدر ، لأن الظاهر أنّ المراد بالقبليّة ، القبليّة بحسب الوقت ، لأنّ الترتيب بين الصلاتين ممّا لم يكن محتاجاً إلى البيان ، بعد كونه ضروريّاً عند المسلمين جميعاً ، وحينئذ فقوله : «إلاّ أنّ هذه قبل هذه» لم يكن مسبوقاً لبيان اعتبار الترتيب ، بل المقصود به أنّ وقت صلاة الظهر يدخل قبل دخول وقت صلاة العصر . فتكون هذه الجملة بمنزلة الاستثناء للصدر .
وإن شئت قلت : إنّ رواية ابن فرقد بمنزلة الاستثناء لهذه الروايات ، فيصير مفاد المجموع هو اشتراك الصلاتين إذا زالت الشمس ومضى مقدار أربع ركعات ، فإنّه يختصّ بالظهر فقط . هذا ولا يمكن أن تجعل أخبار الاشتراك قرينة على توجيه هذه الرواية ، لعدم كونها قابلة للتوجيه ، بعد صراحتها في أنّ لكلّ من الصلاتين وقتين ، وقت اختصاصي ، ووقت يشتركان فيه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التفصيل في الرواية إنّما هو لبيان اعتبار الترتيب بين الصلاتين في الجملة حتّى لا ينافي اختصاص اعتباره بحال الذكر ، فتخصيص أوّل الوقت بالظهر ليس لأجل اختصاصه بها ، بل لكون ترتّب العصر عليها مقتضياً للإتيان بها قبل العصر ، ولو في الوقت المشترك ، لعدم التمكّن من الإتيان بها قبلها في أوّل الوقت ، وحينئذ فمقصود الرواية ليس بيان الوقت من حيث الاختصاص وعدمه ، بل مقصودها انّ اعتبار الترتيب اقتضى وقوع الظهر في أوّل الوقت قهراً .
هذا ولكن لا يخفى أنّ هذا التوجيه ـ مضافاً إلى كونه بعيداً عن مساق الرواية ، وإلى أن اعتبار الترتيب أمر بديهيّ لا يحتاج إلى البيان فتدبّر ـ لا يجري في ذيل
(الصفحة 87)
الرواية ، إذ لو كان الغرض بيان الترتيب ، لكان اللاّزم فيمن لم يأت بشيء من الصلاتين إلى أن بقي من مجموع الوقت مقدار أربع ركعات ، أن يأتي بالظهر فقط مراعياً للترتيب ، فلا وجه لتقديم العصر حينئذ إلاّ أن يكون الوقت مختصّاً بها ، وبالجملة سقوط التكليف بالظهر في ذلك الفرض ووجوب الإتيان بالعصر فقط ممّا يدلّ قطعاً على اختصاص الوقت بها ، فالرواية حيث تكون متعرّضة للحكم المذكور فلابدّ من أن يكون المقصود بها هو بيان الوقت الاختصاصي وغيره .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ وقت الظهر مبائن لوقت العصر عند العامّة ، وكذا وقت المغرب والعشاء ، فعند بعضهم يكون أوّل الزوال إلى المثل وقتاً للظهر ، ثمّ يخرج وقتها ويدخل وقت العصر ، وعند بعضهم الآخر ، يكون أوّل الزوال إلى المثلين وقتاً للظهر ، ثمّ يخرج وقتها ويدخل وقت العصر(1) . نعم حكي عن ربيعة ، القول بدخول الوقتين بمجرّد الزوال(2) ، ولكن هذا القول شاذّ عندهم .
وكيف كان فالسيرة المستمرّة فيهم إلى زماننا هذا ، هو إتيان العصر بعد مدة طويلة من إتيان الظهر ، فكانوا يصلّون الظهر ثمّ يتفرّقون إلى مشاغلهم ، إلى أن يصير ظل الشاخص مثله أو مثليه ، ثمّ يعودون للإتيان بالعصر ، وكان الجمع بين الصلاتين والإتيان بهما معاً متّصلا بلا انقطاع أمراً منكراً عندهم ، ولذلك تعجّب أبو أمامة من فعل أنس فيما رواه البخاري عنه حيث روى عنه أنّه قال : صلّينا مع عمر بن عبدالعزيز الظهر ثمّ خرجنا حتّى دخلنا على أنس بن مالك ، فوجدناه يصلّي العصر ، فقلت : ما هذه الصلاة؟ فقال : العصر وهذه صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)التي
- (1) المغني لابن قدامة 1 : 416 ; المجموع 3 : 21 ; الشرح الكبير 1 : 465 ; الخلاف 1 : 257 مسألة 4 ; تذكرة الفقهاء 2 : 302 مسألة 26 و ص306 مسألة 28 .
- (2) المغني 1 : 418 ; الشرح الكبير 1 : 469 ; تذكرة الفقهاء 2 : 308 .
(الصفحة 88)
كنّا نصلّي معه(1) .
وبالجملة : فالتباين في الوقت في الظهرين وكذا العشائين كان أمراً مرتكزاً في أذهانهم ، بحيث التزموا بعدم اشتراك الوقت أيضاً في موارد الجمع كما في السفر وعند المطر ، وأنّ وقت الصلاة الاُولى يصير مضيقاً بسبب الآخر ; والدليل لهم في ذلك ما روي من أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان يفرّق بين الصلاتين(2) . مضافاً إلى ذلك رواية جبرئيل المتقدّمة(3) . ولكن لا يخفى أنّ ذلك لا يدلّ على مرامهم وهو وجوب التفريق ، فإنّ التزامه(صلى الله عليه وآله) بوقت خاصّ للمجيء إلى المسجد لعقد الجماعة ، إنّما كان لاطّلاع الناس على وقت مجيئه(صلى الله عليه وآله) كما هو شأن أئمّة الجماعة أيضاً ، وهذا لا ينافي عدم التزامه(صلى الله عليه وآله)بوقت خاصّ ولو في حال كونه مريداً للصلاة منفرداً ; ويدلّ على ذلك قول أنس في رواية البخاري المتقدّمة ، مع أنّه كان حاجباً له ومطّلعاً على خفايا أمره ; وروى نظير هذه الرواية مالك وأحمد بن حنبل ، من أن النبيّ(صلى الله عليه وآله) جمع بين الصلاتين(4) ، وكذلك روى ابن عبّاس أنّه(صلى الله عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء من غير مطر ولا سفر(5) ، وفي رواية : من غير خوف ولا سفر(6) . وقد أجابوا عن هذه الرواية بأنّ روايات ابن عباس معمول بها إلاّ روايته في مسألة الجمع ، فإنّها لا تكون حجّة للاعراض عنها(7) .
- (1) صحيح البخاري 1 : 156 ح549 .
- (2) سنن ابن ماجة 1 : 219 ح667 ; سنن النسائي 1 : 283 ح498 ; سنن الترمذي 1 : 203 ح152 .
- (3) سنن الترمذي 1 : 200 ح149 ; سنن أبي داود 1 : 107 ح393 .
- (4) الموطأ : 90 باب الجمع بين الصلاتين ح1 ـ 7; مسائل أحمد بن حنبل : 75 .
- (5) علل الشرائع : 322 ، ب11 ، ح6; الوسائل 4 : 221 . أبواب المواقيت ب32 ح5 . صحيح مسلم 5 : 176 ب6 ح49 ـ 50 ; الموطّأ : 91 ح4 .
- (6) علل الشرائع : 327 ، ح4 و 5; الوسائل 4 : 221 . الموطأ : 91 ، ح4; أبواب المواقيت ، ب32 ، ح4 .
- (7) راجع شرح النووي على صحيح مسلم 5 : 178 ح706 .
(الصفحة 89)
وبالجملة : فالجمع بين الصلاتين كان من المنكرات عندهم وحينئذ فلا يبقى الارتياب في كون أخبار الاشتراك مسوقة لبيان الحكم الواقعي ، وأنّ الحقّ في خلافهم ، فمرادهم(عليهم السلام) أنّه لا يجب الانتظار للإتيان بصلاة العصر بعد الإتيان بالظهر كما عليه الجمهور ، بل يجوز الإتيان بهما معاً بعد الزوال بلا فصل ; وليست هذه الروايات بصدد بيان اشتراكهما في كل جزء منه حتّى تنافي ما يدلّ على اختصاص أوّل الوقت بالظهر ، وقد عرفت أنّ اعتبار لترتيب بين الصلاتين كان أمراً بديهيّاً عند المسلمين ، حتّى أنّ العامّة القائلين بتباين الوقتين المستلزم لوقوع الثانية عقيب الاُولى قهراً ، ذهبوا إلى اعتباره في موارد جواز الجمع(1) ، وحينئذ فلا يبقى مجال بعد وضوح اعتباره ، لتوهّم أن يكون قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان»(2) . دالاًّ على دخول الوقتين بمجرّد الزوال المستلزم لنفي اعتبار الترتيب ، فحيث لا يكون ذلك القول موهماً لخلاف المقصود ، لأجل ارتكاز اعتبار الترتيب في أذهانهم ، وكان الغرض من مثل ذلك القول ، الردّ على المخالفين القائلين بوجوب تأخير العصر بعد الفراغ من الظهر إلى أن يدخل وقتها ، كان التعبير بهذا النحو من العبارة أحسن تعبير في بيان المرام .
فحاصل معنى الروايات أنّه لا يجب بعد الفراغ من الظهر الانتظار مدّة مديدة ، والصبر إلى أن يصير الظلّ مثلي الشاخص مثلا ، بل يجوز الجمع بينهما مطلقاً لدخول وقت العصر بعد الفراغ من الظهر فوراً ، والمصحّح لذلك الكلام هو ملاحظة مجموع العملين باعتبار ترتّب أحدهما على الآخر أمراً واحداً ، يدخل أوّل وقته بالزوال ألا ترى أنّه لو قيل : إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر ، لا يتوهّم أحد دخول وقت الركعة الأخيرة منها أيضاً بالزوال ، ولا يتبادر منه إلاّ
- (1) سنن النسائي 1 : 321 ـ 330 .
- (2) الفقيه 1 : 140 ح648 ; الوسائل 4 : 125 . أبواب المواقيت ب4 ح1 .