(الصفحة 93)
ومنها : ما إذا حصلت براءة الذمّة من الظهر ، ولو بمقتضى ظاهر التكليف ، كما لو اعتقد دخول الوقت فصلّى الظهر ثمّ دخل الوقت في آخر صلاته قبل إكمالها ولو بلحظة ، فله أن يأتي بالعصر مع عدم مضيّ مقدار أربع ركعات ، لوقوعها حينئذ في وقته ، والفرض تحقّق سائر الشرائط أيضاً ; وكما لو صلّى الظهر بزعم دخول الوقت ، ثمّ شك بعد الفراغ في الزوال ، فيحكم بصحّتها لقاعدة الفراغ ; ولكنّها لا يثبت دخول الزوال قبلا ، فإذا علم به فعلا صحّ إتيان العصر(1) . انتهى ملخّصاً .
ولا يخفى أنّه بعد تسليم ظهور قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان» في الوقت الفعلي وعدم إمكان الحمل على ظاهره لوجوب تقديم الظهر على العصر ، وهو يوجب رفع اليد عنه ، لا وجه لحمله على الوقت الشأنيّ بالمعنى الذي ذكره ، بعد إمكان حمله على ما ذكرنا في معناه ، من أنّ المراد به جواز الشروع فيهما عند الزوال ، بأن يأتي بالظهر ثمّ العصر من غير فصل ، في مقابل الجمهور القائلين بوجوب تأخير العصر بعد الفراغ من الظهر إلى أن يدخل وقتها الذي يكون مبائناً لوقت الظهر .
وبالجملة : بعد دوران الأمر بين الوجهين لا مجال لحمل الروايات على الوجه الأوّل ، خصوصاً مع كون الثاني متبادراً من مثل هذا التعبير كما عرفت . فالأقوى في المسألة ما اختاره المشهور من الاختصاص ، لرواية ابن فرقد الصريحة فيه ، وعدم منافاة أخبار الاشتراك معها .
وتوهّم أنّه كيف يرفع اليد عن الروايات الكثيرة الدالّة على الاشتراك برواية واحدة ، خصوصاً مع كونها مرسلة لأنّ رفع اليد عن الاطلاقات الكثيرة يتوقّف على دليل قطعي؟
مندفع ـ مضافاًإلى أنّ الرواية الواحدة تكفي لتقييدالاطلاقاتوإن كانت كثيرة،
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 19 .
(الصفحة 94)
والارسال فيهامنجبر بعمل الأصحاب ـ بأنّ أخبارنا لاتكون منحصرة فيما أُودعت في الجوامع الأربعة الثانويّة التي تكون بأيدينا ، بل كان في زمن الرضا(عليه السلام)وقبله وبعده إلى زمان تصنيف تلك الجوامع ، جوامع دائرة بين الأصحاب ; ولم تكن جميع الأخبارالمذكورة فيهامنقولة في الجوامع الثانوية ، والدليل على ذلك وجود روايات في بعضها دون بعض الآخر ; وبالجملة فلا إشكال في عدم كون الكتب الأربعة جامعة لجميع الأخبار المودعة في الجوامع الأولية الدائرة بين الأصحاب ، كجامع البزنطي ، والبرقي ، وغيرهما . هذا كلّه بالنسبة إلى الوقت الاختصاصي للظهر.
وأمّا اختصاص آخر الوقت بالعصر ، فيدلّ عليه روايتا ابن فرقد والحلبي المتقدّمتان ، وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا طهرت الحائض قبل العصر صلّت الظهر والعصر معاً وإن طهرت في آخر وقت العصر صلّت العصر»(1) . وغير ذلك ممّا يدلّ على اختصاص العصر بآخر الوقت ، وهذا لا شبهة فيه أصلا ، ويمكن حينئذ اثبات الاختصاص بالنسبة إلى الأوّل أيضاً بعدم القول بالفصل . وما حكي عن الصدوق من التفصيل بين أوّل الوقت وآخره بالقول بالاشتراك في الأول ، وبالاختصاص في الثاني(2) ، لا ينافي ما ذكرنا ; لعدم صراحة كلامه في الاشتراك فإنّه أفتى على طبق قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان» . وقد عرفت أن هذا التعبير لا ينافي القول بالاختصاص .
ثمّ إنّه بعد الفراغ عن ثبوت أصل الاختصاص ، يقع الكلام في مقداره ، وأنّه هل يكون مقدار أربع ركعات مطلقاً حتّى بالنسبة إلى المسافر والخائف ، فيجب عليهما الانتظار بعد الفراغ عن الظهر التي صلياها في أوّل الوقت بمقدار ركعتين أُخريين ، حتّى يمضي مقدار أربع ركعات ، أو أنّ التعبير بذلك كما في رواية ابن فرقد
- (1) التهذيب 1 : 390 ح1202 ; الاستبصار 1 : 142 ح487 ; الوسائل 2 : 363 . أبواب الحيض ب49 ح6 .
- (2) الفقيه 1 : 139 ، ح647 .
(الصفحة 95)
إنّما هو كناية عن الإتيان بالظهر؟ وجهان ، والحق هو الوجه الثاني الذي مرجعه إلى أنّ الاعتبار بمقدار أداء الظهر بحسب الوظيفة الفعلية لهذا المكلّف ، ولو كان ركعتين أو أقلّ منهما ، كما إذا وقعت الظهر ببعض أجزائها في الوقت ، فإنّه يجوز له حينئذ الإتيان بالعصر بعدها ، والدليل على ما ذكرنا مضافاً إلى أنّ لفظة أربع في الرواية واردة مورد الغالب ، وظاهرة فيه . والمراد بها هو الإتيان بالظهر فكني بها عنه ; قوله(عليه السلام) : «إنّه ليس بين الظهر والعصر حدّ معروف» ، كما في بعض الروايات(1)ويؤيّده بل يدلّ عليه أيضاً قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين» . بناء على ما ذكرنا في معناه من أنّ المتبادر منه مجرّد جواز الشروع في العصر بعد الفراغ من الظهر بلا فصل ، فإنّ مقتضاه دخول وقت العصر بعد الفراغ من الظهر فوراً ، بلا تفاوت بين كونها تماماً أو قصراً ، لعدم الفصل بينهما .
وبتقريب آخر ، إنّ رواية ابن فرقد الدالّة على الاختصاص وإن كانت من حيث الدلالة عليه أظهر من هذه الروايات ، إلاّ أنّ ظهور أخبار الاشتراك ودلالتها على جواز الإتيان بالعصر بعد الفراغ من الظهر أقوى وأسدّ من ظهور رواية ابن فرقد ، في كون الأربع لها موضوعية ، وإن كانت صلاة الظهر قصراً ، ومن المعلوم أنّه لا مانع من العمل بما هو الأظهر منهما في ذلك ، وإن كان الآخر أظهر من جهة اُخرى ، وهي الدلالة على الاختصاص .
وبالجملة : لا يجوز رفع اليد عن ظهور قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس . . .» الحديث . في جواز الشروع في العصر ، بمجرّد الفراغ من الظهر ، وإن كان الجمود على ظاهر لفظة الأربع الواردة في رواية ابن فرقد يقتضي القول بها مطلقاً ، لكن الذوق السليم يأبى عن ذلك ، فلابدّ من حملها على الغالب كما عرفت . وممّا ذكرنا
- (1) التهذيب 2: 255 ح1013; الوسائل 4: 126. أبواب المواقيت ب4 ح4.
(الصفحة 96)
يظهر صحّة ما حكي عن المحقّق حيث حكم فيمن شرع في صلاة الظهر قبل دخول وقتها الذي هو الزوال ، بزعم الدخول ، ثم انكشف وقوع لحظة منها في الوقت ، بأنّ الوقت الاختصاصي بالنسبة إلى هذا الشخص عبارة عن هذه اللحظة ، فيجوز له الشروع في صلاة العصر بلا فصل(1) ، وجه الصحة ما عرفت من أنّ مقتضى الأخبار جواز الشروع في العصر بمجرّد الفراغ من الظهر ، لدخول وقتها بعد الفراغ منها ، وحينئذ فلا وجه للاشكال عليه أصلا كما لا يخفى .
تتمّة في بيان معنى الاختصاص
الظاهر أنّ معناه هو عدم دخول وقت الشريكة ، ما لم يمض المقدار المعيّن ، وحينئذ فنسبة صلاة العصر إلى الوقت الذي هو قبل المضيّ ، كنسبة صلاة الظهر إلى ما قبل الزوال ، فلا يصحّ إتيان العصر ما لم يمض ذلك المقدار ، ولا يلزم منه عدم صحّة سائر الصلوات ، سواء كانت مستحبّة أو واجبة ، كقضاء الفرائض الفائتة في ذلك الوقت المختص بالظهر ، وليس المراد بالاختصاص عدم صحّة وقوع صلاة العصر في ذلك الوقت ، ولو كانت لليوم السابق مثلا ، فما ذكره صاحب الجواهر(قدس سره)في رسالة نجاة العباد(2) ، ممّا حاصله أنّ المراد بالاختصاص عدم صحّة الشريكة فيه مطلقاً أداءً وقضاءً ، عمداً وسهواً ، مع عدم اداء صاحبة الوقت ممّا لا وجه له ، إذ ليس لنا في المقام لفظ الاختصاص ، ولم يقع ذلك في حديث حتّى يفسّر بذلك ، لوضوح أنّ مدرك المسألة ، إنّما هي رواية ابن فرقد ; ومقتضاها ليس إلاّ ما ذكرنا . من أنّ دخول وقت العصر مشروط بمضيّ مقدار معلوم ، وأنّ نسبة العصر إلى ذلك المقدار كنسبة الظهر إلى قبل الزوال ، ولازم ذلك بطلان العصر لو وقعت بتمامها قبل
- (1) المعتبر 2 : 35 ; شرائع الاسلام 1 : 54 .
- (2) نجاة العباد : 81 .
(الصفحة 97)
وقتها . نعم قد عرفت أنّه لو وقعت لحظة منها في وقتها لكانت صحيحة ، وليس للاختصاص المذكور في كلمات الأعلام معنى سوى ما ذكرناه ، فتدبّر .
لو ظنّ ضيق الوقت فصلّى العصر فانكشف الخلاف
قد عرفت اختصاص العصر بمقدار أدائها من آخر الوقت ، وحينئذ فلو ظنّ ضيق الوقت فصلّى العصر ، ثم انكشف بعد الفراغ بقاء الوقت بمقدار صلاة اُخرى ، ففي المسألة وجوه أربعة :
أحدها : وجوب إعادة العصر ، لأنّ الوقت الذي صلّى فيه العصر كان مختصّاً بالظهر ; فإتيانها فيه إتيان في غير الوقت . وبعبارة أخرى إنّ للظهر وقتين اختصاصيين : أحدهما : مقدار أدائها من أوّل الزوال ; وثانيهما : مقدار أدائها قبل الوقت المختصّ بالعصر متّصلا به ، وحينئذ فيتّضح بطلان العصر ، لوقوعها في الوقت المختص بالظهر مضافاً إلى عدم مراعاة الترتيب المعتبر في صحّة صلاة العصر . وحديث «لا تعاد»(1) وإن كان مقتضاه عدم وجوب الإعادة إلاّ من ناحية الخمسة المذكورة فيه ، إلاّ أنّه من الواضح اختصاصه بصورة السهو والنسيان ; والمفروض في المقام الاخلال به عمداً .
ثانيها : وجوب الإتيان بالظهر أداءً لانصراف الأدلّة التي تدلّ على اختصاص آخر الوقت بالعصر إلى صورة عدم الإتيان بها ، وأمّا إذا أتى بها قبلا فلا يستفاد منها الاختصاص ; ولو سلّم الاطلاق ومنع الانصراف نقول : إنّ ظاهر الروايات الدالّة على الاشتراك أقوى من حيث الشمول لهذا الفرض من رواية ابن فرقد وغيرها ، وإن كانت هي أقوى منها في الدلالة على أصل الاختصاص .
- (1) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2 : 152 ح597 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح1 .