(الصفحة 106)
العلم الإجمالي ، وكون الأصل الجاري فيه معارضاً للأصل الجاري فيهما كما لا يخفى .
ولبعض الأعاظم من المعاصرين في هذا المقام تحقيق دقيق لا بأس بإيراده ، فنقول : قال في رسالته التي صنّفها في فروع العلم الإجمالي في حكم هذه المسألة فيما لو تذكّر في الأثناء ما ملخّصه بتقريب منّا :
إنّه تارة يكون التذكّر في محلّه الشكّي ، واُخرى بعده ، وثالثة بعد محلّه الذكري .
فإن كان في محلّه الشكّي فلا شبهة في وجوب الإتيان بالسجدتين في محلّهما وإجراء قاعدة التجاوز عن الأوليين لعدم المعارضة ، وإن كان بعد محلّه الشكّي وفي محلّه الذكري فنقول : إنّ ما هو طرف المعارضة من الاحتمالات الأربعة هو احتمال ترك السجدة الثانية من الركعة الاُولى ، واحتمال ترك السجدة الاُولى من الركعة الثانية ، وذلك لأنّ السجدة الاُولى من الركعة الاُولى مجرى قاعدة التجاوز بلا إشكال ، لعدم إحراز الأثر في البقية بدونه ، لأنّ أثرها إنّما هو مشروط بصحة الصلاة ، وهي متوقفة على جريان القاعدة في الاُولى من الاُولى ، لأنّ مع عدم احرازها لا تكون الصلاة صحيحة أصلا .
لما عرفت من أنه يعتبر في كلّ ركعة من ركعات الصلاة طبيعة السجود المتحقّقة بإيجاد فرد واحد منها ، ومع الاخلال بها في شيء من الركعات لا يكاد ينطبق عنوان الصلاة على المأتي به ، فصحّة الصلاة تتوقّف أوّلا على إحراز الاُولى من الاُولى ولو بقاعدة التجاوز ، وحينئذ فلا معارض لإجراء قاعدة التجاوز فيها . وأمّا في الثانية من الركعة الثانية فنقطع بعدم وجودها على وفق أمرها على كلّ من الاحتمالات الأربعة ، ويبقى فيه احتمال عدم وجوبها لفساد الصلاة .
وقد عرفت أنّ قاعدة التجاوز عن الاُولى في الاُولى تثبت الصحّة ووجوبها
(الصفحة 107)
بلا احتياج إلى اجراء قاعدة التجاوز فيها ، فانقدح أنّ طرف المعارضة هو الثانية من الاُولى ، والاُولى من الثانية ، وفي مثله لابأس بالرجوع إلى الاستصحاب فيهما ، ومقتضاه الإتيان بالسجدة الاُولى من الثانية ، ثمّ بالثانية منها من جهة الجزم بعدم إتيان العمل على وفق أمره ، ويأتي بقضاء الثانية من الاُولى لاستصحابه بعد سقوط القاعدة عنه بالمعارضة ، ولا ضير لمخالفة أحد الأصلين للواقع قطعاً ، لعدم مخالفة عملية في البين ، ولو كان التذكر بعد خروج المحل الذكري ، تجري قاعدة التجاوز في الاُولى من الاُولى ، والباقي بين ما لاتجري فيه لعدم الشكّ ، وبين ما لاتجري للمعارضة ، وفي مثله لا يجب عليه إلاّ قضاء السجدتين وسجدتا السهو لكلّ منهما ، ومقتضى الاُصول وإن كان عدم الإتيان بالثلاثة إلاّ أنّها بالنسبة إلى المعلومات التفصيليّة من الآثار غير جارية نفياً وإثباتاً ، وفي المقام يعلم تفصيلا بعدم وجوب أزيد ممّا ذكر ، كما لا يخفى(1) ، انتهى .
ويمكن أن يقال عليه : بأنّ إجراء قاعدة التجاوز بالنسبة إلى أمر معتبر في الصلاة ، صحّةً أو كمالا ، لا يتوقّف إلاّ على كون ذلك الأمر مترتّباً عليه أثر شرعيّ ، بحيث لم يكن وجوده في عالم التشريع لغو ، خالياً عن الأثر ، إمّا لدخالته في تحقق المأمور به بالوجه الأتمّ الأكمل ، كما في الأذان والإقامة ، أو لاعتباره في صحة المأمور به وقوامه مطلقاً في حالتي العمد والسهو كما في الأركان ، أو في خصوص حال العمد كما في غير الأركان من سائر الأجزاء .
وبالجملة:
لا يعتبر في جريان القاعدة إلاّ مجرّد كون مجراها ذا أثر شرعيّ بحسب الواقع ونفس الأمر ، ولا يتوقّف على إحراز ثبوت ذلك الأثر بحيث لو كان ترتّبه متوقّفاً على تحقق شيء آخر ، لكان الواجب أوّلا إحراز تحقق ذلك الشيء ، ثمّ إجراء القاعدة نظراً إلى أنه لا أثر لها بدون تحققه .
- (1) روائع الامالي في فروع العلم الإجمالي للمحقّق العراقي: 100 ـ 101 .
(الصفحة 108)
وحينئذ نقول: إنّ ترتّب الأثر على السجدتين من الركعة الثانية وإن كان متوقفاً على تحقق السجدة الاُولى من الركعة الاُولى ، لعدم صحة الصلاة بدونه ، كما أنّ ترتّب الأثر على الثانية من الاُولى يكون متوقّفاً على تحقق موضوعه ، وهو يتوقّف على الاُولى لعدم إمكان تحقق عنوان الثانية بدون ثبوت عنوان الاُولى ، إلاّ أنّ إجراء القاعدة في الثلاثة لا يكون مشروطاً بإحراز الاُولى من الاُولى بإجراء القاعدة فيها أوّلا ، لما عرفت من أنه لا يعتبر في جريانها إلاّ مجرّد كون مجراها ذا أثر شرعيّ ، وكلّ واحدة من الثلاث تكون كذلك ، لأنّ الثانية من السجدتين في كلتا الركعتين دخيلة في صحة الصلاة في حال العمد والالتفات ، والاُولى من الثانية كالاُولى من الاُولى معتبرة في قوامها مطلقاً عمداً وسهواً .
وحينئذ فلا يكون إجراء القاعدة في الاُولى من الاُولى متقدّمة من حيث الرتبة على إجرائها في الباقي ، بل يكون الجميع في عرض واحد ، وحينئذ فيصير حكم المسألة كما ذكرنا أوّلا ، فتدبّر جيّداً .
الخامسة عشر:
إن علم بعد ما دخل في السجدة الثانية مثلا أنه إمّا ترك القراءة أو الركوع ، أو أنه إمّا ترك سجدة من الركعة السابقة أو ركوع هذه الركعة ، فقد قال في العروة بعد تقييد الحكم بما إذا دخل في السجدة الثانية: وجب عليه الإعادة ، لكنّ الأحوط هنا أيضاً إتمام الصلاة وسجدتا السهو في الفرض الأول ، وقضاء السجدة مع سجدتي السهو في الفرض الثاني ، ثمّ الإعادة ، ولو كان بعد الفراغ من الصلاة فكذلك(1) .
أقول:
أمّا تقييده(قدس سره) الحكم بما إذا دخل في السجدة الثانية فإنّما هو مبنيّ على دعوى مضيّ محلّ الركوع بالدخول في السجدة الاُولى ، وتوقّفه على الدخول في
- (1) العروة الوثقى 1: 693 ، المسألة الخامسة عشر .
(الصفحة 109)
الثانية ، وقد عرفت فيما سلف أنّ الأقوى خلافه ، وأمّا الحكم بوجوب الإعادة فلا يتم في الفرض الأول ، بناءً على ما اخترناه سابقاً من أنه لا تجب سجدتا السهو لكل زيادة ونقيصة حتّى يكون ترك القراءة من الموجبات لهما .
وحينئذ فلا يترتّب على ترك القراءة في الصورة المفروضة أثر أصلا ، ومعه لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً بالنسبة إلى الطرف الآخر الذي يترتّب عليه الأثر ، لأنّ الشكّ بالنسبة إليه بدويّ ومورد لجريان الأصل ، وحينئذ فتجري قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الركوع ، وتصحّ الصلاة ولا موجب للإعادة ، وأمّا الفرض الثاني فالظاهر لزوم الإحتياط الذي ذكره ، لأنّ مقتضى العلم الإجمالي ببطلان الصلاة الموجب للإعادة وايجاد موجب القضاء وسجود السهو وهو ترك الفرد الثاني من طبيعة السجود ، لزوم مراعات كلا التكليفين بإتيان كلا المحتملين .
وبالجملة:
فهذا الفرض نظير المسألة المتقدّمة ، ولا فرق بينهما أصلا كما لايخفى .
السادسة عشر:
لو علم قبل أن يدخل في الركوع أنه ترك سجدتين من الركعة السابقة أو ترك القراءة ، فقد ذكر في العروة: أنه وجب عليه العود لتداركهما والإتمام ثمّ الإعادة(1) .
أقول:
للمسألة صورتان:
إحداهما:
ما إذا علم قبل أن يدخل في الركوع وقبل الشروع في القنوت أيضاً .
ثانيتهما:
ما إذا علم قبل الدخول في الركوع حال الاشتغال بالقنوت .
أمّا الصورة الاُولى ، فالظاهر أنه لا وجه فيها لوجوب العود لتدارك السجدتين ، لأنّ الشكّ بالنسبة اليهما مجرى قاعدة التجاوز ، لأنه دخل في الغير
- (1) العروة الوثقى 1: 693 ، المسألة السادسة عشر .
(الصفحة 110)
الذي هو القيام على ما هو الحقّ كما مرّ .
ولا تجري القاعدة بالنسبة إلى القراءة ، لعدم مضيّ محلّه وعدم الدخول في الغير ، فيجب الإتيان بها وتصح الصلاة ، ولا موجب للإعادة أصلا .
وأمّا الصورة الثانية ، فإجراء فردين من قاعدة التجاوز فيها بالنسبة إلى السجدتين والقراءة مخالف للعلم الإجمالي بترك إحداهما ، فلا مجال لاجرائهما .
وحينئذ تصل النوبة إلى استصحاب عدم الإتيان بالسجدتين وكذا بالقراءة ، ولا مانع من جريانهما معاً ، أمّا فيما لو علم إجمالا بترك إحداهما وشكّ في الإتيان بالاُخرى فواضح ، لأنّه لا يعلم إجمالا بأنّه أتى بإحداهما حتّى يكون الأصل الجاري في كلتيهما مخالفاً للعلم الإجمالي المتعلّق بالإتيان بواحدة منهما .
وأمّا فيما لو علم بترك إحداهما وفعل الاُخرى فلا مانع أيضاً بناءً على ما اخترناه في محلّه ، من أنّ المانع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو استلزامه لمخالفة تكليف منجّز معلوم ، وعليه فيختصّ عدم الجريان بما كان من الاُصول نافياً للتكليف ، وأمّا المثبتة منها فلا مانع عن جريانها ، وحينئذ فمقتضى أصالة عدم الإتيان بشي من السجدتين والقراءة ، وجوب العود للتدارك ، لأنّ المفروض أنّ المحلّ السهوي باق لم يتجاوز عنه .
هذا ، ويحتمل قويّاً كما احتمله السيّد(قدس سره) في العروة أن يقال: بالاكتفاء بالإتيان بالقراءة في الصورة المفروضة والاتمام من غير لزوم الإعادة ، نظراً إلى أنّ وجوب القراءة عليه معلوم ، لأنّ الأمر دائر بين تركها فيجب الإتيان بها ، وبين ترك السجدتين دونها فيجب الإتيان بها أيضاً ، لأنّه لا أثر للقراءة غير المسبوقة بشي من السجدتين في الركعة السابقة; فعلى التقديرين يجب الإتيان بالقراءة ، ويكون الشكّ بالنسبة إلى السجدتين بعد الدخول في الغير الذي عرفت أنه القيام ، فلا يجب العود لتداركهما ، بل يأتي بالقراءة ويتمّ من غير لزوم الإعادة .