(الصفحة 182)
والظاهر هو الوجه الثاني ، كما نصّ عليه غير واحد من الأصحاب(1) ، بل حكي في مفتاح الكرامة عن إرشاد الجعفرية: أنّ وجوب رعاية الهيئات وقت الفعل لا وقت الفوات أمر إجماعيّ لا خلاف لأحد من أصحابنا فيه(2) ، بل في الجواهر: أنّه من الواضحات التي لا تحتاج إلى تأمّل(3) .
والفرق بين هذه المسألة والمسألة الثانية أنّ هيئة الأداء من القصرية والإتمامية هي المطلوبة للشارع بخصوصها ، وإن كان المكلّف متمكّناً من غيرها ، ضرورة أنّه لا يجوز للمسافر الإتمام ، بل المطلوب في حال السفر هو القصر ، لأنّه من الصدقات التي تصدّق بها الله عزّوجلّ ، ويجب على الناس قبولها كما ورد في الرواية(4) ، وهذا بخلاف الهيئة التي كان المطلوب الأصلي غيرها ، إلاّ أنه اقتضى سهولة الشريعة وسماحة الملّة جواز الانتقال إليها كالجلوس والاضطجاع كما عرفت .
ولو انعكس الفرض بأن كان الواجب عليه في حال الأداء الصلاة الاختياريّة التي لم يكن مضطرّاً فيها إلى شيء من الجلوس والاضطجاع وغيرهما ، فهل يكفي في مقام القضاء والتدارك الإتيان بها جالساً أو ماشياً أو نائماً ، أو غيرها من الأحوال الاضطرارية المجزية في خصوص حال الاضطرار ، أو يجب توقع زوال العذر وحدوث حالة الاختيار والقضاء معها؟
لا ينبغي الإشكال في الجواز والاكتفاء بذلك ، لو علم بعدم زوال العذر وبقائه
- (1) منهم: العلاّمة في نهاية الأحكام 1 : 327; وابن فهد الحلّي في الموجز الحاوي (رسائل العشر): 109; والطباطبائي في رياض المسائل 4 : 288 .
- (2) مفتاح الكرامة 3: 397 .
- (3) جواهر الكلام 13: 113 .
- (4) الوسائل 8 : 519 ، 520 . أبواب صلاة المسافر ب22 ح7 و 11 .
(الصفحة 183)
إلى آخر العمر ، إنّما الإشكال فيما إذا علم بزواله فيما بعد أو احتمل ذلك فنقول:
إن قلنا في مسألة المضايقة المتقدّمة بثبوتها ، وأنّ مقتضى الأدلّة هو الإتيان بالقضاء فوراً عند حدوث الذكر ، إمّا لكونها موقّتة بحدوثه وإمّا لتعلّق أمر آخر بالبدار والمسارعة غير الأمر المتعلّق بأصل الطبيعة ، فلا ينبغي الارتياب في أنّ مقتضى ذلك هو القول بجواز القضاء عند حدوث الذكر ولو كان فاقداً للحالة الاختيارية ، بل الظاهر وجوب ذلك على ما يستفاد من تلك الأدلّة ، كما أنّه لو استفيد منها ترتّب الحاضرة على الفائتة وكونها شرطاً لصحة الحاضرة لا التوقيت والفورية المجردة ، فالظاهر جواز الإتيان بها كذلك قبل الحاضرة ، بل وجوب ذلك كما لا يخفى .
وإن قلنا في تلك المسأله بالمواسعة الراجعة إلى عدم التوقيت وعدم الفورية وعدم الترتّب ، فهل يجوز الإتيان بالفائتة حينئذ أم لا؟ وجهان ، حكي الوجه الأول عن البيان ، والألفية ، وحاشية المحقّق الثاني عليها ، وعن نهاية الأحكام ، وكشف الالتباس ، وبعض آخر التصريح بأنّه لا يجب إلى زوال العذر ، بل ذكر في الجواهر إنّه لم يجد فيه خلافاً ، بل استظهر ذلك من معقد إجماع إرشاد الجعفرية(1) .
نعم ، حكي فيها عن بعضهم استثناء خصوص صورة فقد الطهورين من صور الاضطرار ، فأوجب تأخير القضاء إلى التمكّن وزوال العذر ، مدّعياً عليه الاجماع ، ولكنّه أفاد نفسه أنّه بمكانة من الظهور مستغنى بها عن الاستثناء المزبور ، وعن دعوى الاجماع المسطور ، للعلم بعدم صحة القضاء بدونهما عندنا ، حتّى لو قلنا بها في الأداء لمصلحة الوقت(2) .
- (1) البيان : 152; نهاية الأحكام 1 : 327; الموجز الحاوي (رسائل العشر) : 109; ونقل في جواهر الكلام 13: 115 عن الألفية وحاشية المحقّق النائيني وكشف الالتباس والجعفريّة وشرحها .
- (2) جواهر الكلام 13: 115 .
(الصفحة 184)
وكيف كان ، فقد استشهد في الجواهر للوجه الأول باطلاق الأمر بالقضاء المستوعب لجميع الأوقات المقتضي لصحّة الفعل من المكلّف فيها جميعاً على حسب تمكّنه ، وبما ورد من قولهم: «كلّ ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر»(1) ، الذي هو من الأبواب التي ينفتح منها ألف باب ، وبعدم وجوب الانتظار إلى ضيق الوقت في الأداء في سائر هذه الأعذار .
وقد سمعت أنّ القضاء عين الأداء إلاّ في الوقت ، بل هو بعد مجيء الدليل به صار كالواجب الواحد الذي له وقتان: اختياريّ واضطراريّ ، فجميع ما يثبت للفعل في الحال الأول يثبت للثاني .
هذا ، ولكنّه استشكل في ذلك كلّه بعد دعوى منافاته لإطلاق ما دلّ على شرطية هذه الاُمور المفروض تعذّرها وجزئيتها ، واقتضائه الجواز مع العلم بالزوال في أقرب الأزمان الذي يمكن دعوى حصول القطع بفساد الدعوى فيه ، بمنع اقتضاء إطلاق الأمر ذلك ، لأنّه متعلّق بالفعل الجامع للشرائط ، وإن كان المكلّف مخيّراً في الإتيان به في أيّ وقت .
وبذلك ونحوه صار أفراداً متعدّدة ، وإلاّ فهو في الحقيقة شيء واحد ، وأوقاته متعدّدة ، لا أنّ الأمر متعلّق في كل وقت بالصلاة التي تمكّن فيه ، فيكون لكلّ جزء من الوقت متعلّق غير الآخر ، وإن اتّفق توافق بعضها مع بعض . ولهذا لا يجري حينئذ استصحاب ما ثبت للفعل في الوقت الأول للأداء مثلا ، من قصر أو تمام أو غيرهما في الوقت الثاني ، لاختلاف متعلّق الأمر فيهما .
وليس هو عينه كي يصحّ استصحاب ما ثبت له في الوقت الأول ، ضرورة فساد جميع ذلك ، إذ لا يشكّ أحد في أنّ المفهوم من مثل هذه الأوامر شيء واحد إلاّ
- (1) الوسائل 8 : 258 . أبواب قضاء الصلوات ب3 .
(الصفحة 185)
أنّ أوقاته متعدّدة ، حتّى يثبت من الشارع إرادة فرد آخر منه في الوقت الثاني أو الثالث بدليل آخر ، لا أنه يستفاد من نفس إطلاق الأمر الشامل لمثل هذا الوقت الذي فرض تعذّر الجزء فيه مثلا . إلى آخر ما أفاده الذي مرجعه إلى انّ اطلاق الأمر لا يقتضي جواز الإتيان بالفعل في كلّ وقت على حسب تمكّن المكلّف ، بل متعلقه أمر واحد ، وهو الفعل الجامع للشرائط ، وتعدد الأفراد إنّما هو باعتبار كون المكلّف مخيّراً في الإتيان بذلك الفعل الجامع في كلّ وقت(1) .
ولا يخفى أنّ لازم ما أفاده ثبوت التكليف بالقضاء من أوّل حدوث الذكر ومتعلقه هو الفعل الجامع للشرائط غير المتمكّن منه فعلا ، فالتكليف الفعلي تعلّق بأمر استقباليّ كالواجب المعلّق ، مع أنّ ذلك خلاف ظاهر أوامر القضاء الدالّة على وجوبه إذا ذكر ، فإنّها ظاهرة في أنّ المكلّف به مقدور عند حدوث التكليف ، كيف ولا ينظر في توجيه الأوامر إلاّ إلى المطلوبات التي هي متعلّق الأوامر ، ونفس الطلب المنتزع من فعل المولى مغفول عنه ، ولا نظر له إليه كما لا يخفى .
وبالجملة:
فمقتضى إطلاق أوامر القضاء جواز الإتيان به عند توجه الأمر إلى المكلّف .
ودعوى أنّ مقتضى إطلاق أدلة شرطية هذه الأمور المفروض تعذّرها وجوب الانتظار إلى حدوث التمكّن ، وزوال المانع في الواجبات المطلقة ، وإلى ضيق الوقت في الواجبات الموسعة الموقتة ، فتنافي مع إطلاق الأمر بالقضاء ، كما أفاد صاحب الجواهر(قدس سره) .
مدفوعة بأنّ متعلّق الأمر بالقضاء هو نفس طبيعة الصلاة بلا مدخلية شيء زائد ، ومرجع الكلام في جواز الإتيان بها مع وجود واحد من هذه الأعذار مع
- (1) جواهر الكلام 13: 116 ـ 117 .
(الصفحة 186)
احتمال زوال العذر فيما بعد هذه الحالة ، إلى أنّ الصلاة المأتيّ بها في حال الجلوس مثلا مع ذلك الاحتمال هل تكون مصداقاً لعنوان الصلاة وطبيعتها المأمور بها أم لا؟ فالشكّ في فرديّة المأتيّ بها في ذلك الحال .
وأمّا الأدلّة الدالّة على شرطية هذه الاُمور المفروض تعذّرها ، فغاية مفادها لزوم مراعاة الطبيعة بمرتبتها العالية عند التمكّن منها ، والانتقال إلى الحالات التي بعد هذه الحالة مع عدم التمكّن ، ومرجعها إلى أنه عند إرادة الإتيان بالمأمور بها لابدّ من مراعاة هذه المراتب .
ومن المعلوم أنّ إرادة الإتيان بمثل الصلاة من الأمور العبادية لا تكون ناشئة إلاّ من قبل أمر المولى وإلزامه ، ضرورة أنّها ليست مثل الأفعال غير العبادية الناشئة إرادة كلّ منها من وجود حالة مخصوصة وتحقق مبدأ خاص ، فالأمر بالقضاء الحادث عند حدوث الذكر ، يصلح لأن يكون داعياً للمكلّف إلى الإتيان بمتعلّقه ، وتلك الأدلّة الدالّة على شرطية الاُمور المفروض تعذّرها ، لا دلالة لها إلاّ على مراعاة المراتب المذكورة فيها عند إرادة الإتيان بالمأمور به الناشئة من تعلّق الأمر به ، فمن ذلك يستفاد جواز البدار وعدم لزوم الانتظار ، فافهم واغتنم .
الخامسة: لو كان القصر لأجل الخوف كيف يقضى؟
قد عرفت أنّ المسافر حال الفوات يقضي قصراً ، وأنّ الحاضر حال الفوات يقضي تماماً ، لتطابق النصوص والفتاوى عليه(1) ، لكن يقع الكلام في حكم ما إذا كان الاختلاف في الكمية لا لأجل السفر والحضر ، بل لأجل الخوف وعدمه ، فإن قلنا باختصاص جواز القصر لأجل الخوف بالسفر ، فلا إشكال في لزوم