(الصفحة 184)
وكيف كان ، فقد استشهد في الجواهر للوجه الأول باطلاق الأمر بالقضاء المستوعب لجميع الأوقات المقتضي لصحّة الفعل من المكلّف فيها جميعاً على حسب تمكّنه ، وبما ورد من قولهم: «كلّ ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر»(1) ، الذي هو من الأبواب التي ينفتح منها ألف باب ، وبعدم وجوب الانتظار إلى ضيق الوقت في الأداء في سائر هذه الأعذار .
وقد سمعت أنّ القضاء عين الأداء إلاّ في الوقت ، بل هو بعد مجيء الدليل به صار كالواجب الواحد الذي له وقتان: اختياريّ واضطراريّ ، فجميع ما يثبت للفعل في الحال الأول يثبت للثاني .
هذا ، ولكنّه استشكل في ذلك كلّه بعد دعوى منافاته لإطلاق ما دلّ على شرطية هذه الاُمور المفروض تعذّرها وجزئيتها ، واقتضائه الجواز مع العلم بالزوال في أقرب الأزمان الذي يمكن دعوى حصول القطع بفساد الدعوى فيه ، بمنع اقتضاء إطلاق الأمر ذلك ، لأنّه متعلّق بالفعل الجامع للشرائط ، وإن كان المكلّف مخيّراً في الإتيان به في أيّ وقت .
وبذلك ونحوه صار أفراداً متعدّدة ، وإلاّ فهو في الحقيقة شيء واحد ، وأوقاته متعدّدة ، لا أنّ الأمر متعلّق في كل وقت بالصلاة التي تمكّن فيه ، فيكون لكلّ جزء من الوقت متعلّق غير الآخر ، وإن اتّفق توافق بعضها مع بعض . ولهذا لا يجري حينئذ استصحاب ما ثبت للفعل في الوقت الأول للأداء مثلا ، من قصر أو تمام أو غيرهما في الوقت الثاني ، لاختلاف متعلّق الأمر فيهما .
وليس هو عينه كي يصحّ استصحاب ما ثبت له في الوقت الأول ، ضرورة فساد جميع ذلك ، إذ لا يشكّ أحد في أنّ المفهوم من مثل هذه الأوامر شيء واحد إلاّ
- (1) الوسائل 8 : 258 . أبواب قضاء الصلوات ب3 .
(الصفحة 185)
أنّ أوقاته متعدّدة ، حتّى يثبت من الشارع إرادة فرد آخر منه في الوقت الثاني أو الثالث بدليل آخر ، لا أنه يستفاد من نفس إطلاق الأمر الشامل لمثل هذا الوقت الذي فرض تعذّر الجزء فيه مثلا . إلى آخر ما أفاده الذي مرجعه إلى انّ اطلاق الأمر لا يقتضي جواز الإتيان بالفعل في كلّ وقت على حسب تمكّن المكلّف ، بل متعلقه أمر واحد ، وهو الفعل الجامع للشرائط ، وتعدد الأفراد إنّما هو باعتبار كون المكلّف مخيّراً في الإتيان بذلك الفعل الجامع في كلّ وقت(1) .
ولا يخفى أنّ لازم ما أفاده ثبوت التكليف بالقضاء من أوّل حدوث الذكر ومتعلقه هو الفعل الجامع للشرائط غير المتمكّن منه فعلا ، فالتكليف الفعلي تعلّق بأمر استقباليّ كالواجب المعلّق ، مع أنّ ذلك خلاف ظاهر أوامر القضاء الدالّة على وجوبه إذا ذكر ، فإنّها ظاهرة في أنّ المكلّف به مقدور عند حدوث التكليف ، كيف ولا ينظر في توجيه الأوامر إلاّ إلى المطلوبات التي هي متعلّق الأوامر ، ونفس الطلب المنتزع من فعل المولى مغفول عنه ، ولا نظر له إليه كما لا يخفى .
وبالجملة:
فمقتضى إطلاق أوامر القضاء جواز الإتيان به عند توجه الأمر إلى المكلّف .
ودعوى أنّ مقتضى إطلاق أدلة شرطية هذه الأمور المفروض تعذّرها وجوب الانتظار إلى حدوث التمكّن ، وزوال المانع في الواجبات المطلقة ، وإلى ضيق الوقت في الواجبات الموسعة الموقتة ، فتنافي مع إطلاق الأمر بالقضاء ، كما أفاد صاحب الجواهر(قدس سره) .
مدفوعة بأنّ متعلّق الأمر بالقضاء هو نفس طبيعة الصلاة بلا مدخلية شيء زائد ، ومرجع الكلام في جواز الإتيان بها مع وجود واحد من هذه الأعذار مع
- (1) جواهر الكلام 13: 116 ـ 117 .
(الصفحة 186)
احتمال زوال العذر فيما بعد هذه الحالة ، إلى أنّ الصلاة المأتيّ بها في حال الجلوس مثلا مع ذلك الاحتمال هل تكون مصداقاً لعنوان الصلاة وطبيعتها المأمور بها أم لا؟ فالشكّ في فرديّة المأتيّ بها في ذلك الحال .
وأمّا الأدلّة الدالّة على شرطية هذه الاُمور المفروض تعذّرها ، فغاية مفادها لزوم مراعاة الطبيعة بمرتبتها العالية عند التمكّن منها ، والانتقال إلى الحالات التي بعد هذه الحالة مع عدم التمكّن ، ومرجعها إلى أنه عند إرادة الإتيان بالمأمور بها لابدّ من مراعاة هذه المراتب .
ومن المعلوم أنّ إرادة الإتيان بمثل الصلاة من الأمور العبادية لا تكون ناشئة إلاّ من قبل أمر المولى وإلزامه ، ضرورة أنّها ليست مثل الأفعال غير العبادية الناشئة إرادة كلّ منها من وجود حالة مخصوصة وتحقق مبدأ خاص ، فالأمر بالقضاء الحادث عند حدوث الذكر ، يصلح لأن يكون داعياً للمكلّف إلى الإتيان بمتعلّقه ، وتلك الأدلّة الدالّة على شرطية الاُمور المفروض تعذّرها ، لا دلالة لها إلاّ على مراعاة المراتب المذكورة فيها عند إرادة الإتيان بالمأمور به الناشئة من تعلّق الأمر به ، فمن ذلك يستفاد جواز البدار وعدم لزوم الانتظار ، فافهم واغتنم .
الخامسة: لو كان القصر لأجل الخوف كيف يقضى؟
قد عرفت أنّ المسافر حال الفوات يقضي قصراً ، وأنّ الحاضر حال الفوات يقضي تماماً ، لتطابق النصوص والفتاوى عليه(1) ، لكن يقع الكلام في حكم ما إذا كان الاختلاف في الكمية لا لأجل السفر والحضر ، بل لأجل الخوف وعدمه ، فإن قلنا باختصاص جواز القصر لأجل الخوف بالسفر ، فلا إشكال في لزوم
(الصفحة 187)
قضائها قصراً .
وإن قلنا بعدم اختصاصه به ، وإنّه يجوز القصر عند الخوف في الحضر أيضاً فيشكل الحكم فيما إذا فاتت في الحضر ، والظاهر بعد عدم شمول الروايات الواردة في قضاء الحاضر والمسافر لهذا المقام ، لاختصاص موردها بما إذا كان الاختلاف في الكمّية لأجل السفر والحضر ، إنّه يجب في هذه الصورة مراعاة حال القضاء والإتيان بالفائتة تماماً ، لأنّه المتبادر من أدلّة وجوب تدارك الفائتة عند العرف .
وذلك لأنّ تجويز الشارع الاقتصار على الأقلّ ، إنّما كان لأجل ضرورة الخوف ، وإلاّ فالمطلوب الأصلي في تلك الحال أيضاً هو التمام . هذا ، مضافاً إلى أنّ الخوف قد يبلغ إلى مرتبة لا يجب على المكلّف فيها إلاّ الإتيان بتكبيرتين بدل الركعتين ، وهل يمكن الالتزام حينئذ مع الاخلال بالتكبيرتين وفوتهما ، بأنّه لا يجب عليه عند القضاء إلاّ ما وجب عليه حال الأداء؟
(الصفحة 188)