(الصفحة 229)
وعليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف ، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك ، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه ، حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ ، وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة ، فإذا كان كذلك لازماً لمصلاّه عند حضور الصلوات الخمس ، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا: ما رأينا منه إلاّ خيراً ، مواظباً على الصلوات ، متعاهداً لأوقاتها في مصلاّه ، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين .
وذلك أنّ الصلاة ستر وكفّارة للذنوب ، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلاّه ويتعاهد جماعة المسلمين ، وإنّما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيّع ، ولولا ذلك لم يمكن أحداً أن يشهد على آخر بصلاح ، لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين ، فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين ، وقد كان فيهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك ، وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزّوجلّ ومن رسوله(صلى الله عليه وآله) فيه الحرق في جوف بيته بالنار ، وقد كان يقول: لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلاّ من علّة» .
وأمّا الشيخ فقد رواها بإسناده عن أحمد بن محمد بن يحيى العطّار ، عن محمد ابن موسى ، عن الحسن بن عليّ ، عن أبيه ، عن عليّ بن عقبة ، عن موسى بن أكيل النميري ، عن ابن أبي يعفور ، مثل ما روى الصدوق(رحمه الله) ، إلاّ أنّه أسقط ـ على ما
(الصفحة 230)
حكاه في الوسائل ـ قوله: «فإذا كان كذلك لازماً لمصلاّه» ـ إلى قوله: ـ «ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيّع» ، وأسقط قوله : «فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) همّ بأن يحرق» ـ إلى قوله: ـ «بين المسلمين» .
وزاد: وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لا غيبة إلاّ لمن صلّى في بيته ، ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته ، وسقطت بينهم عدالته ، ووجب هجرانه ، وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره ، وحذّره ، فإن حضر جماعة المسلمين ، وإلاّ أحرق عليه بيته ، ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته ، وثبتت عدالته بينهم»(1) .
والكلام في هذا الخبر يقع في مقامين:
المقام الأول:
في سنده ، وقد حكي عن العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله) أنّه حكم بصحّة هذه الرواية ، حيث قال في محكيّ ما صنّفه في مناسك الحجّ: الصحيح عندنا في الكبائر أنّها المعاصي التي أوجب الله تعالى سبحانه عليها النار ، وقد ورد تفسيرها بذلك في كثير من الأخبار المروية عن الأئمّة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين ، نحو صحيحة عبدالله بن أبي يعفور الواردة في صفة العدل . . . .
لكن في مفتاح الكرامة بعد نقل هذه العبارة قال: قلت: الظاهر أنّ الخبر غير صحيح لا في التهذيب ولا في الفقيه(2) ، انتهى .
والظاهر أنّ منشأ الإشكال في الصحّة هو اشتمال السند على أحمد بن محمد بن يحيى ، حيث لم يقع عنه ذكر في الكتب المصنّفة في الرجال حتّى يعدل أو يجرح ، مع انّ التحقيق يقضي بعدم الاحتياج إليه .
- (1) الفقيه 3 : 24 ح65 ; التهذيب 6: 241 ح 596; الاستبصار 3: 12 ح 33; الوسائل 27: 391 ـ 392 . كتاب الشهادات ب41 ح1 و 2 .
- (2) مفتاح الكرامة 3 : 91 .
(الصفحة 231)
توضيح ذلك ، إنّ الكتب الموضوعة في هذا الباب لا تتجاوز عن عدّة كتب ككتاب رجال الشيخ ، ورجال الكشي ، وفهرست النجاشي ، وعدم التعرّض فيها لراو لا يوجب عدم الاعتناء بروايته ، لأنّ كتاب رجال الشيخ لا يكون مشتملا على جميع الرواة ، لأنّ الظاهر أنّه كان بصورة المسودّة ، وكان غرض الشيخ الرجوع إليه ثانياً لنظمه وترتيبه وتوضيح حال بعض المذكورين فيه ، كما يشهد لذلك الاقتصار في بعض الرواة على ذكر مجرّد إسمه وإسم أبيه من دون تعرّض لبيان حاله من حيث الوثاقة وغيرها ، وكذا ذكر بعض الرواة مكرّراً كما يتّفق فيه كثيراً على ما تتبّعنا .
فهذا وأمثاله ممّا يوجب الظنّ الغالب بكون الكتاب لم يبلغ إلى حدّ النظم والترتيب والخروج بصورة الكتاب ، وذلك كان مستنداً إلى كثرة اشتغال الشيخ بالتأليف والتصنيف في الفنون المختلفة الإسلاميّة من الفقه والأصول وجمع الأحاديث والتفسير والكلام ، وغير ذلك من العلوم ، بحيث لو قسّمت مدّة حياته على تأليفاته لا يقع في مقابل كتابه هذا إلاّ ساعات معيّنة محدودة(1) .
وكيف كان، فعدم الذكر في رجال الشيخ لا يدلّ على عدم الوثاقة .
وأمّا كتاب رجال الكشي ، فالظاهر كما يظهر لمن راجع إليه أنّه كان غرضه منها جمع الأشخاص الذين ورد في حقّهم رواية أو روايات مدحاً أو قدحاً أو غيرهما .
وأمّا كتاب النجاشي فغرضه فيه إيراد المصنّفين ومن برز منه تأليف أو
- (1) وإن شئت تحقيق أحواله وصورة مصنّفاته وعدد مشايخه وتلاميذه وغير ذلك ممّا يتعلّق به ، فارجع إلى ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاستاذ (أدام الله أظلاله على رؤوس المسلمين) ممّا علّقه على كتابي التهذيب والاستبصار في تنقيح أسانيدهما ، وقد ذكرت خلاصة ما هناك في مقدّمة كتاب الخلاف الذي طبع «لأوّل مرّة» بأمره واهتمام منه في جمع متفرّقاته . «المقرّر» . مقدّمة الخلاف 1 من ص : الف ـ د .
(الصفحة 232)
تصنيف ، وهكذا فهرست الشيخ(قدس سره) .
فعدم تعرّضه لبعض من الرواة باعتبار عدم كونه مصنّفاً لا يدلّ على عدم كونه ثقة عنده ، كما يظهر من بعض المتأخّرين في مشتركاته(1) ، حيث اعتمد في عدم وثاقة الراوي على مجرّد عدم كونه مذكوراً في تلك الكتب ، مع أنّ الظاهر أنّه يمكن استكشاف وثاقة الراوي من تلاميذه الذين أخذوا الحديث عنه ، فإذا كان الآخذ مثل الشيخ أو المفيد أو الصدوق أو غيرهم من الأعلام خصوصاً مع كثرة الرواية عنه لا يبقى ارتياب في وثاقته أصلا .
وحينئذ ينقدح صحة ما أفاده العلاّمة الطباطبائي من الحكم بصحّة هذه الرواية وإن كان أحمد بن محمد بن يحيى الواقع في ابتداء سند الرواية لم يقع عنه في تلك الكتب ذكر ولا تعرّض ، لأنّ وثاقته تستفاد من رواية الصدوق والشيخ عنه خصوصاً مع كثرة رواياته ، حيث إنّه كان رواية كتب أبيه بإجازة منه ، وإن لم يكن له كتاب ، ولأجله لم يذكر في شيء من تلك الكتب ، فالإنصاف أنّه لا مجال للمناقشة في مثل هذا السند أصلا ، فافهم واغتنم .
المقام الثاني:
في دلالة الرواية ، ونقول: الظاهر أنّ السؤال فيها إنّما هو عن حقيقة العدالة وما هو المراد منها في لسان الشرع ، وإن كان ظاهر عبارته يعطي أنّ السؤال إنّما هو عن الأمارة المعرّفة لها بعد العلم بحقيقتها ، وأنّها هي الملكة النفسانية الكذائية .
وذلك لأنّ لفظ العدالة وكذا الفسق وإن كان مستعملا كثيراً في صدر الإسلام وفي عصر نزول القرآن بل قبله ، وقد عرفت الآيات التي استعملت فيها هذه اللفظة وما يقابلها(2) ، وكان اعتبار العدالة في الشاهد معروفاً بين المسلمين من ذلك العصر
- (1) تنقيح المقال 1: 95 .
- (2) الطلاق : 2 ; الحجرات : 7 ; البقرة: 282 ; المائدة : 106 .
(الصفحة 233)
إلى عصر صدور الرواية الذي هو النصف الأول من القرن الثاني .
إلاّ أنّه حيث كانت حقيقتها وما يراد من مفهومها مورداً لاختلاف المراجع للمسلمين في ذلك الزمان في الفتوى وغيرها كأبي حنيفة وغيره ، حيث حكي عن الأول أنّه فسّرها بمجرّد ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وعن غيره تفسيرها بالاجتناب عن الاُمور التي تعلّق النهي بها تحريماً أو تنزيهاً ، وارتكاب الطاعات كذلك واجبة أو مستحبّة(1) ، أراد السائل ـ وهو ابن أبي يعفور ـ الاستفهام عمّا هو المراد منها عند أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ، وليس مرادنا من ذلك أنّ سؤاله إنّما هو عن المعرّف المنطقي حتّى يكون قوله: «بِمَ تعرف» بصيغة المجهول من باب التفعيل ، بل سؤاله إنّما هو عن مجرّد ما اُريد منها في لسان الأئمّة(عليهم السلام) .
ودعوى أنّ ظاهر السؤال إنّما هو السؤال عن الأمارة المعرّفة للعدالة بعد العلم بمفهومها ، بمعنى أنّ السائل لمّا رأى أنّ العدالة هي الملكة النفسانية الكذائية ، ورأى أنّ احراز تلك الملكة مشكل جدّاً مع كثرة الأحكام المترتّبة على عدالة الرجل ، حدس من ذلك أنّ الشارع جعل لها أمارة لئلاّ يلزم تعطيل تلك الأحكام مع كثرتها ، فسئل عن تلك الأمارة المعرّفة ، ...
في غاية البعد ، بل الظاهر ما ذكرنا ، ولا ينافيه قوله(عليه السلام) في الجواب: «أن تعرفوه بالستر والعفاف . . .» ، نظراً إلى أنّ المعرفة طريق للعدالة لا نفسها ، وذلك لأنّ المعرفة المأخوذة في الجواب إنّما أخذت لأجل تعريف أصل العدالة وإفادة حقيقتها .
وبالجملة:
فالتأمّل يقضي بكون مورد السؤال إنّما هو نفس العدالة لا الأمارة المعرّفة لها .
- (1) بداية المجتهد 4: 308.