(الصفحة 234)
ثمّ إنّه ذكر بعض الأعاظم من المعاصرين في كتابه ـ الصلاة ـ في معنى هذه الرواية وتحقيق مورد السؤال فيها كلاماً ، محصّله: إنّ الظاهر من الرواية بيان معرفة العدالة في الخارج لا بيان مفهومها ، وظاهر السؤال عن طريق تشخيص العدالة أن يكون مفهومها معلوماً معيّناً عند السائل ، لأنّها عرفاً هي الاستقامة والاستواء ، وإذا أطلق الشارع فلايشكّ في أنّ مراده هو الاستقامة في جادّة الشرع الناشئة من الحالة النفسانية ، وهي التديّن الباعث له على ملازمة التقوى .
وحيث لم يكن لهذا المعنى أثر خاصّ وكاشف قطعيّ ، ألجأ السائل إلى أن يسأل طريقه عن الإمام(عليه السلام) ، وهذا بخلاف سائر الملكات ، كالشجاعة والسخاوة وأمثال ذلك ، فإنّها تستكشف قطعاً عند وجود آثارها الخاصّة ، فعرّفه الإمام(عليه السلام)الطريق إلى تشخيصها وأجابه بالستر والعفاف . . . ، وهذه العناوين المذكورة في الجواب وإن كانت مشتملة على الملكة ، ولكن لا تدلّ على الملكة الخاصّة ـ التي هي التديّن والخوف من عقوبة الله، جلّت عظمته ـ التي هي عبارة عن العدالة ، فلا ينافي جعلها طريقاً تعبّدياً إلى ثبوت العدالة .
ثمّ إنّه حيث تحتاج معرفة الشخص بالستر والعفاف، وأنّه تارك للقبائح على وجه الاطلاق إلى معاشرة تامّة في جميع الحالات ، وهذه ممّا لا يتّفق لغالب الناس ، فجعل الشارع لذلك دليلا وطريقاً آخر ، وهو كونه ساتراً لعيوبه في الملأ وبين أظهر الناس ، وطريقاً ثالثاً نافعاً لمن ليس له معاشرة مع شخص مطلقاً إلاّ في أوقات حضور الصلاة مع الجماعة . فمن حضر جماعة المسلمين يحكم بعدالته ، وأنّه لا يرتكب القبائح الشرعيّة مع الجهل بأحوال ذلك الشخص ، بل يكون لحضوره في صلاة الجماعة ثلاث فوائد:
الاُولى:
إنّ ترك الجماعة مع المسلمين بدون علّة بحيث يعدّ إعراضاً عنها من أعظم العيوب ، فمن تركها كذلك فليس ساتراً لعيوبه بل هو مظهر لها .
(الصفحة 235)
الثانية:
إنّ من لم يحضر الجماعة لا دليل لنا على أنّه يصلّي .
الثالثة:
إنّ حضوره للجماعة دليل شرعاً على كونه تاركاً لما نهى الله عنه وعاملا بكلّ ما أمر الله تعالى به ، وقد أشار إلى كلّ واحد من هذه الفوائد الصحيحة المتقدّمة فتدبّر فيها(1) ، انتهى .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ جعل الأمارة المعرّفة للعدالة وبيانها للسائل ، مع جعل أمارة لتلك الأمارة ومعرِّفاً لذلك المعرّف كما بيّنه(قدس سره) بعيد جدّاً ، لعدم الاحتياج إلى جعل الأمارة المعرِّفة حينئذ أصلا ، وإلى أنّ مجرّد الحضور لجماعة المسلمين لا ينافي عدم كونه ساتراً لعيوبه ، فلا معنى لجعله طريقاً في قبال الستر للعيوب ، خصوصاً مع كون ظاهر الرواية هو كون الستر للعيوب والحضور لجماعة المسلمين معاً طريقاً ودليلا ، لا كلّ واحد من الأمرين ـ أنّ كلّ ذلك خلاف ظاهر الرواية ، فإنّك عرفت أنّه حيث كان تفسير العدالة وتعريفها مورداً لاختلاف المسلمين في ذلك العصر ، أراد السائل أن يسأل عمّا يراد منها عند أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، والجواب لا ينطبق إلاّ على ذلك كما سنبيّن . هذا كلّه فيما يتعلّق بالسؤال .
وأمّا الجواب ، فقوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» ، معناه أن يكون الرجل معروفاً عند المسلمين ، بحيث يعرفونه أو تعرفونه أنتم بالستر الذي هو الحياء ، وبالعفاف الذي هو الحياء أيضاً .
قال في لسان العرب: الستر ، ـ بالكسر ـ : الحياء ، والحجر العقل . وقال في لغة «عف»: العفّة: الكفّ عمّا لا يحلّ ويجمل . عفّ عن المحارم والأطماع الدنية ، يعفّ عفة وعفا وعفافاً «بفتح العين» ، وعفافة فهو عفيف وعفّ أي كفّ وتعفّف . . .(2) .
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 517 ـ 518 .
- (2) لسان العرب 6: 169 وج9 : 290 .
(الصفحة 236)
وبالجملة:
أن يكون الرجل معروفاً بالكفّ عمّا لا يجمل له بالحياء المانع عن ارتكابه ، وأن يكون معروفاً بكفّ البطن والفرج ، واليد واللسان، عمّا لا يليق بها ولا يجمل لها . ومنشأ هذا الكفّ هو الستر والحياء ، لأنّه معه يتعسّر من الشخص صدور ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف .
فهذه الجملة تدلّ على اعتبار المروءة في العدالة، كما هو المشهور بين المتأخّرين(1) ، لأنّها ليست إلاّ عبارة عن ترك ما لا يليق بحال الشخص عادة .
وقوله: «يُعْرَف . . .» ، الظاهر أنّ فعل المضارع منصوب معطوف على قوله: «تعرفوه» المنصوب بكلمة «أن» الناصبة ، فمعناه حينئذ أن يكون الرجل معروفاً أيضاً باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، من شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك .
فعليه يكون كلّ من الجملتين الاُولى والثانية بعض المعرّف للعدالة ، لأنّ الجملة الاُولى تدلّ على اعتبار المروءة ، والثانية على اعتبار اجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، وليست الجملة الاُولى تمام المعرّف للعدالة ، والجملة الثانية دليلا على المعرّف ، لأنّه مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة كما لا يخفى ، وإلى عدم الفرق بين المعرّف والدليل عليه حينئذ أصلا ، يلزم أن لا يكون الدليل دليلا على تمام المعرّف ، لأنّه حينئذ لابدّ من حمل المعرف على الأعم من الأعمال غير اللائقة بحاله عرفاً ، بحيث يشمل غير الجائزة شرعاً أيضاً ، مع أنّ الدليل والطريق ينحصر بخصوص الثانية .
ودعوى أنّ العطف على الجملة الاُولى يلزم منه الاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه ، من جهة أنّ المعطوف عليه هو معرفة المسلمين للرجل والمعطوف
(الصفحة 237)
هو معروفيّة الرجل عندهم .
مدفوعة بأنّه لا مانع من ذلك ، بل وقع نظيره في الكتاب العزيز في قوله تعالى:
{ولايحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}(1) ، حيث أنّه نسب الخوف أوّلا إلى الزوجين ثمّ إلى أهلهما ، وليس ذلك إلاّ لأجل كون مجرّد المعرضيّة كافياً في صحة النسبة كما لا يخفى .
وبالجملة:
فالظاهر أنّ هذه الجملة جزء أخير من معرّف العدالة، ومعطوفة على الجملة الاُولى ، وحيث إنّ مقتضى هاتين الجملتين المعرّفتين للعدالة اعتبار كون الشخص واجداً لملكة المروءة ، وكذا ملكة الإجتناب عن المعاصي ، وظاهره اعتبار إحراز ذلك في مقام ترتيب الآثار المترتّبة على العدالة .
ومن الواضح أنّ إحرازه بالعلم مشكل جدّاً ، فلذا نصب له طريق ودليل بيّنه الإمام(عليه السلام)بقوله: «والدلالة على ذلك كلّه . . .» ، ومعناه أنّ الدليل على مجموع ما جعلناه معرّفاً للعدالة من الجزء الذي هو مدلول الجملة الاُولى ، والجزء الآخر الذي هو مدلول الجملة الثانية ، أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه على تقدير وجودها أعمّ من العيوب المنافية للمروءة وغير الجائزة شرعاً .
وثمرة سترها أنّه معه يحرم على المسلمين تفحّص ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، وتفتيش خلف الساتر ، بل يجب عليهم حينئذ تزكيته وإظهار عدالته في الناس مع سؤالهم عن حاله .
وحيث إنّ المعاصي على قسمين: وجودية : وهو ارتكاب شيء من المحرّمات . وعدمية: وهوترك شيء من الواجبات. والمعاصي الوجودية على تقديرتحقّقها تحتاج
(الصفحة 238)
إلى الستر الذي به يرائى عدم تحقّقها ، لأنّه يحرم على المسلمين التفتيش والتفحّص .
وأمّا المعاصي العدمية فيكفي في تحقّقها مجرّد الترك وعدم صدور الفعل ، فلا محالة يحتاج في إراءة خلافها إلى إيجاد الفعل ، فلذا جعل الدليل على خلافها التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة .
وتخصيص الصلوات الخمس من بين الواجبات إنّما هو باعتبار كون ما عداها منها ، إمّا أن لا يكون وجوبه مطلقاً لاشتراطه بالاستطاعة المالية أو البدنية أو كلتيهما ، وإمّا أن لا يقدر الشخص على مخالفته باعتبار إجبار الحاكم إيّاه عليه ، كالزكاة ونحوها ، وما عدا ما ذكر ينحصر في الصلوات الخمس ، فلذا جعل التعاهد عليها دليلا على العدالة .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ العدالة على ما تستفاد من الرواية ليست إلاّ الملكة ، لأنّ الستر والعفاف من الأوصاف النفسانية والفضائل الباطنية المانعة عن ارتكاب ما لا يجمل لواجدها ، فالمعتبر هو ملكة المروءة التي يتعسّر معها الاقتحام في خلافها وارتكاب شيء من القبائح العرفيّة غير اللائقة بحاله ، لأنّ صفة الحياء والعفّة تمنع عن ذلك .
وامّا الاجتناب عن الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، الذي هو من تتمّة المعرّف للعدالة ، فهو وإن لم يكن المذكور في الرواية اعتبار ملكته ، إلاّ أنّ ذكر الستر والعفاف يصير قرينة على أنّ المراد به هو ملكة الاجتناب أيضاً . فالعدالة حينئذ ملكة نفسانية وهيئة راسخة في النفس تمنع لأجل الحياء عن ارتكاب القبائح العرفية ، ولأجل الخوف عن ارتكاب القبائح الشرعية .
نعم، قد عرفت أنّ إحراز وجود هذه الحالة بالعلم في غاية الإشكال ، مع أنّا نرى كثرة الأحكام المترتّبة على العدالة وابتلاء الناس بها في مرافعاتهم وصلواتهم