(الصفحة 232)
تصنيف ، وهكذا فهرست الشيخ(قدس سره) .
فعدم تعرّضه لبعض من الرواة باعتبار عدم كونه مصنّفاً لا يدلّ على عدم كونه ثقة عنده ، كما يظهر من بعض المتأخّرين في مشتركاته(1) ، حيث اعتمد في عدم وثاقة الراوي على مجرّد عدم كونه مذكوراً في تلك الكتب ، مع أنّ الظاهر أنّه يمكن استكشاف وثاقة الراوي من تلاميذه الذين أخذوا الحديث عنه ، فإذا كان الآخذ مثل الشيخ أو المفيد أو الصدوق أو غيرهم من الأعلام خصوصاً مع كثرة الرواية عنه لا يبقى ارتياب في وثاقته أصلا .
وحينئذ ينقدح صحة ما أفاده العلاّمة الطباطبائي من الحكم بصحّة هذه الرواية وإن كان أحمد بن محمد بن يحيى الواقع في ابتداء سند الرواية لم يقع عنه في تلك الكتب ذكر ولا تعرّض ، لأنّ وثاقته تستفاد من رواية الصدوق والشيخ عنه خصوصاً مع كثرة رواياته ، حيث إنّه كان رواية كتب أبيه بإجازة منه ، وإن لم يكن له كتاب ، ولأجله لم يذكر في شيء من تلك الكتب ، فالإنصاف أنّه لا مجال للمناقشة في مثل هذا السند أصلا ، فافهم واغتنم .
المقام الثاني:
في دلالة الرواية ، ونقول: الظاهر أنّ السؤال فيها إنّما هو عن حقيقة العدالة وما هو المراد منها في لسان الشرع ، وإن كان ظاهر عبارته يعطي أنّ السؤال إنّما هو عن الأمارة المعرّفة لها بعد العلم بحقيقتها ، وأنّها هي الملكة النفسانية الكذائية .
وذلك لأنّ لفظ العدالة وكذا الفسق وإن كان مستعملا كثيراً في صدر الإسلام وفي عصر نزول القرآن بل قبله ، وقد عرفت الآيات التي استعملت فيها هذه اللفظة وما يقابلها(2) ، وكان اعتبار العدالة في الشاهد معروفاً بين المسلمين من ذلك العصر
- (1) تنقيح المقال 1: 95 .
- (2) الطلاق : 2 ; الحجرات : 7 ; البقرة: 282 ; المائدة : 106 .
(الصفحة 233)
إلى عصر صدور الرواية الذي هو النصف الأول من القرن الثاني .
إلاّ أنّه حيث كانت حقيقتها وما يراد من مفهومها مورداً لاختلاف المراجع للمسلمين في ذلك الزمان في الفتوى وغيرها كأبي حنيفة وغيره ، حيث حكي عن الأول أنّه فسّرها بمجرّد ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وعن غيره تفسيرها بالاجتناب عن الاُمور التي تعلّق النهي بها تحريماً أو تنزيهاً ، وارتكاب الطاعات كذلك واجبة أو مستحبّة(1) ، أراد السائل ـ وهو ابن أبي يعفور ـ الاستفهام عمّا هو المراد منها عند أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ، وليس مرادنا من ذلك أنّ سؤاله إنّما هو عن المعرّف المنطقي حتّى يكون قوله: «بِمَ تعرف» بصيغة المجهول من باب التفعيل ، بل سؤاله إنّما هو عن مجرّد ما اُريد منها في لسان الأئمّة(عليهم السلام) .
ودعوى أنّ ظاهر السؤال إنّما هو السؤال عن الأمارة المعرّفة للعدالة بعد العلم بمفهومها ، بمعنى أنّ السائل لمّا رأى أنّ العدالة هي الملكة النفسانية الكذائية ، ورأى أنّ احراز تلك الملكة مشكل جدّاً مع كثرة الأحكام المترتّبة على عدالة الرجل ، حدس من ذلك أنّ الشارع جعل لها أمارة لئلاّ يلزم تعطيل تلك الأحكام مع كثرتها ، فسئل عن تلك الأمارة المعرّفة ، ...
في غاية البعد ، بل الظاهر ما ذكرنا ، ولا ينافيه قوله(عليه السلام) في الجواب: «أن تعرفوه بالستر والعفاف . . .» ، نظراً إلى أنّ المعرفة طريق للعدالة لا نفسها ، وذلك لأنّ المعرفة المأخوذة في الجواب إنّما أخذت لأجل تعريف أصل العدالة وإفادة حقيقتها .
وبالجملة:
فالتأمّل يقضي بكون مورد السؤال إنّما هو نفس العدالة لا الأمارة المعرّفة لها .
- (1) بداية المجتهد 4: 308.
(الصفحة 234)
ثمّ إنّه ذكر بعض الأعاظم من المعاصرين في كتابه ـ الصلاة ـ في معنى هذه الرواية وتحقيق مورد السؤال فيها كلاماً ، محصّله: إنّ الظاهر من الرواية بيان معرفة العدالة في الخارج لا بيان مفهومها ، وظاهر السؤال عن طريق تشخيص العدالة أن يكون مفهومها معلوماً معيّناً عند السائل ، لأنّها عرفاً هي الاستقامة والاستواء ، وإذا أطلق الشارع فلايشكّ في أنّ مراده هو الاستقامة في جادّة الشرع الناشئة من الحالة النفسانية ، وهي التديّن الباعث له على ملازمة التقوى .
وحيث لم يكن لهذا المعنى أثر خاصّ وكاشف قطعيّ ، ألجأ السائل إلى أن يسأل طريقه عن الإمام(عليه السلام) ، وهذا بخلاف سائر الملكات ، كالشجاعة والسخاوة وأمثال ذلك ، فإنّها تستكشف قطعاً عند وجود آثارها الخاصّة ، فعرّفه الإمام(عليه السلام)الطريق إلى تشخيصها وأجابه بالستر والعفاف . . . ، وهذه العناوين المذكورة في الجواب وإن كانت مشتملة على الملكة ، ولكن لا تدلّ على الملكة الخاصّة ـ التي هي التديّن والخوف من عقوبة الله، جلّت عظمته ـ التي هي عبارة عن العدالة ، فلا ينافي جعلها طريقاً تعبّدياً إلى ثبوت العدالة .
ثمّ إنّه حيث تحتاج معرفة الشخص بالستر والعفاف، وأنّه تارك للقبائح على وجه الاطلاق إلى معاشرة تامّة في جميع الحالات ، وهذه ممّا لا يتّفق لغالب الناس ، فجعل الشارع لذلك دليلا وطريقاً آخر ، وهو كونه ساتراً لعيوبه في الملأ وبين أظهر الناس ، وطريقاً ثالثاً نافعاً لمن ليس له معاشرة مع شخص مطلقاً إلاّ في أوقات حضور الصلاة مع الجماعة . فمن حضر جماعة المسلمين يحكم بعدالته ، وأنّه لا يرتكب القبائح الشرعيّة مع الجهل بأحوال ذلك الشخص ، بل يكون لحضوره في صلاة الجماعة ثلاث فوائد:
الاُولى:
إنّ ترك الجماعة مع المسلمين بدون علّة بحيث يعدّ إعراضاً عنها من أعظم العيوب ، فمن تركها كذلك فليس ساتراً لعيوبه بل هو مظهر لها .
(الصفحة 235)
الثانية:
إنّ من لم يحضر الجماعة لا دليل لنا على أنّه يصلّي .
الثالثة:
إنّ حضوره للجماعة دليل شرعاً على كونه تاركاً لما نهى الله عنه وعاملا بكلّ ما أمر الله تعالى به ، وقد أشار إلى كلّ واحد من هذه الفوائد الصحيحة المتقدّمة فتدبّر فيها(1) ، انتهى .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ جعل الأمارة المعرّفة للعدالة وبيانها للسائل ، مع جعل أمارة لتلك الأمارة ومعرِّفاً لذلك المعرّف كما بيّنه(قدس سره) بعيد جدّاً ، لعدم الاحتياج إلى جعل الأمارة المعرِّفة حينئذ أصلا ، وإلى أنّ مجرّد الحضور لجماعة المسلمين لا ينافي عدم كونه ساتراً لعيوبه ، فلا معنى لجعله طريقاً في قبال الستر للعيوب ، خصوصاً مع كون ظاهر الرواية هو كون الستر للعيوب والحضور لجماعة المسلمين معاً طريقاً ودليلا ، لا كلّ واحد من الأمرين ـ أنّ كلّ ذلك خلاف ظاهر الرواية ، فإنّك عرفت أنّه حيث كان تفسير العدالة وتعريفها مورداً لاختلاف المسلمين في ذلك العصر ، أراد السائل أن يسأل عمّا يراد منها عند أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، والجواب لا ينطبق إلاّ على ذلك كما سنبيّن . هذا كلّه فيما يتعلّق بالسؤال .
وأمّا الجواب ، فقوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» ، معناه أن يكون الرجل معروفاً عند المسلمين ، بحيث يعرفونه أو تعرفونه أنتم بالستر الذي هو الحياء ، وبالعفاف الذي هو الحياء أيضاً .
قال في لسان العرب: الستر ، ـ بالكسر ـ : الحياء ، والحجر العقل . وقال في لغة «عف»: العفّة: الكفّ عمّا لا يحلّ ويجمل . عفّ عن المحارم والأطماع الدنية ، يعفّ عفة وعفا وعفافاً «بفتح العين» ، وعفافة فهو عفيف وعفّ أي كفّ وتعفّف . . .(2) .
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 517 ـ 518 .
- (2) لسان العرب 6: 169 وج9 : 290 .
(الصفحة 236)
وبالجملة:
أن يكون الرجل معروفاً بالكفّ عمّا لا يجمل له بالحياء المانع عن ارتكابه ، وأن يكون معروفاً بكفّ البطن والفرج ، واليد واللسان، عمّا لا يليق بها ولا يجمل لها . ومنشأ هذا الكفّ هو الستر والحياء ، لأنّه معه يتعسّر من الشخص صدور ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف .
فهذه الجملة تدلّ على اعتبار المروءة في العدالة، كما هو المشهور بين المتأخّرين(1) ، لأنّها ليست إلاّ عبارة عن ترك ما لا يليق بحال الشخص عادة .
وقوله: «يُعْرَف . . .» ، الظاهر أنّ فعل المضارع منصوب معطوف على قوله: «تعرفوه» المنصوب بكلمة «أن» الناصبة ، فمعناه حينئذ أن يكون الرجل معروفاً أيضاً باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، من شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك .
فعليه يكون كلّ من الجملتين الاُولى والثانية بعض المعرّف للعدالة ، لأنّ الجملة الاُولى تدلّ على اعتبار المروءة ، والثانية على اعتبار اجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، وليست الجملة الاُولى تمام المعرّف للعدالة ، والجملة الثانية دليلا على المعرّف ، لأنّه مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة كما لا يخفى ، وإلى عدم الفرق بين المعرّف والدليل عليه حينئذ أصلا ، يلزم أن لا يكون الدليل دليلا على تمام المعرّف ، لأنّه حينئذ لابدّ من حمل المعرف على الأعم من الأعمال غير اللائقة بحاله عرفاً ، بحيث يشمل غير الجائزة شرعاً أيضاً ، مع أنّ الدليل والطريق ينحصر بخصوص الثانية .
ودعوى أنّ العطف على الجملة الاُولى يلزم منه الاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه ، من جهة أنّ المعطوف عليه هو معرفة المسلمين للرجل والمعطوف