(الصفحة 236)
وبالجملة:
أن يكون الرجل معروفاً بالكفّ عمّا لا يجمل له بالحياء المانع عن ارتكابه ، وأن يكون معروفاً بكفّ البطن والفرج ، واليد واللسان، عمّا لا يليق بها ولا يجمل لها . ومنشأ هذا الكفّ هو الستر والحياء ، لأنّه معه يتعسّر من الشخص صدور ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف .
فهذه الجملة تدلّ على اعتبار المروءة في العدالة، كما هو المشهور بين المتأخّرين(1) ، لأنّها ليست إلاّ عبارة عن ترك ما لا يليق بحال الشخص عادة .
وقوله: «يُعْرَف . . .» ، الظاهر أنّ فعل المضارع منصوب معطوف على قوله: «تعرفوه» المنصوب بكلمة «أن» الناصبة ، فمعناه حينئذ أن يكون الرجل معروفاً أيضاً باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، من شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك .
فعليه يكون كلّ من الجملتين الاُولى والثانية بعض المعرّف للعدالة ، لأنّ الجملة الاُولى تدلّ على اعتبار المروءة ، والثانية على اعتبار اجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، وليست الجملة الاُولى تمام المعرّف للعدالة ، والجملة الثانية دليلا على المعرّف ، لأنّه مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة كما لا يخفى ، وإلى عدم الفرق بين المعرّف والدليل عليه حينئذ أصلا ، يلزم أن لا يكون الدليل دليلا على تمام المعرّف ، لأنّه حينئذ لابدّ من حمل المعرف على الأعم من الأعمال غير اللائقة بحاله عرفاً ، بحيث يشمل غير الجائزة شرعاً أيضاً ، مع أنّ الدليل والطريق ينحصر بخصوص الثانية .
ودعوى أنّ العطف على الجملة الاُولى يلزم منه الاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه ، من جهة أنّ المعطوف عليه هو معرفة المسلمين للرجل والمعطوف
(الصفحة 237)
هو معروفيّة الرجل عندهم .
مدفوعة بأنّه لا مانع من ذلك ، بل وقع نظيره في الكتاب العزيز في قوله تعالى:
{ولايحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}(1) ، حيث أنّه نسب الخوف أوّلا إلى الزوجين ثمّ إلى أهلهما ، وليس ذلك إلاّ لأجل كون مجرّد المعرضيّة كافياً في صحة النسبة كما لا يخفى .
وبالجملة:
فالظاهر أنّ هذه الجملة جزء أخير من معرّف العدالة، ومعطوفة على الجملة الاُولى ، وحيث إنّ مقتضى هاتين الجملتين المعرّفتين للعدالة اعتبار كون الشخص واجداً لملكة المروءة ، وكذا ملكة الإجتناب عن المعاصي ، وظاهره اعتبار إحراز ذلك في مقام ترتيب الآثار المترتّبة على العدالة .
ومن الواضح أنّ إحرازه بالعلم مشكل جدّاً ، فلذا نصب له طريق ودليل بيّنه الإمام(عليه السلام)بقوله: «والدلالة على ذلك كلّه . . .» ، ومعناه أنّ الدليل على مجموع ما جعلناه معرّفاً للعدالة من الجزء الذي هو مدلول الجملة الاُولى ، والجزء الآخر الذي هو مدلول الجملة الثانية ، أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه على تقدير وجودها أعمّ من العيوب المنافية للمروءة وغير الجائزة شرعاً .
وثمرة سترها أنّه معه يحرم على المسلمين تفحّص ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، وتفتيش خلف الساتر ، بل يجب عليهم حينئذ تزكيته وإظهار عدالته في الناس مع سؤالهم عن حاله .
وحيث إنّ المعاصي على قسمين: وجودية : وهو ارتكاب شيء من المحرّمات . وعدمية: وهوترك شيء من الواجبات. والمعاصي الوجودية على تقديرتحقّقها تحتاج
(الصفحة 238)
إلى الستر الذي به يرائى عدم تحقّقها ، لأنّه يحرم على المسلمين التفتيش والتفحّص .
وأمّا المعاصي العدمية فيكفي في تحقّقها مجرّد الترك وعدم صدور الفعل ، فلا محالة يحتاج في إراءة خلافها إلى إيجاد الفعل ، فلذا جعل الدليل على خلافها التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة .
وتخصيص الصلوات الخمس من بين الواجبات إنّما هو باعتبار كون ما عداها منها ، إمّا أن لا يكون وجوبه مطلقاً لاشتراطه بالاستطاعة المالية أو البدنية أو كلتيهما ، وإمّا أن لا يقدر الشخص على مخالفته باعتبار إجبار الحاكم إيّاه عليه ، كالزكاة ونحوها ، وما عدا ما ذكر ينحصر في الصلوات الخمس ، فلذا جعل التعاهد عليها دليلا على العدالة .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ العدالة على ما تستفاد من الرواية ليست إلاّ الملكة ، لأنّ الستر والعفاف من الأوصاف النفسانية والفضائل الباطنية المانعة عن ارتكاب ما لا يجمل لواجدها ، فالمعتبر هو ملكة المروءة التي يتعسّر معها الاقتحام في خلافها وارتكاب شيء من القبائح العرفيّة غير اللائقة بحاله ، لأنّ صفة الحياء والعفّة تمنع عن ذلك .
وامّا الاجتناب عن الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، الذي هو من تتمّة المعرّف للعدالة ، فهو وإن لم يكن المذكور في الرواية اعتبار ملكته ، إلاّ أنّ ذكر الستر والعفاف يصير قرينة على أنّ المراد به هو ملكة الاجتناب أيضاً . فالعدالة حينئذ ملكة نفسانية وهيئة راسخة في النفس تمنع لأجل الحياء عن ارتكاب القبائح العرفية ، ولأجل الخوف عن ارتكاب القبائح الشرعية .
نعم، قد عرفت أنّ إحراز وجود هذه الحالة بالعلم في غاية الإشكال ، مع أنّا نرى كثرة الأحكام المترتّبة على العدالة وابتلاء الناس بها في مرافعاتهم وصلواتهم
(الصفحة 239)
جماعة وغيرهما ، ولأجله جعل الشارع له أمارة وطريقاً شرعياً ربّما يرجع إلى حسن الظاهر .
وهذا الطريق مركّب من أمرين:
1 ـ
كون الرجل ساتراً لعيوبه حتّى لا يطّلع غيره من المسلمين على المعاصي الوجوديّة والقبائح العرفيّة الصادرة منه ، بل كان طريق اطلاعهم منحصراً بالتفتيش والتفحّص عمّا وراء الساتر وهو محرّم عليهم .
2 ـ
كونه متعاهداً للصلوات الخمس ، ومعنى تعاهده لها إمّا الالتزام بالحضور في جماعات المسلمين حتّى يصلّي معهم جماعة لأجل مدخليتها في قبول الصلاة ، كما يستفاد من ذيل الرواية الدالّة على أنّه «لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين» ، بعد حملها على نفي القبول لا نفي الصحّة ، وإمّا كون حضوره فيها دليلا على أنّه لا يتحقّق منه ترك الصلاة ، لا لأجل مدخلية الجماعة في قبولها ، فالملاك هو نفس الإتيان بالصلاة لا الإتيان بها جماعة .
وممّا ذكرنا ينقدح أنّه لا يرد على الرواية شيء ممّا تخيّل وروده عليها ، بل الرواية تنطبق ظاهراً على المعنى المعروف للعدالة بين المحقّقين من المتأخّرين كالفاضلين والشهيدين وغيرهما(1) .
روايات أخرى حول العدالة
إنّ هنا روايات اُخر كثيرة اُورد أكثرها في الوسائل في كتاب الشهادات ، وجملة منها في أبواب صلاة الجماعة من كتاب الصلاة .
(الصفحة 240)
فمن جملة ما أوردها في كتاب الشهادات ، مرسلة يونس عن أبي عبدالله(عليه السلام)الدالّة على أنّه إذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته ولا يسئل عن باطنه(1) ، والمراد بكونه مأموناً يحتمل أن يكون هو المأمونية في مقام أداء الشهادة ، بأن كان مأموناً عن الكذب فيها ، ويحتمل أن يكون هو المأمونية المطلقة بأن كان مأموناً ظاهراً عن ارتكاب المعاصي مطلقاً .
ومنها:
رواية عبدالله بن المغيرة الواردة في إشهاد شاهدين ناصبيّين في باب الطلاق الدالّة على أنّ كلّ من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته(2) ، والظاهر أنّ المراد به جواز شهادة كلّ من ولد على الفطرة ولم يعلم خروجه عنها بحيث كان مقتضى الاستصحاب بقاؤه عليها ، وكان معروفاً أيضاً بالصلاح في نفسه أي في مذهبه وعليه . فيستفاد من الرواية الجواز في مورد السؤال مع معروفيته في نفسه .
ومنها:
رواية علاء بن سيّابة الواردة في حكم شهادة من يلعب بالحمام الدالّة على نفي البأس إذا كان لا يعرف بالفسق(3) . وظاهرها عدم كون اللعب بالحمام موجباً للفسق .
ومنها:
رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر(عليه السلام) الدالّة على أنّ عليّاً(عليه السلام) قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلاّ على نفسه»(4) .
ومنها:
رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا
- (1) الفقيه 3: 9 ح29 ; الوسائل 27: 392 كتاب الشهادات ب41 ح3 .
- (2) الفقيه 3: 28 ح83 ; التهذيب 6 : 283 ح778 ; الإستبصار 3: 14 ح37; الوسائل 27: 393 كتاب الشهادات ب41 ح 5 .
- (3) الفقيه 3: 30 ح88; التهذيب6: 284 ح784; الوسائل27:394كتاب الشهاداتب41 ح6وص412ب54 ح1.
- (4) الفقيه 3: 30 ح91 ; الوسائل 27: 394 .كتاب الشهادات ب41 ح7 .