(الصفحة 279)
تكون متعرّضة لحكم استحبابيّ وهو استحباب تمامية الصفوف ، وتواصل بعضها إلى بعض ، وعدم كون الفصل بين الصفّين مقداراً لا يمكن طيّه بخطوة ، وقد قدّر ذلك في الرواية بمسقط جسد الإنسان أي في حال الصلاة الذي ينطبق على حال السجود ، فالتقييد بقوله: «إذا سجد» في رواية الفقيه لأجل التوضيح لا للإحتراز .
وبالجملة:
فلا إشكال في استحباب هذا الحكم ، لقيام الضرورة وتحقق السيرة من المتشرّعة على جواز كون الفصل أزيد من هذا المقدار ، مضافاً إلى أنّ كلمة «لاينبغي» أيضاً ظاهرة في الاستحباب .
وأمّا قول أبي جعفر(عليه السلام) : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى . . .» ، المذكور في صدر الرواية على ما في الكافي ، وفي الأثناء على ما في الفقيه ، وإن لم يكن في العبارة إشعار بكون هذا القول صادراً من الإمام(عليه السلام) متّصلا بالجملة السابقة قبلها أو بعدها .
نعم، يمكن أن يستشعر ذلك من ذكره متّصلا بها في الكتابين كما لا يخفى ، فمفاده ظاهراً نفي تحقق الجماعة التي هي مقصود الإمام والمأمومين ، وتتقوّم بوحدة صلاتهم ، عند تحقق الفصل بين الإمام والمأمومين ، أو بين المأمومين بعضهم مع بعض بمقدار لا يمكن طيّه بخطوة .
ولابدّ من حمل هذه الجملة على كونها مسوقة لبيان تأكّد الاستحباب ، وشدّة رجحان عدم كون الفصل بذلك المقدار ، بناءً على كون المراد بما لا يتخطّى هو المسافة والمقدار المسطح أو كالمسطح الذي لا يمكن طيّه بخطوة ، لأجل طولها كما هو الظاهر ، ويدلّ عليه ذكر كلمة «القدر» في الكافي، ولما عرفت من دلالة كلمة «ينبغي» على الاستحباب، فضلا عن الإجماع والسيرة المستمرّة بين المتشرعة .
نعم ربّما يحتمل في معنى ما لا يتخطّى أنّ المراد منه مقدار العلوّ بمعنى وجود الحائل بين الإمام والمأمومين أو بين المأمومين بعضهم مع بعض ، وذلك لأنّ الحائل
(الصفحة 280)
أيضاً لا يمكن طيّه بخطوة ، بل يحتاج إلى خطوة لأجل الصعود عليه وخطوة اُخرى لأجل النزول عنه ، ويستشهد لذلك بتفريع قوله(عليه السلام): «فإن كان بينهم سترة أو جدار . . .» ، ضرورة أنّ هذا التفريع لا يناسب مع حمل ما لا يتخطّى على ما ذكرنا من المعنى الأول كما لا يخفى .
هذا ، ولكنّه يورد عليه مضافاً إلى بعد هذا الحمل في نفسه أنّ المذكور في الفقيه وكذافي محكيّ بعض نسخ الكافي «الواو» بدل «الفاء» وعليه لا يبقى مجال لهذا الحمل .
وحكي عن بعض القدماء أنّه حمل ما لا يتخطّى على ما إذا كان بينهم فصل طويل بحيث لا يمكن طيّه بالخطوة، لا بخطوة واحدة بل ولو بخطوات(1) . وحكي عن ابن زهرة في الغنية أنّه قال: ولا يجوز أن يكون بين الإمام والمأمومين ولا بين الصفّين ما لا يتخطّى مثله من مسافة أو بناء أو نهر ، بدليل الإجماع(2) . ويبعّده كلمة «قدر» المذكور في الكافي .
وكيف كان، فيمكن حمل ما لا يتخطّى على الأعمّ من المسافة ومن وجود الحائل بحيث كان عدم إمكان طيّ الفصل بخطوة ، إمّا لأجل المسافة أو لأجل وجود الحائل، نظراً إلى التفريع المذكور ، وهو قوله(عليه السلام): «فإن كان بينهما سترة أو جدار . . .» .
واحتمل بعض الأعاظم من المعاصرين أن يكون المراد بما لا يتخطّى هو الفصل بهذا المقدار في جميع حالات الصلاة التي منها حال السجود ، وباعتباره حكم بنفي الصلاة ، وحاصله يرجع إلى أنّه لو كان الفصل بين مسجد المأموم
- (1) المبسوط 1 : 156 ، الخلاف 1 : 559 مسألة 308 .
- (2) الغنية : 88 ـ 89 ; مفتاح الكرامة 3 : 422 .
(الصفحة 281)
وموقف الإمام أو المأموم المتقدّم ذلك المقدار تكون صلاته باطلة(1) .
وفيه: أنّ هذا الاحتمال مستبعد جدّاً ، خصوصاً بعد كون الملحوظ من حالات الصلاة ، والعمدة منها هي حال القيام ، ويؤيّده قوله تعالى:
{وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ}(2)وقوله تعالى في صلاة الخوف:
{فَلتَقُم طَائِفَةٌ مِنهُم مَعَكَ}(3) ، فاعتبار حال السجود مع عدم قرينة في الكلام في غاية البعد .
وكيف كان، فالظاهر أنّ المناط في اعتبار عدم كون الفصل بالغاً إلى ذلك المقدار في الصحّة أو الكمال هو اعتبار وحدة صلاة الجماعة، وكون صلاتهم صلاة واحدة ، وحيث يكون وجود الحائل من جدار أو سترة يمنع عن تحقق هذا المناط أيضاً ، فبهذا الاعتبار يمكن تصحيح التفريع ، وإن كان المراد بما لا يتخطّى هو المسافة فقط .
وبالجملة:
فالذي يستفاد من قوله(عليه السلام) : «فإن كان بينهما سترة أو جدار . . .» ، إنّ وجود شيء من السترة أو الجدار يخلّ بتحقّق مطلوبهم وهو وقوع الصلاة جماعة ، ويقع الكلام حينئذ في أنّ مانعيّتهما هل تكون لأجل كونهما مانعين عن المشاهدة ، أو لأجل كونهما مانعين عن تحقق الوحدة التي بها تتقوّم صلاة الجماعة؟ ويترتّب على ذلك أنّه لو كان بينهم جدار من زجاج أو كان بينهم الشبابيك يكون ذلك مانعاً عن تحقق الجماعة بناءً على الثاني دون الأول ، وسيأتي الكلام فيه عن قريب .
وكيف كان، فقد حكم في الرواية بنفي الصلاة لهم إذا كان بينهم سترة أو جدار ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين ما لو كانت السترة أو الجدار بين الإمام
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 476 .
- (2) البقرة: 238 .
- (3) النساء: 102 .
(الصفحة 282)
والمأمومين ، أو بين الصفوف بعضها مع بعض ، أو بين أفراد المأمومين بعضهم مع بعض ، وقد استثنى فيها من ذلك من كان حيال الباب ، أو من كان بحيال الباب ، أو ما كان حيال الباب على اختلاف الكافي والفقيه وكذا نُسخهما .
والظاهر أنّ المراد بحيال الباب هو حذاؤه ومقابله ، ولكن مع ذلك يكون المراد من المستثنى مجملا ، وليس في كلام أحد من القدماء على ما تتبّعنا التعرّض لذلك والإشارة إليه .
نعم، ذكر الشيخ في المبسوط ما يظهر منه أنه كان بصدد بيان هذه الرواية وتفسير الاستثناء منها . حيث قال: الحائط وما يجري مجراه ممّا يمنع من مشاهدة الصفوف يمنع من صحة الصلاة والاقتداء بالامام ، وكذلك الشبابيك والمقاصير يمنع من الاقتداء بإمام الصلاة إلاّ إذا كانت مخرمة لا يمنع من مشاهدة الصفوف . الصلاة في السفينة جماعة جائزة ، وكذلك فرادى . ثمّ بيّن أقسام الصلاة في السفينة جماعة .
ثمّ قال: إذا كانت دار بجنب المسجد كان من يصلّي فيها لا يخلو من أن يشاهد من في المسجد والصفوف أو لا يشاهد ، فإن شاهد من هو داخل المسجد صحّت صلاته ، وإن لم يشاهد غير أنه اتّصلت الصفوف من داخل المسجد إلى خارج المسجد واتّصلت به صحّت صلاته أيضاً وإلاّ لم تصحّ ، وإن كان باب الدار بحذاء باب المسجد وباب المسجد عن يمينه أو عن يساره ، واتّصلت الصفوف من المسجد إلى داره صحّت صلاتهم .
فإن كان قدّام هذا الصفّ في داره صفّ لم تصحّ صلاة من كان قدّامه ، ومن صلّى خلفهم صحّت صلاتهم ، سواء كان على الأرض أو في غرفة منها ، لأنّهم مشاهدون الصفّ المتّصل بالإمام ، والصفّ الذي قدّامه لا يشاهدون الصفّ المتّصل بالإمام(1) ، انتهى .
(الصفحة 283)
وهذه العبارة كما ترى صريحة في أنّ المراد بالباب هو باب المسجد الذي كان عن يمينه أو عن يساره ، والمراد بحياله هو الصفّ الخارج عن المسجد المتّصل بالصفّ الواقع فيه ، سواء كان مشاهداً لمن هو داخل المسجد أو لم يكن مشاهداً ولكن كانت الصفوف بأجمعها متّصلة ، فلو لم يكن الصفّ الخارج مشاهداً ولا متّصلا كالصفّ الواقع قدّام الصفّ الطويل الواقع بعضه في المسجد وبعضه في خارجه ، لا تصحّ صلاة أهل ذلك الصفّ الواقع في خارجه أصلا .
هذا ، ولكن حكي عن الوحيد البهبهاني(قدس سره) أنّه صرّح بأنّه إن كانت السترة والجدار مستوعباً لما بين الصفّين فصلاة كلّ من الصفّ المتأخّر باطلة ، وإن لم يكن مستوعباً تصحّ صلاة خصوص من كان محاذياً للباب(1) . ومقتضاه بطلان صلاة من يصلّي إلى جانبي المأمومين المشاهدين الواقعين حيال الباب ، وقد نسب ذلك إلى النصّ وكلام الأصحاب .
واستظهر بعض الأعاظم من المعاصرين ـ بعد نقل ما صرح به الوحيد البهبهاني ـ أن قوله مطابق للنص وقال: الإنصاف أنّ النصّ ظاهر فيما أفتى به . وإن عدل عنه بعد ذلك وقال: التأمّل يقتضي صحة صلاة الواقفين إلى جانبي من يصلّي وهو يشاهد الصفّ المقدم أو الإمام وقد بيّن ذلك بكلام طويل(2) .
وكيف كان، فحمل الرواية على ما ذكره الوحيد يوجب الحكم باختصاص صحة صلاة من يصلّي خلف الإمام الواقف في المحراب الداخل بخصوص عدّة من المأمومين الذين يشاهدون الإمام ، والحكم ببطلان صلاة غير من يشاهده من الصفّ الأول ، مع أنّه حكم في الروايات بكراهة القيام في المحراب الداخل ، ولم يقع
- (1) مصابيح الظلام 7 : 35 ـ 36 و 51 ـ 52 مفتاح 181 .
- (2) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 473 .